حاورته: فاتن حمودي
الكتابة جزء أساسي وربما الجزء الأهم والحاسم، في عالم ينهار ويتصدع حولنا
«لا ندين لأحد بشيء
عدا أرجلنا الثكلى
بالمسافات»
بول شيلي
الشاعر هو المسافر الأبدي، الذي يملك عمقا فلسفياً ورؤية خاصة للوجود والعالم، وشعرية تعري خراب الكوكب، هكذا هو الشاعر العُماني سيف الرحبي، عرفنا من كتاباته جبال عمان، التي تشكل سكاناً حقيقية في المكان، وامتداد الصحراء، والبحر، وأسئلة الوجود والعدم، وتلك الذاكرة المنفلتة من زمنها، وهو الشاعر الذي يحمل أمكنته ويمضي على أرصفة الوجود والمعنى، في روحه غصص الدنيا على دمشق وبيروت وبغداد والقاهرة وصنعاء، وهو الشاعر الذي كوّن صداقات في مدن عربية مختلفة، يرى الحاضر الكارثي، والدم المتطاير، فيقول:
«ما حاجتي إلى دعوةِ الماضي، وهو يجثم أمامي مقابرَ تتطايرُ منها الأشلاءُ والأشباح».
ولا يفلت هذا الحاضر من متابعاته وكتاباته وقلقه الذي يجعله مسافراً وهو يتأبط روايات وكتب مختلفة، وبعد كل رحلة يقرأ تلك الأمكنة معتبراً السفر باباً من أبواب السياحة الروحية وعلاقتها بالكتابة، وهو شاعر قصيدة نثر بامتياز، الطفل الذي فتح عينيه على بلدته سرور قريته في سمائل بعمان، حيث الطبيعة الأولى بجبالها وصحرائِها وفضائِها الشاسِع، مستمداً من أمكنته ذاكرة حقيقية ملهمة، مع معرفته بأنه جمال وحشي وكأن الكتابة والشعر نزوع إلى البدء، ولا يسقط من كتابته أبداً هذا الواقع الشاسع بفضائه وقيامته وانزياحه إلى العدم.
في ترحاله بين المدن والعواصم، في الشرق والغرب، يعيش تلك التجربة المتشظية مع المكان، وكأن الأماكن محطات عبور، يبقى منها ما انزاح نحو الإنساني، أو غصة انزياحها نحو الخراب.
وهو الذي حمل نورسة الجنون والجبل الأخضر و«أجراس القطيعة»، يتحدّث عن العزلة والمنفى وعن الذات التائِهة... «رأس المُسافر»، «الجنديّ الذي رأى الطائِر في نومه»، «الصيد في الظلام»، «منازل الخطوة الأولى»، «يد في آخر العالم». يكتب بتصوير سينمائي عالي، وكأنه يرسم الصورة والصوت ومساحة الصمت الشاسعة، ليكون شاعر الربع الخالي الذي يقف بنصوصه أمام الروائي ابراهيم الكوني، وما بين شرق وغرب تكون التجربة نصوصاً مفتوحة على الحياة والأصدقاء والأمكنة، ودائماً يرى الخراب الذي يسور البشرية.
نصوص سيف الرحبي ترجمة حقيقية لهذا المعنى، حول ذاكرة المكان، والعلاقة مع الزمن والشعر والسفر والأصدقاء نفتح صفحة غنية من خلال جريدة وموقع «سبا» مع هذا الشاعر الذي أسس مجلة «نزوى» ويرأس تحريرها، المجلة التي تمتد أكثر من ربع قرن والتي شكلت نخلة ثقافية متفردة في العالم العربي.
· أبدأ من البيت الأول، المكان الذي تشكل فيه وعيك الأول، وسرور قريتك التي قرأناها في «منازل الخطوة الأولى» لماذا نحمل المكان الأول معنا؟
ولدت في قرية «سرور» القرية المحاطة بجبال جرداء أسطورية، درست في الكتاتيب التقليدية، وعرفت بيئتها البرية الصادحة بأصوات الذئاب وبنات آوى والطيور:
«أودية وشعاب
قرى معلقة على رؤوس الجبال
حدائق بابل معادة على شكل كابوس يتدلى من السقف».
