نقرأ في قصيدة «مرثية
الأشياء الصغيرة»، لوحة نوستالجية مكتملة العناصر، تقوم على تصوير حسّي غامر، يجعل
القارئ يشارك التجربة بكامل حواسه، فيشمّ الماضي، ويلمس دفئه، ويتذوّق طعمه، ويسمع
أصواته، ويراه بعين الروح والخيال. إنها قصيدة تتأرجح بين الدفء والألم، بين
الذكريات المضيئة والانطفاء القاسي، لتمثّل نصّاً عن هوية مهدّدة بالغياب، وعن
حياة كاملة تذوب في حنين وجرح جمعي لا ينطفئ. وفي هذا السياق تقول الشاعرة:
«أشتاقُ
إلى لغتي، إلى صَوتِ لقالقِها وأعشاشِ القصب،
إلى
وقفتها الأمّ، إلى بكرة طريقِها.
أشتاقُ
للفَراش الموشّى باللّيلكِ الجبلي،
لصبغة
التوتِ البرّي على أصابع الخُزامى،
لدجاجات
الحيِّ وبيضِها الدافئ
في
التبن المرتجفِ برعشة البيادر.
أشتاقُ
إلى نبتة عطرِ الليل؛
كي
أُشاكسَ حزني بقبضةٍ من زهرِها،
فينامُ
المساءُ في كفّي كطفلٍ وديع.
أشتاقُ
لخوفي وأنا أعدُّ النجومَ
كأنها
ستسقطُ على جسدي نمشاً.
أريدُ
أن أعدَّها أكثرَ من عام…
أريدُ
أن أكونَ سماءَها، أرضَها، ملاذَها.
أشتاقُ
للصوف حينَ كانَتْ أمّي تُشمِّسُه على السطح،
لعصا
الرمّان التي تنفضُه بها.
لرائحة
الشمسِ بينَ خيوطِ قمصانِنا الصغيرةِ،
وحبالِ
الغسيلِ تتراقصُ عليها حماماتٌ
تُذَكِّرنا
بلآلئ الصيف.
أشتاقُ
إلى مدفأة الحطبِ في بيت جدّتي،
إلى
صفير الإبريقِ فوقَها،
إلى
“الزوفة” وهي تُغرغِرُ كحجلةٍ في الماء.
أشتاقُ
لمفاتيح أبي حين ترنُّ من وراءِ البابِ،
للهفةٍ
مختبئةٍ في علب الراحةِ والبسكويت،
لأصابعِنا
المغموسةِ بقطر التلاج
وطَعمِ
الطفولة.
أشتاقُ
لشتاء كانونَ،
لأحاديث
البناتِ ووشوشاتهم الخجولة،
لأواني
الألمنيومِ وحلّةِ القمحِ وخزانةِ المؤونة،
للبلاط
المعرّق
ولنوافذَ
تأبى أن تنغلقَ بوجه الضوء.
أشتاقُ
لجزءٍ منّي،
لكُلّي،
للحياة
التي خُلِقَتْ لتكوني كسورية…
وانطفأتْ».
يشكّل الحنين ظاهرة
مركزية في الأدب المعاصر، إذ لم يعد مجرّد انفعال عاطفي أو حركـة وجدانية فردية،
بل تحوّل إلى آلية نصّية تكشف عن أبعاد وجودية واجتماعية عميقة. في ظلّ التحوّلات
الكبرى التي عرفها العالم العربي من حروب وتصدّعات، غدا الحنين وسيلة للتعبير عن
الفقد والاغتراب، وعن محاولة الإمساك بما تبقّى من الذات والجماعة، عبر استعادة
الصور الأولى للبيت والطفولة والذاكرة.
تأتي قصيدة «مرثية الأشياء الصغيرة»، للشاعرة السورية، أحلام عثمان، نموذجاً دالاًّ لهذه الظاهرة؛
فهي تنتمي إلى «أدب الحنين»، أحد أبرز الملامح في الكتابة الشعرية المعاصرة، لا
سيما لدى المبدعين الذين عاشوا تجربة المنفى أو التهجير القسري. وتقدّم القصيدة نصّاً
نثرياً، يعتمد على الذاكرة الفردية كمنطلق، لكنه يتجاوزها نحو صورة جماعية أوسع،
تجعل من تفاصيل البيت والأمكنة البسيطة مرآة تعكس مصير وطن بأكمله.
في هذا النصّ، تستعيد
الشاعرة تفاصيل الطفولة: «مدفأة الحطب، صفير الإبريق، رائحة الغسيل المشمّس، ألعاب
البنات، أصوات الدجاج والبيادر». غير أن هذه التفاصيل لا تُستحضر بوصفها مجرّد
ذكريات، بل تتحوّل إلى رموز للانتماء والهوية، في مقابل حاضر منطفئ تغيب فيه
الطمأنينة والاستقرار الفكري. هكذا تنجح الشاعرة في تحويل ما يبدو «أشياء صغيرة»
إلى أعمدة كبرى للذاكرة والوجود.
تكرّر الشاعرة أحلام
عثمان فعل «أشتاق»، بوصفه ركيزة إيقاعية، تولّد نغمة متواصلة، وتؤكّد على مركزية
الحنين كفعل وجودي. تتكثّف اللغة بالحواس الخمس: «الرائحة، الصوت، الملمس، الطعم،
والمشهد البصري»، لتجعل التجربة الشعرية أقرب إلى استعادة حسّية شاملة للذاكرة.
