-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

عن مصطفى تاج الدين الموسى والكوميديا السوداء

 

رفيف الشيخلي / العراق

 

حين تعرفت عليه في البداية، لم أكن أظن أني سأغبط معشوقته على كل ما يحمله لها من حب، وما هو مستعد لفعله لأجلها... بل وسأعتبرها محظوظة جداً بهذا العشق الجميل الذي لو انتشر بين بقية الناس، لتحولت بلداننا إلى جنة. إنه الحب، يصنع المعجزات. لكن العشق ليس دائماً بين شخصين. قد يكون بين النخل وتربته، السحابة والمطر، بين القمر والشمس، وبين رجل ووطنه، وهي الحالة التي أود التغزل بها.

 


أما الرجل، فهو كاتب سوري يعيش في تركيا منذ 2014م، هو مصطفى تاج الدين الموسى، صاحب المجموعات القصصية «ساعدونا على التخلص من الشعراء» و«قبو رطب لثلاثة رسامين» و«الخوف في منتصف حقل واسع» وغيرها، كما أن له نصوصاً مسرحية منها «الخادمة وعائلة الشعراء».

 

ما إن قرأت له قصة واحدة، حتى رأيت نفسي مسجونة داخل سرده بمحض إرادتي، فرُحت أنصت لبقية قصصه ومسرحياته وشخصياته بكل انتباه... إنه كاتب يعرف كيف يغري القارئ بحكاياته، رغم كل الحزن الشفاف الذي يتخلل سطورها وأحداثها. وربما بسبب ذلك، وبسبب الموت والألم والدمار والخيانة، وجدت نفسي أمام خيال واقعي أو واقع خيالي، مزيج غريب وجميل بينهما، لا أعلم، فلست ناقدة، كل ما أعرفه أنه أن مصطفى تاج صادق، يكتب بصدق حتى وهو يتخيل نفسه قناصاً يطل من سطح بناية، ليقتل أي شخص يتراءى له، صادق وكأن له القدرة العجيبة على تقمص شخصياته، صادق في إبداعاته إلى الدرجة التي تُمَكِن القارئ من معرفة تفاصيل كثيرة عنه من قصصه، هو الذي يحب نادي برشلونة، هو الخجول الذي يمضي وقته في القراءة والتدخين والمشاحنات الفكرية مع المعارف، هو ابن عائلة وبيئة ماركسية، المدخن الذي لا يحب الشعراء، ويسخر منهم دائماً بمناسبة ودون مناسبة، وحيداً ضدهم، وضد ثقافات متوارثة لا تناسب عصرنا وغير متصالحة مع طبيعة عصرنا، وكأن مصطفى تاج يتفق مع رأي أفلاطون أن الشعراء هم مجرد «بياعي كلام».

 

مصطفى تاج الدين يُشعرك بالذنب معه لأنه استطاع الفرار من سوريا، في حين مات من ساعدوه على ذلك، فراح يتخيل بندم أبطال دوستويفسكي وهم يرددون حوله: «ثلاثة مؤمنين بالله ينقذون شاباً غير مؤمن»، وفي القصة ذاتها يتساءل مع القارئ عن جدوى الإيمان بالله عندما لا يستطيع إنقاذ «أتباعه» من المجزرة، ودون الدخول في محاولة تحليل اختياره لأبطال دوستويفسكي المعروف عنهم معاناتهم من الصراعات والتداخل في المواقف، إلا أن قصة «تهريب أبطال دوستويفسكي» ذات المناخ الروائي تبقى المثال الأكمل أدبياً في فن القصة القصيرة على ما حدث ويحدث في سوريا.

 

حين قرأت لمصطفى تاج الدين، وجدت نفسي أمام قصص متنوعة في المواضيع، وطرق السرد. لكنها مترابطة فيما بينها، مترابطة من حيث السبب! ثمة خيطٌ يجمعها إلى بعضها، وكأنها فصول لرواية واحدة، لنفس البطل في البيئة ذاتها، قصص مصطفى تجعلك ترى بوضوح مآسي البشر في الحب والحياة وتسلط الانظمة وسوء الظروف الاقتصادية، وتدخل المجتمع بعاداته وتقاليده.