في البيت الأول، كانت مكتبة والدي والتي لم تضم سوى كتب التراث والفقه واللغة والتاريخ القديم، كانت المكتبات معدومة في المنطقة، لكن الطبيعة كانت بحد ذاتها أسطورة، فسرور ليست بعيدة عن مشارف الربع الخالي، هذه الصحراء المروّعة، التي وصفها الرحالة البريطاني «ويلفريد ثيسيجر» بأمّ الصحارى، لكن بالنسبة لي مكانياً، ورمزياً، تتحول في الكتابة والنص إلى صحراء كونية، ورمزٍ وجودي للوحشة والعدم.
وتشكّلُ الجبال حيزاً في المخيلة توازي صحراء الربع الخالي، الصحراء التي تتوزع على أقطار خمسة في شبه الجزيرة العربية.
البيت الذي ولدت فيه، تميز بالانفتاح على الطبيعة، وتلك البيئة القبلية الكلاسيكية الدينية المحافظة، وتتلمذت على أيدي مشايخ وبدات كتابة الشعر الموزون والمقفى، لأن أي خروج عنه يعتبر مروق وإلحاد، وما زال أصحاب هذا الرأي الظلامي عند رأيهم حتى لحظتنا الراهنة، وبشكل أكثر عنفاً وتطرفاً ولاعقلانية، كانت أول مدرسة في حياتنا الكُتّاب، أذكر المعلم سعود، الذي شكّل علامة من علامات القرية، صورة الرعاة وصوت أناشيدهم على السفوح، وكانت ليالي الصيف تلتئم بالأدب والإنشاد.
لم نكن ونحن صغاراً في مناطق الداخل الحجري من عمان ننظر إلى منطقة الباطنة، ذلك الشريط الساحلي، المتلألئ بالبحر من قرى ومدن وما يوازيه في مخيلتنا من أقاصيص وخرافات أجداد وأحفاد وأسواق سحرة وحروب قادمة من وراء البحار، كل هذا تكوّن في المخيلة كنداء بعيد.
· مَن كان دليلك إلى الشعر في طفولتك؟
حين أقول الطفولة أستحضر الشاعر محمد بن سعيد المخالدي، ذلك الراوي الكبير في (سرور)، أتذكر كيف تعرفت منه على حرب البسوس، وداحس والغبراء، عبوراً إلى صدر الإسلام والعهود اللاحقة، وصولاً إلى القرن العشرين، وكيف كان ينقل الواقعة بإيقاع ملحمي وفني ونبرة صوت خاصة. كنت أسبح معه في هذه العوالم، أتمثل الأحداث في استلهامها من عتمة الزمان والتاريخ والخيال، كانت حلقة الوادي أكثر تأثيراً وسطوة على الذاكرة، ثم انتقلت للدراسة في مسقط، كنا حين يأخذنا النوم إلى سهوبه البعيدة، يبقى البحر الحارس والساهر وسط ذلك الظلام الموحش الذي تقطعه السفن العابرة إلى المحيط الهندي والعالم، كنت بين فجر الرعاة، والصيادين، والقناصين الذين يتوزعون في الجبال في المواسم، ومدرسة السعيدية.
· عُمان الموغلة في الزمن، المُزَنَّرة بالجبال والمحيط الهندي، والصحراء، محيطات كأنها بدء الخليقة، تبدت الطفولة في كتاباتك الجبل الأخضر، شجرة الفرصاد، وكتابات كثيرة أخرى، هل نحن أسرى أمكنتنا؟
أتذكر مدينة «مطرح» حيث البحر والنوارس والحوانيت العتيقة وقصص الغزاة البرتغاليين وتجار الهند والسند وصناع المراكب المتجهة صوب زنجبار وممباسا، وأقول نحن القادمون من الداخل الجبلي، حيث يرتطم الخيال بهيئات السفن وهي ساكنة، وذاك الطفل يتأمل ويسرح بخياله دائماً نحو البعيد.