فالبيت، بتفاصيله الدقيقة مثل «مدفأة الحطب» و«مفاتيح الأب» و«صفير الإبريق»،
يتحوّل إلى رمز لدفء الحياة اليومية المفقودة. فيما يعبّر حضور الأمّ والجدّة وصور
الطفولة عن انتماء أوّلي، يحنّ النصّ إلى عودته. كما أن تركيز الشاعرة على عالم
النساء – الأمّ، الجدّة، البنات، تفاصيل المطبخ والبيت – يوحي بأن الحنين هنا لا
يتوجّه إلى الوطن فحسب، بل أيضاً إلى «الرحم الأوّل» ودفء الأنثى الحاضن. ومع
عبارة «أشتاق إلى لغتي» ينكشف شعور عميق بالاغتراب حتى داخل الأداة التعبيرية
ذاتها، أما فعل «وانطفأت» فيشكّل لحظة انكسار حادّ، تتحوّل فيها جميع الذكريات إلى
مرثية للحاضر الغائب.
القصيدة، في أفقها
النفسي والجسدي، تتجاوز حدود التجربة الفردية، لتعبّر عن وجع سوري جمعي. فالبيت،
والطفولة، والوطن، تتحوّل جميعها إلى رموز لهوية مهدّدة بالغياب والتلاشي. هنا لا
يبدو الحنين مجرّد استرجاعٍ للماضي، بل فعل مقاومة ضدّ الانطفاء، إذ يُعاد تشكيل
الذاكرة في صورة شعرية حيّة تحفظ ما يتهدّد بالاندثار. وبذلك يغدو النصّ نفسه فضاء
بديلاً للانتماء، يواجه الخراب بالخيال، ويؤسّس معنى جديداً للوجود.
تأخذنا أحلام عثمان في
قصيدتها، عبر مسار تصاعدي متدرّج: البداية تنفتح على اللغة بوصفها عتبة أولى، ثم
يتجسّد الوسط في تفاصيل البيت بما يحمله من دفء وتهديد في آن، لتبلغ الذروة في صور
الطفولة، التي تفيض بالرمز والحنين، قبل أن ينحدر النصّ نحو خاتمة منطفئة تترك أثر
العتمة. هذا البناء يجعل القصيدة أقرب إلى مشهد مسرحي يُسدل ستاره فجأة، تاركاً
القارئ أمام فراغ يضاعف وقع الغياب.
إن القصيدة غنية
بالصور الحسّية، التي تستدعي الحواس الخمس (رائحة الشمس، طعم الطفولة، صفير
الإبريق، ارتجاف التبن، البلاط المعرّق)، وهو ما يضفي عليها ملمساً واقعياً نابضاً
بالحياة. كما أن الإيقاع الداخلي يتجلّى في التكرار المتعمَّد لكلمة «أشتاق»، حيث
تولّد موسيقى خاصّة تعبّر عن إلحاح الشوق واستمراره. ومن خلال هذا المزج بين
الصورة الحسّية والإيقاع، يتجلّى الصدق العاطفي للشاعرة، ذلك الصدق الذي يجعل
القارئ يشعر بأن النصّ ليس مصنوعاً أو متكلّفاً، بل مكتوب بذاكرة حيّة ووجع صادق.
ما أرهقني كقارئ – من
زاوية ذوقية – هو طول النصّ؛ إذ بدا ممتدّاً أكثر مما يحتمل إيقاعه الداخلي العميق.
لو جرى توزيع الصور على مقاطع أقصر، أو حذف بعض التفاصيل المتشابهة، لكان الأثر
أكثر تركيزاً ووقعاً. كما أن معظم المقاطع تسير على النبرة ذاتها، رغم عمقها وقوّتها
(الحنين والاشتياق)، لكن النصّ كان سيكتسب توتّراً أعمق لو تضمّن انعطافة مفاجئة
في الإيقاع، أو صورة مناقضة (غضب، مفارقة، صرخة) تكسر النسق، وتفتح باباً لطبقة
شعورية أخرى.
أخيراً، تشكّل هذه
القصيدة النثرية رحلة في الذاكرة، لكنها ليست حنيناً بريئاً فحسب، بل فعل مقاومة
فلسفية ضدّ العدم والغياب. الاشتياق هنا ليس إلى أشياء خارجية فقط (مفاتيح الأب،
الصوف، الأواني، مفارش البيادر، نوافذ...)، بل إلى بنية الوجود نفسه، كما تجلّت في
لحظة صفاء أولى.
كلّ تفصيل تستدعيه
أحلام ليس مجرّد ذكرى، بل أصل أنطولوجي يحاول أن يعيد للذات انسجامها مع الماضي
الجميل، الذي من الصعب أن نعيشه مجدّداً. الحنين إذن هو بحث عن الأصل المفقود، عن
تلك اللحظة التي تتماهى فيها الروح مع اللغة، والجسد مع الطبيعة، والبيت مع الوطن.
غير أن هذا البحث ينتهي إلى إدراك مأساوي: كلّ ما كان حياة قد انطفأ، وسوريا
تتحوّل إلى مجاز للزوال. وهنا يظهر البعد الفلسفي العميق:
– الاشتياق ليس رغبة
في العودة، بل شهادة على الاستحالة.
– الماضي ليس ما مضى،
بل ما لا ينفكّ ينقصنا.
– اللغة نفسها، التي
تفتتح النصّ، تتحوّل إلى وطن بديل، حيث يظلّ الصوت والكتابة ملاذنا الأخير.
وبهذا المعنى، تضع
الشاعرة القارئ أمام مفارقة: كلّ تفصيل جميل هو في آن واحد حضور حيّ وجرح جمعي غائب.
حنين لا يعيد ما مضى، بل يرسّخ الوعي المأساوي بالزمن:
– أن نكون بشراً يعني
أن نشتاق.
– وأن نشتاق يعني أن
نعرف أن الأصل لن يعود.