جان بابير
عندما قرّر الرب أن أتواجد في هذه المتاهة، لم يكن أبي نائماً، وسوس له الشيطان، أمي كانت تدير ظهرها – بناء على رغبته– في الفراش، تجعّد اللحاف بعد أن نزعت الكثير من الثياب، أخوتي نياماً يقبضون على الأحلام، ومن رأس تلك الليلة خرج الشبق كعنوان كتاب، قضما الوجود بهمسات دافئة، لَويا عنق الآهات، سقطت تفاحتان في سلّة أبي، ومنحت أمي له مواسم العنب وفخذين بطعم الزيتون والملح ونكهة العَرق، اللحاف في حالة سجود وركوع فوق ظهر أبي الذي يشيح بنظراته يمنة ويسرة إلى أخوتي النيام، وأنا نزعت منه ذاكرته لأدوّن وجودي هنا بينكم، كما يعلم جلّكم أنه تأويل لنسج ما حدث في ذلك الوقت، ما كان يجب أن أولد ليلاً لئلا يعشعش كل هذا الظلام في داخلي، قالت أمي: «لم تكن ولادتك سهلة، كأنك كنت تعتصم في رحمي فلا تريد الخروج إلى الحياة» عادة ما أثرثر في كل شيء وأوقظ الصمت بزعيقي، قدماي سبقتا رأسي في النزول، وإلى الآن خطواتي لا تهدأ في الدروب، اختاروا لي اسماً أحببته لكن (كاتب النفوس) لنزعته القومجية ومنسوب العروبة الزائد لديه منحني اسماً ممنوعاً من الصرف، وهكذا أصبح لي اسمان توأمان، اسم من حروف لبنية وآخر من نواة التمر. كبرتُ بسرعة وصرت أطول من شجرة الرمّان في حوشنا، شَعرت لأول مرة بأنني بالغ، لاعبت السر بين فخذي، بدأت ألهو به فيطول ومع انتهاء اللعبة يمخط من عينه الوحيدة ومن ثم ينكمش، نبت لقلبي شاربان يكبران مع كل خطوة أمضي فيها مع الأيام، جسدي نحيل مثل فرع شجرة، ضحكات أخوتي وبُكاء الجدران الطينية في بيتنا، وفي المساء تضع أمي سفرة من الحكايات فنمضغ خبز القصص، هذا حينما أقوم بأسر الذاكرة، لكن في الغربة لا أعرف نفسي مَن أكون، هل أنا ذلك الطفل الذي جاء عنوة إلى الدنيا أم ذلك البالغ الثرثار؟ لي حنين للذّكريات، أعيش ثنوية الحياة، أركل الحاضر ويحتضنني الماضي، كما شراكة اسمين يتقاسمان جسدي، من أنا؟ أُبحث عني داخلي، لأجد صوتي، صوتي هناك وليس هنا، ماضٍ في الليل يضع ذراعه تحت رأسي ويشاركني وسادتي. قبل أن يخلو وقتي من التكهنات والتوقعات كانت هناك أيام مظلّلة كشجرة أختبئ خلفها عندما أشعر بالتعب، أسقي ظلّي من ما مضى، من عمر على حافّة الحلم كمن يدوّن نبضه على صفحة ماء، الصور تشتعل، التفاصيل تقف بكامل هندامها أمامي، مسدت لحاي، ما زلت بالغاً لم أبرح طفولتي، الصور كعشب ينمو في مرج مخيلتي الخصبة، وأنثاي تمسح بضحكتها قلب المساء ووجه الحكاية، وحكاية خالتي أم «معمو» كلما كانت تتشاجر مع القرية، وتنادي ابنتها جيهان:
- هاتي السفرة.
تأكل وتزداد شراهة ثم تشتم النساء و الأولاد قائلة «سأعيدكم إلى المكان الذي خرجتم منه يا فساء البخيلات، أيتها القرية العاهرة سمنتي كلها من تحت راسكم»، ثم تنادي ثانية ابنتها جيهان: «اجلبي صحناً أكبر ،ما هذا؟ إنه صغير كفرج طفلة!»، وفي دهشة الانتظار تسقط نجمة أخرى من سماء ذاكرتي، أوقظ الذكريات من مساءات بعيدة وأخرى قريبة، وحيداً كما كنت أقف في المحطة وأخرج الأسئلة من جيب بنطالي وأنتظر ساعة وصول القطار.