الطفولة لها دلالات إبداعية كبيرة، والكتابة مشدودة إلى المكان الأول بتضاريسه، بجباله، بحدوسه الأولى، بغرائبيته، ولم ترتهن إلا نسبياً بالمكان الآخر الجديد، ظل عناق الصخرة وجذور الشجرة هو مركز الروح المتشظية في هذا الفضاء المهيب، ظل أكثر انغراساً في الذاكرة التي لم يزدها هذا المكان المترامي إلا عذاباً وتيهاً.
· الشعور بالتيه، يبدو جبلاً في نصوصك، ما الذي أخذك إليه؟ هل هي الصحراء، البحر، أم ماذا؟
أعتقد بأن التيه جاء من شعوري المأساوي بالوجود، بثقل الحياة والزمن، ويبدو أنه قدر المنفصل عن قيم الجماعة والقطيع، ويمكن الزعم أنني انفصلت عن هذه القيم بشكل مُبِكِّر مثل الكثير من أفراد جيلي بأماكن مختلفة، وهناك أيضاً الإحساس الوجودي المدمر بمرور الزمن ومأساة هذا العبور، وهذا التغيير وهذا المحو، أتذكر دائماً المكان الذي ولدت فيه التضاريس الجبال الجرداء الشاسعة والموحشة، الكائنات والطيور والمقابر ربما تكون من المنابع الأساسية لهذا الشعور بمرارة الكائن واغترابه وانسحاقه أمام الزمن.
وتذكري أيضاً بقدرة هذا الكائن وجبروته على الصمود رغم الطبيعة القاسية والظروف الصعبة، للعيش والإنتاج والتكيف بهكذا ظروف، وأقول أن الربع الخالي يشبه بقسوته الحالة العربية التي تسود فيها غرائز الانحطاط وترتد إلى ما قبل الدولة، وما قبل الحداثة، وحيث التشظي والطوائف والقبائل.
يبقى هناك انسداد أفق روحي لإنقاذ الكائن من هذا التيه المقلق الذي يعيشه يومياً، خيار العودة إلى الطفولة أحد الخيارات لحماية الكائن من البرد، وأذكر هنا نشيد روسو الأساسي والحلم العودة إلى الطبيعة، والعقد الاجتماعي أحد أسس الحضارة اليوم.
· تقول:
«من أيّ الجهات
يصدح هذا الصوت
بجرف المسافة
كإله غاضب؟
من الماضي أم من المستقبل؟
من كهوف القدماء
أم من ناطحات سماء المدن؟».
كأنك تحمل في جيناتك جنون الأسلاف في التوق إلى السفر والترحال، مضيت إلى القاهرة مبكراً، ولم تتجاوز الرابعة عشرة من العمر، حدثنا عن المدن والترحال، وتلك الشعرية العالقة بالطريق؟
بالمعنى الوجودي أنا مسافر أبدي، البعد الرمزي والوجودي للكائن أنه في سفر منذ الولادة وحتى الموت، هذه اللعبة القدرية المزدوجة من الصعود والهبوط في الولادة والموت هي التلخيص المكثف لرحلة الكائن على هذه الأرض، تبقى الأسفار الواقعية والجغرافية مسألة نسبية، ربا تفيد وتحفز المخيلة الإبداعية والكتابية وتثري وتغني، وربما في نفس الوقت تلعب دوراً تدميرياً على نحو ما.
السفر وشعرية الاكتشاف كان هاجساً حقيقياً لي، الإقامة والسفر وسيلة لتحفيز الخيال الإبداعي للدخول أكثر في النفس البشرية، ويبقى الإبداع هو الحقيقة الوحيدة، الحقيقة الأولى بالنسبة لي. السفر جعلني أتجاوز الثقافة الغارقة في قيم السلف شعرياً فكرياً ثقافياً، الاحتكاك في ثقافات أخرى، جعلني أقطف من شجرة الحداثة ما يغني الروح.