 

في كل ما سبق أعتقد أنها مشكلة واحدة كبرى، وليست مشاكل كثيرة صغيرة، يلخصها مصطفى تاج الدين في قصة قصيرة جداً بعنوان «المستشفى الأبدي»:

«اكتشفنا ــ نحنُ المرضى ــ أن هذا الطبيب ومنذ عشرين عاماً يعطينا أدوية غير مناسبة لأمراضنا، يفعل هذا لنبقى مرضى في هذا المستشفى القذر، حتى يبقى هو طبيباً، لأننا إن شُفينا، وانتهى مَرضُنا، لا لزوم له كطبيب، ومن الوارد أن يتحول إلى مُصلح دراجات هوائية في المنطقة الصناعية، وحتى يبقى طبيباً أجبرنا دون أن ننتبه أن نبقى مرضى. اكتشفنا مؤامرته علينا بعد عشرين عاماً من هذا المستشفى القذر».

 

مع قصص مصطفى تاج الدين نكتشف أننا نعاني من كل شيء، من دكاترة مثل بطل القصة السابقة، ومن الدكتور فيصل في قصة «حكاية تمثال قديم»، وسوف يكون المسرح سبباً رئيسياً لأوجاع النهدين، وطبعاً سوف تأكل السمكة الكبيرة بعضاً من الأسماك الصغيرة. أما «المعطف» فسيمحي وجود صفاتنا الإنسانية... و«حارس السينما» سيدفع حياته ثمناً للدفاع عن الحب والفرح... حتى الجثث في الحرب السورية سوف تنقسم إلى كريمة وبخيلة بحسب قصة قاسية لمصطفى تاج.


هل يمكن العيش دون أخلاق؟ وكيف تكون أخلاق من ليسوا أحراراً؟ وما هي تركيبة المسؤول الأول عن سوء الوضع؟ هل يشعر بالذنب؟ هي أسئلة من عشرات الأسئلة التي راودتني وأنا أقرأ لمصطفى تاج الدين قصصه الساخرة بمرارة.

 

في قصة «ربطة عنق أخير لرقبة رجل نحيل» ينتحر الرجل النحيل بربط عنقه بعد تعليقها على غصن الشجرة... ترى هل الدكتور المسؤول عن المستشفى يمكن أن يفكر في الانتحار أيضاً؟! ألا يتشابهان؟! وأليس فعل الانتحار في حد ذاته فعلاً إنسانياً؟ فعل تأنيب، أو حزن أو لا جدوى، أو بمعنى أوضح، هل يمكن لمنعدمي الإحساس والضمير أن يفكروا بالانتحار، أم هو الحل الوحيد للخلاص؟

 

لم يكتفِ مصطفى تاج الدين بكتابة النصوص الأدبية من قصة ومسرح فقط، ليعبر عن مشاعره وأفكاره. إنما عمل في اسطنبول على فقرات تلفزيونية متنوعة، تتحدث عن سوريا وما آلت إليه الأوضاع بسبب النظام هناك. وحين انتقل إلى الريحانية، صار يعد برامج إذاعية، مثل برنامج «بقلم جاف» والذي يقوم فيه بتقديم رواية عالمية بشكل أدبي مختصر، ويستطيع أي متبع للبرنامج أن يرى بوضوح علاقة اختياراته للروايات، من رواية 1984م لجورج أورويل، إلى رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني وغيرهما، بحال سوريا، ومصطفى لا يكتفي بالتلميح، يصرُّ دائماً في كل ما يفعله على تأكيد موقف سياسي وموقف فكري، حتى في برنامجه الإذاعي الآخر، «الأدب السوري الجديد» والذي يعرفنا من خلاله على أدباء اضطروا للهجرة من سوريا، بسبب الأوضاع هناك، من نجيب كيالي، وزياد الأحمد، وميادة مصطفى الكيالي، ووفاء علوش، إلى آخرين ما يزالون في سوريا مثل: خالد خليفة وممدوح عزام وغيرهم، ثم يفاجئنا ببرنامج «حكايتي مع الثورة» وفيه نتعرف على جمال الثورة السورية في بدايتها، قبل أن يعبث بها الجميع ويشترك الجميع في تشويهها.

هل سيكتفي بما صنعه مصطفى تاج من قصص ومسرحيات وبرامج؟ طبعاً لا، بل يعتقد أن أفضل ما يمكن أن يفعله لم يفعله بعد.

 


مصطفى تاج الدين الموسى ساخر حقيقي ليس في أدبه فقط، وإنما في حياته اليومية، سخريته غالباً من نوع «الكوميديا السوداء» نصف ضحكة مع نصف دمعة، هكذا تبدو الحياة في هذا الأدب الذي جاء من شمال سوريا ذات يوم، وانتشر في العالم.

 

الاسمبريد إلكترونيرسالة