خديجة بلوش
تتلون ذاكرتي بنتف الثلج.
أقول لي: كيف ذلك و نحن نعيش في صحراء قاحلة؟.
أنسى، لكن ذاكرتي تلح وتذكُّري.
ذات فصل بارد والمطر يُغرق كل شيء وقدماك في بحر حزن بدأ يتكون مثلما تتكون تضاريس أنوثتك.
كنتِ أصغر من أن تَصلي إلى سقف حلم صغير زرعته في أصيص ملون ووضعته فوق طاولة المطبخ.
كنتِ أصغر حتى من أن تَصلي إلى الطاولة.
المياه كانت تتكسّر حول قدميك الصغيرتين، هل كنت تشعرين بالبرد؟
كان هذا عشقك السري، البرد الذي يتسلل إلى مساماتك وعيناك تبرقان بمتعة صامتة.
دخلتْ إلى معتكفك الصغير وبيدها باقة من ورود بيضاء، قالت بهمس: إنها لك.
سألتِها بخوف ممزوج بفرح عارم:
- ممّن؟
- من المعجب الغريب الأطوار.
- ليس غريباً جداً.
- من يكتب الرسائل لشخص لم يره من قبل فهو غريب الأطوار.
ضحكت في سرك كثيراً وأنت تتخيلينه يكتب لطيفٍ ضبابي ويحاول من خلال الرسائل أن يتبين ملامحه.
- كم عمرك؟
- بضعة فصول لا ثلج فيها ولا نار.
- سأفترض أنك وردة ما والورود لا عمر يحدد جمالها أو عطرها.
خرجتْ مسرعة قبل أن تلتقطها عينا حارستك، وتركتْكِ مع باقة الورد التي فاح عطرها وملأ المكان.
حارستك التي تترقّب كل حركاتك وتقيدها كلما أحسّت أنها قد تأخذك خارج حدود طفولتك.
كان يجب أن تبقي صغيرة ما استطعت، بريئة ما استطعت، بعيدة عن كل فضول الكون ما استطعت.
- ما هذه الرائحة؟ هل هو عطر؟ من أين لك به؟.
سمعت نبضاتك المتسارعة وقتها واختلطت أنفاسك بعبق الورد.
- إنها الأمطار يا حارستي.
- وهل للمطر رائحة؟
كنت مضطرة للكذب.
- نعم، إن المطر الذي يهطل على معتكفي برائحة الورد الأبيض.
المياه تتسرّب من السقف نزولاً إلى حيث تقفين وعرقٌ غزير يتصبّب من جسدك الصغير.
هو بعض الوجل والكثير من الدهشة.
- في كل رسالة سأكتب حرفاً من أحرف اسمك.
- في كل جواب سأرسم زهرة.
- أي الورود تعشقين؟
- أحب الأزهار البرية، الورود لا أعرف عنها الكثير.
- سأقطف لك وردة من حديقتي، تشبه قلبك.
كنت تحب الورود وربما تحبني قليلاً، وأنا كنت أحب رسائلك، وربما أحببتك أيضاً قليلاً.
كنت تشبه ذلك الفصل الذي لم أختبره قبْلاً، فصل الشتاء المثقّل بالثلج.
كم رغبت برؤية الثلج عن كثب، أن أشعر بملمسه على جلدي أن أتذوقه حتى.
مثل كل الأطفال، نرسم كل ما لا يوجد في واقعنا بخيالنا الخصب.
كنت أعتقد أن الثلج قطن دافئ تنثره الجنيات على رؤوس الأشجار ليلاً ليعمّ البياض وتنحسر بقية الألوان الكئيبة، في انتظار أن تأتي بألوان أكثر حياة، كان البياض بداية لوحة ما. هكذا كنت أعتقد.
- وأنا؟ كيف كنت تراني؟
- أنت وردة بيضاء في حديقتي، شُجيرة أعتني بها منذ أمد بعيد ورودها ناصعة مثل ثلج أحلامك، مثل قلبك النقي.
كم كان تشبيهك يسعدني. كنت أهمس لنفسي حين أنفرد بي: أنا وردة بيضاء، أنا وردته البيضاء.
لكنك أبداً لم تخبرني أن عطرها قد يفضح سري الصغير، قد يسكب حبر رسائلك لِيُلوّن المطر الذي يهطل في صخب ليخبرهم عنك.
لم تخبرني أن ذاكرتي ستحتفظ بكل حرف، وأن الأحلام مرهقة.
لم تخبرني أن الحزن أيضاً يكبر، وأنه يصبح قيداً والقيد مؤلمٌ.
كما لم تخبرني أنك ستختفي مثلما تختفي نتف الثلج حين تشرق الشمس.
كنت فصلاً لم يتكرر لكنه ترك أثره في عطر وردة بيضاء.
تلك الباقة كانت شعلة ألهبت كفي، أين أُخبّؤها؟كيف أعتني بها؟كيف أعتقل عطرها كي لا يندثر؟.
أخبرتني في رسالتك الأخيرة أن ذاكرتنا أفضل الأماكن وأكثرها أماناً للاحتفاظ بما نحب، قلت:
- ضعي وريقات الوردة في دفتر مع كلمة صغيرة وأغلقيه.
- قد أنسى أو يضيع مني.
- لن يضيع ولا يمكن نسيانه.