الوداع الأول
· تتوزع مراحل حياتك حسب الرحلة والسفر، ماذا يشكل لك السفر؟ وما الذي خلخلته القاهرة فيك كمنصة إقامة ودراسة وحياة؟
القاهرة هي التكوين الثقافي والأكاديمي، كان سفري إليها في سبعينات القرن العشرين، بعد أن أنهيت المرحلة الابتدائية في عمان، ما زلت أتذكر ألق تلك اللحظة، كانت سيارة جيب تقف أمام بيتنا القديم الذي ظلت نجومه وأحلامه تلاحقني، وكانت أمي تقف على حافة بئر تلوح بيدها وأنا أصعد السيارة وكأنما ذاهب إلى كوكب آخر.
لم أعد أتذكر من الوجوه في تلك اللحظة شيئاً عدا وجه أمّي باكياً على الحافة، ووجه أبي في المطار القديم، مطار بيت الفلج الذي أصبح من المراكز التجارية في العاصمة.
أتيت القاهرة لهدف واضح وهو الدراسة وهاجس المعرفة، ولا أتصور أن هناك لبساً وتعارضاً بين المدرسة العربية والمعرفة في ذلك الحين. نحن ملك لذكرياتنا وليست هي ملكنا كما يقول (فلليني).
القاهرة هي الرحم الثاني لتكويني، كانت الحاضنة الأكثر طغياناً في الذاكرة العمانية والخليجية والعربية أيضاً، فيها أنهيت مرحلتي الدراسة الإعدادية والثانوية، ثم قسم الصحافة في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر.
في القاهرة قضيت ثماني سنوات، من أجمل سنوات العمر، الخطوة الأولى في نظري هي الأكثر خطورة في تاريخ الإنسان، إنها اللحظة التي تختزل كل شيء باتجاه اللاشيء، اكتشفت نفسي وبدأت أحتك بالآخر وأنشغل بالأوضاع السياسية والفكرية، إضافة لقراءة الشعر الحديث من أمثال السياب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، والأهم الصداقات مع رموز الفكر والأدب، ولوعة الحب الأول.
عشت في القاهرة مناخ الإيديولوجيات والاتجاهات في حقولها المختلفة، الأدب والفلسفة والفكر والأصدقاء والطرقات، وعرفت معنى السياسة في هذا العالم الشاسع.
· قلت مرة بأن دمشق منصة التأسيس الإبداعي، وباب نحو الآفاق، كيف دلّتك دمشق على هذا؟ وما هي الأبواب التي فتحتها أمامك؟
دمشق ورغم إقامتي القليلة فيها، والتي لا تتجاوز عامين، في ثمانينات القرن الماضي، إلا أنها شكّلت البداية الفعلية للحياة الأدبية، أصدرت عام 1980م «نورسة الجنون»، ثم «الجبل الأخضر»، كانت إقامتي فيها ثرية أدبياً وإنسانياً، أفضت إلى إقامات أخرى أكثر ثراءً، تعرفت في دمشق على جزائريين، الروائي واسيني الأعرج، والشاعرة زكية الأعوج، وتعرفت على ربيعة الجلطي وأمين الزاوي، لينفتح مشهد المسافة والبلدان والوجوه لاحقاً، لا سيما سفري إلى الجزائر الذي شكّل أيضاً محطة مهمة جداً في الوعي والإبداع، وظلت الشام العلامة والمرجع الذي نعود إليه من أسفارنا وتغريباتنا بجوها الصداقي والأدبي الحميم، هناك كان شعراء ونقاد وروائيين عراقيين وكُرد، وعرب، وسوريين مهمين، الماغوط، علي الجندي، يوسف اليوسف، سميح شقير، حسان عزت والغوطة التي جمعتني بكما، اللاتيرنا، الأمسيات والمحاضرات، والمعارض، والجو المشتعل بالأسئلة القلقة.
أتذكر كيف ذهبت بالقطار من حلب الشهباء المدينة الأكثر فرادة من دمشق إلى اسطنبول، كان القطار بطيئاً جداً، قطار يشبه قطارات الغرب الأمريكي (الويسترن)، ومن اسطنبول ذهبت إلى بلغاريا بالقطار، قطار يحمل مهربين ومثقفين وشعراء بلحاهم اليسارية على نمط جيفارا ولينين وهوشي منه، إنه قطار الشرق.
· تُقَارِب المشهدية السينمائية في نصوصك، وكأننا أمام صور شاعر جوّاب للآفاق، حبذا لو تحكي لنا عن انتقالك من المشرق، إلى أوروبا، لا سيما محطتك في فرنسا، إلى أيّ درجة شكل لك هذا إضافة للتجربة الإبداعية؟
بعد إقامتي في بلغاريا، مضيت إلى باريس، وأعتبرها ميلادي الثالث إبداعياً، كان هذا في الثمانينات أيام مجلة «أوراق» و«الأزمنة العربية»، عشت طويلاً وعملت فيها مراسلاً للعديد من المجلات والصحف العربية.
سحرني المناخ الثقافي فيها، الفلسفة الوجودية، الحركة السريالية، اكتشاف المدن والأطباق، والصداقات والتردد على المتاحف والجلوس على مقاهي الشانزليزيه والحي اللاتيني والسان جيرمان والسان ميشيل، والأصدقاء الذين هم الغنى الحقيقي لي.
باريس هي باريس التي لا تتغير، بل تزداد جمالاً كلما أوغلت في السنين، وتقدمت صوب دوائر الدهر، تبقى الأثيرة من بين كل المدن للشعراء والكتاب والفنانين، وهو ما كتبته في نص «سنجاب الشرق الأقصى»، هناك مشيت على ضفاف السين، ورأيت الزمن المتجدد والذي يعيدني إلى نهر هيرقليطس، جلست في المقاهي مع أصدقاء يكونون غالباً جزءاً من رحلتي، نشرب ما يحلو لنا ونحكي عن بلاد مظلمة بالحروب.
· لغة الشاعر وخصوصية الملامح، كيف تشكلت في هذا التجوال المليء بشغف الأساطير والحكايا والتسكع، وصور الذاكرة؟
في هذا التوق لا بد أن تتشكل عبر هذه المسيرة الزمنية مفردات ومناخات خاصة بالشاعر، وليست مستعارة من مرجعيات أخرى، بالرغم من أن المرجعيات والذاكرة ضرورية، لا نستطيع أن نحكي عن شاعر ضائع في خضم حداثة أو لغة عامة، لا بد أن تتشكل ملامح تمليها الموهبة والمكان بأرواحه وشخوصه ويمليها تأمل الشاعر في تجربته في السيرورة الزمانية والمكانية، وفي موقفه من العالم، والتحرر من الأعباء البلاغية والزخرفة التي يتم كسرها لصالح آفاق تعبيرية أكثر سعة، وتلم شمل هذا الحطام المتشظي في أحداقنا وقلوبنا.
· العودة إلى النبع الأول بعد ترحال طويل، وتأسيسك لمجلة «نزوى»، المجلة الأهم ثقافيا على المستوى العربي، هل هو الحلم بمشروع في غياب المشروع الثقافي؟
الشاعر يبقى مشدوداً أكثر إلى مكانه الولادي، عن بقية الأماكن والمطارح الأخرى، في هذا السياق أتذكر عبارة لجوته «إذا أردت أن تعرف الشاعر جيداً فاذهب إلى بلاده»، هذه العبارة تشكّل مفتاحاً أساسياً لما نود قوله، لا شك فإن المكان العماني بالنسبة لتجربتي كان جارفاً وحاسماً على صعيد الذاكرة والمخيلة، وكأنما هو البؤرة التي تنبثق منها الأماكن والحيوات الأخرى، طبيعة هذا المكان الملحمية ذلك الجمال الوحشي الفظ وغرائبيته، ربما تكون الأكثر إلحاحاً وسكناً للخيال الشعري وانبثاقاته وإشراقاته.
نزوى الحلم الثقافي:
العودة إلى المكان الأول، جاءت في منتصف التسعينات، عودة إلى مسقط، إلى الجزيرة العربية، إلى صحراء الربع الخالي، وكانت ولادة المجلة الثقافية عام 1994م الفصلية «نزوى»، كانت بالنسبة لي مشروعاً خيالياً، وتواصلت المجلة لتصل اليوم إلى العدد (105).
كانت البدايات إلى حد ما مخاضاً صعباً وليس سهلاً أبداً، لأسباب كثيرة ثقافية وموضوعية وتتعلق أيضاً بالقيم الثقافية والفكرية السائدة والتي تقدس السلف الثقافي التقليدي أكثر مما هي تُشرع أبوابها للعصر، للحداثة، للانفتاح، هذه النقطة كانت إلى حد ما صعبة في سياق تأسيس مجلة تطمح إلى أن تكون منفتحة على التيارات وعلى وجهات متعددة في الثقافة والفكر الإنساني عربياً وعالمياً، هذا الخيار الثقافي والجمالي المختلف، عملت فيه مع فريق عمل يقدر الثقافة كبعد إنساني، ولا بد أن يحمل عبئه أفراد معنيون بخدمة الثقافة العمانية والعربية والإنسانية بصورة عامة.
· كنت في مرحلة من مراحل حياتك ضد النسل والولادة، هل هو ردّ على الخراب، أم التأثر بفلسفة المعرّي وغيره؟ هل هي العدمية؟
أنا لا أستطيع نفي كائن حتى لو كان من سلالة الضفادع، فكيف بالإنسان الذي خلق كلّ هذه الملاحم من العنف والصخب والإنجازات العقلية والفكرية والفلسفية عبر تاريخه المدلهم، ولو خيرت لكان ميلي إلى المعري في قوله:
فَليتَ حوّاءَ عَقيمُ غدَتْ لا تَلِدُ النّاسَ ولا تَحبلَ
أو إلى عبارة حارس العزلة سيوران «اقترفت كل شيء باستثناء أن أكون أباً»، وإن نوح لو أحرق الفلك لكان هذا الأفضل والأنجع لمستقبل الحياة، أو لماضيها لا فرق.
ولكن تغير هذا في لحظة ما، وجاءني ناصر وعزان من الفنانة بدور الريامي التي غلبتني بأجمل قصيدتين.
· كيف تتوافق نظرة العدمي بين الكوني والمطلق؟
هذا العدمي الذي تتحدثين عنه، والذي لم يجد مكاناً في مرجعيات اليقين والطمأنينة والاستقرار، وطوّح به النأي والشك بعيداً، لم يجد في الأوابد والرموز الأزلية مكاناً ما يستريح فيه، كالجبال والصحراء والبحر، وفي هذا السياق استحضر بيت لبيد بن ربيعة العامري الشاعر الجاهلي:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
«المصانع» هنا منابع المياه ومساقطها، وكنت قد قرأت أن أسلافنا اليمنين كانوا يعبدون الجبال، هذه النزعة ربما تقودنا إلى وعي الهروب من جحيم المجتمع إلى الطبيعة، برموزها الخالدة، لكن ليس بالضرورة على خطى الرومانسية المعروفة بمواصفاتها وموضوعاتها، في تلك المرحلة من التاريخ.
العزلة المبدعة وعزلة كورونا:
ما بين عزلة الإبداع، والعزلة التي فرضها فايروس كورونا على الكوكب، ماذا تقول؟
نحن أبناء عزلات متواصلة، بين المدن والقرى والمقاهي والجبال والبحار، لأننا كائنات غير اجتماعية بالمعنى النمطي للكلمة، نهرب من هذا النمط السائد والمدمر للروح، والأشبه بالقطيع على صعيد الرؤية والقيم، نهرب إلى عزلتنا الخصبة بالقراءة، والتي تنبثق وتتجلى منها الكتابة أو مشروع الكتابة.
العزلة هي شرط وجودي واجتماعي للإنتاج الإبداعي وإلى استمرار الحياة أيضاً، لأنه من الصعب الاستمرار في ظل القطعان الاجتماعية الكاسرة خاصة في البرهة الراهنة التي انحدرت فيها القيم الأخلاقية والفردية، إلى درجات قصوى وهيمن فيها نظريات القطيع الذي تسوقه المؤسسات الكبرى، النافذة في العالم، وما يتلقفه العالم العربي بحكم تركيبته السياسية والرسمية السائدة في الأقطار العربية، والتي ستكون نفايات هذه الأنماط وهذه الرؤى وهذه النظريات التي تدمج، وتذوّب الفروق بين الأفراد والجماعات في نمط قطيعي واحد، يدّعي الفصاحة أو يتفاصح عن جهل، يتوهم المعرفة عبر تراكم المعلومات الفارغة، ثمة أوهام تامة ومنجزة حول المعرفة والتفكير والثقافة، وهي على النقيض تماماً من ذلك، من هذا العزلة خيار فكري وحياتي وجمالي وإبداعي.
حين داهم العالم هذا الفايروس وأطبق عليه ككابوس مرعب ومخيف قذف فيه في صالة الانتظار الشاسعة في العالم، وكأنه ينتظر مجهول، بكل التقدم العلمي والتكنولوجي والذي بلغ ذروته العقلانية أمريكياً بدرجة خاصة لم يستطيعوا كبح هذا الفايروس الذي نشر كل هذا الهلع حين بدأ هذا الفايروس كورونا، كنت في تايلاند أنا وزوجتي بدور الريامي، وبدأت الأخبار تتوافد عن يوهان في الصين، ثم انتقلنا إلى مدينة بحرية، كانت مزدحمة بالصينيين الذين يحتفلون بسنتهم الميلادية، كان الجميع يلبسون الكمامات، عدنا بسرعة إلى عُمان، وبعد أسبوعين صار الإغلاق التام، صرنا أسرى البيوت، بدأنا نعالج هذه العزلة القسرية المضاعفة بمزيد من القراءة الكتابة المشاريع الآنية العائلية، طوّرت علاقتي بالتكنولوجيا وبت أتواصل مع الأصدقاء بشكل أفضل، لمجابهة هذا الكابوس المرعب، اعتصمنا بالجبل الأخضر لا سيما في الصيف، الذي يذيب السيف في غمده كما عبر ابن بطوطة، من ستة قرون، رحنا لذرى الجبل الأخضر، المكان الذي تنتمي إليه زوجتي ولادياً وبدأنا نتحرك في السفوح والهضاب، ثم عدنا إلى مسقط، أنجزت كتابا أسميته «في النور المنبعث من نبوءة الغراب، أوراق» 2020م.
ثمة الآن نوع من انتظار قاسٍ أيضاً، جاء اللقاح وتجدد الأمل بأن تأخذ الحياة البشرية سويتها الاجتماعية والحياتية، الفترة قاسية وبدأت تقسو أكثر مع طول الهلع والخوف، وأنا شخص متعود على الرحيل وتغيير الأماكن والوجوه، هو الرئة التي أتنفس منها هواء الحرية هواء الكتابة بدون هذا تكون الماساة الوجودية مضاعفة ومريرة بدرجات قاسية، منذ عام تقريباً لم أتحرك من عمان إطلاقاً، المسألة ليست سهلة أبداً، وأفكر دائماً في منكوبي الحروب وعزلاتهم الأكثر فتكاً ورعباً وقسوة بمئات المرات مما نعيش نحن، في البلدان التي يعم فيها السلم الأهلي، والبعيدة عن العنف المسلح والإبادات والتنكيل أفكر بالملايين من السوريين والعراقيين واليمنيين والليبين، على المستوى العربي وغير العربي أيضاً، أوضاع هؤلاء الناس تفوق كل توصيف مأساوي عرفه الأدب والتاريخ، في ليالي الحر الشديدة البالغة القسوة، أو في الشتاء البالغ القسوة في ما يشبه العراء الدموي الفاجر الفظيع، شعوب كاملة تعيش في هذا العراء المتوحش تحت أنظار العالم والكاميرات والأقمار الصناعية العارفة بكل التفاصيل والقادرة أيضاً على إيقاف وعدم تمديد هذه المأساة وهو يزيدنا مرارة وقسوةَ عُزلة وألماً.
· ماذا تعني الكتابة في عالم ينهار؟
الكتابة جزء أساسي وربما الجزء الأهم والحاسم، بهذا المعنى في هذا العالم الذي ينهار حولنا، ويتصدع ويتشظى في أحداقنا وقلوبنا تبقى مساحة القراءات قليلة وتأتي الكتابة على رأسها وفي مقدمتها.
· كيف تنظر للجوائز والمهرجانات الثقافية التي تقام في الخليج؟
أراها عنوانا لثقافة الخواء، للتسويق للكرنفالات، وأعتبر أن تسويق الثقافة المحلية، أمراً ضرورياً، على أن لا يكون بديلاً للثقافة العربية، المهرجانات الجوائز على أهميتها لكنها لا تصنع ثقافة، من حق المؤسسة الإعلامية أن تسوّق ثقافتها، ولكن على ألا تكون ثقافة بديلة، فأعتبر أن هذا مأزق حقيقي.
من هنا أرى أن كل الفضائيات الفاعلة والبرامج الثقافية فيها إما غير موجودة إطلاقاً، أو موجودة بشكل محاصر.
· ما الذي يبقى من الشعر؟
لا أظن أن هناك معايير محددة وتصنيفات لتحديد القصيدة التي تترك بصمة، هنا وفي قراءة حرة، قراءة شخوص وأصوات ومشارب ثقافية مختلفة، أذكر ما قاله بورخيس «الشاعر يبقى في بعض أبياته»، هذا القول ينطبق على الشعراء الذين تعززت أسماؤهم، كما ينطبق على شعراء آخرين الذين هم في توقهم إلى تشكيل هوية، الشعر مشروع مفتوح على القراءة والكشف والمغامرة، لهذا الهوية قلقة، وباحثة باستمرار عن مستقر لن تطاله إطلاقاً.
ممكن الركون مبدئياً إلى أقاليم للشعر، ضمن هذه البيئات والأقاليم يكون لكل شاعر بصمة خاصة به.
فالشاعر لا يسمح لنفسه أن يكون صدى لبصمة غيره، بقدر رؤية الشاعر وتواصله مع الآخر، مع القرين الإبداعي، ضمن قراءة خلاقة، وليست قراءة تستعير الناجز، قراءة من منطلق أن الشعر إعادة قراءة للمنجز الثقافي والواقع والتاريخ في صيرورة هذه القراءة هناك رؤيا خاصة تتبدى عليها الرؤية الشعرية والكتابية.
في العالم العربي هناك شعراء أنجزوا النص الإبداعي الذي يحمل البصمة الشخصية ويحمي نفسه من الذوبان من النموذج الشعري عالمياً وعربياً.
الشعر خلق، حياة، شيء يصعب تحديده، لهذا أكتب ولا أنظر لهذه المناخات والعوالم التي تهيمن لتدفع بالإنسان والمجتمع إلى تلك الهوة السحيقة من البلادة والاستهلاك والفظاعات الجهنمية، أكتب بالمعنى الفردي، أكتب لأن الكتابة تخفف بعضاً من ثقل الآلام، وثقل الزمن والتيه، لا أفكر أنني أكتب للنخبة ولا للمجتمع، أكتب لأن الكتابة هي الأجمل مما تبقى في هذا العالم.