سلمى جمو
قبل إحدى عشرة سنة من الآن، عندما كنت طالبة في السنة الأولى في جامعة حلب/ قسم الإرشاد النفسي، كانت لديّ معيدة لا تسعفني ذاكرتي ذكر اسمها، طلبت منّا تحضير حلقة بحث لمادة المدخل لعلم النفس، وللأمانة كانت معيدة صعبة الإرضاء؛ قدمت لها أربعة عناوين لتوافق على واحدة منها ووقع اختيارها وقتذاك على عنوان «أصول الدافع الجنسي»، الذي استلهمتُه من كتاب بنفس العنوان للكاتب الإنكليزي «كولون ولسون»، ذاك الكتاب الذي قرأته بعمر السابعة عشر.
عندما أتى اليوم المشهود لإلقاء المحاضرة أمام ما يزيد عن مائة طالب وطالبة، كان معظم الطلاب الذكور متحمّسون، يرمقونني بنظرات جانبية بعضها مملوءة حسداً على جرأتي، وبعضها الآخر ربما كان شهوانياً فضولياً لا أكثر.
أما الإناث، فقد استهجنت بعض الطالبات عنوان المحاضرة وهممنَ بمغادرة القاعة؛ لأن العنوان والمحتوى مخلّ بالأدب العام والقيم المجتمعية المتعارفة عليها التي تحرّم وتستنكر وتستهجن الكلام عن أيّ موضوع جنسي، ولو كان داخل إطار علمي بحت؛ عندما همّت الطالبات بالخروج وقفت معيدتي لتتدخّل وتضع حدّاً لهذا الهرج المشين لتقول عباراتها التي لا زالت تطن في أذني كذباب أحمق يرفض إلا أن يفرض هيمنته على حواشي ذاكرتي:
«في هذه البلاد؛ أقصد الشرق الأوسط، هناك ثالوث محرّم علينا الاقتراب منه، أو المساس به، أو حتى التحدث عنه، هذا الثالوث هو الجنس، الدين، السياسة. هنا وفي إطار هذه الجدران ربما لن نتحدث عن الدين والسياسة، لكننا بالتأكيد سنتحدث عن الجنس. لذا اِجلسنَ في أماكنكنّ، ومَن تريد المغادرة فهي راسبة في المادة».
ساد صمت ولم يتحرك أحد أو ينطق ببنت شفة، لأبدأ أنا محاضرتي بجملتي الأحب إلى أفكاري: «الجنس... مفتاحنا للغوص في ظلمات النفس البشرية، ودليلنا للسير في متاهات عُقدنا النفسية».
بعد مرور السنين على تلك الحادثة وتحليل الواقع السياسي، الديني، الجنسي، الذي نعيشه، تدهشني سرعة تفتّت تلك المحرّمات في مجتمعاتنا. فذاك الثالوث المحرّم بات مباحاً حدّ انتهاك حرمته وقدسيته، أصبحنا نتداوله في حياتنا اليومية بشكل مبتذل ورخيص حتى أننا جرّدناه من نقائه، وكأننا نقوم بعملية انتقام لا إرادية تجاه كل ما فُرض علينا بالإرهاب والقوة.
الجنس:
ذاك المجال الواسع الذي هو حمّال أوجه، وعملة هلامية بعدّة أوجه وأشكال، أمسينا نستهلكه لغة ومجازاً وممارسة، لدرجة أصبحنا نتوه بين الحقيقي منه والفاسد. الكل بغض النظر عن مدى وعيه وعلمه بهذه الكلمة يتداولها أدبياً وعلمياً، وحتى على سبيل الشتيمة وإضفاء روح الدعابة على أحاديثه، أو ليثبت للآخرين أنه متحرّر ومتنوّر، وكأن كثرة استخدام المصطلحات الجنسية تجعل منه حرّاً وهو لا يدري أنه يصبح عارياً من الكياسة قبل كل شيء.
يحاولون إفراغ كل عقدهم النفسية الجنسية بهذه الطرق البشعة لنكون أمام وقائع مبتذلة رخيصة لا تعكس شيئاً سوى هذا العقد المنحل من الزمن الذي نعيشه.
الدين:
بات الكل متحدّثاً باسم الله، بات الطرف الآخر يظهر أنياباً شرسة تجاه الدين. الكل شيخ وكاهن، وبيد الكل مفاتيح النار والجنة، والأكثر غرابة هؤلاء الرماديون الذين يقفون على الحياد، والآخرون الذين أخذوا من ذاك قليلاً ومن الآخر القليل. هم في حرب وصراع محموم مع مَن يفرض رأيه ومَن يأتي بالحجج المقنعة ليلحق الهزيمة بالآخر. هم لا يعلمون أن الدين لا يُثبت أو يُدحض بالمنطق؛ لأن الدين لا يعتمد على العقل بقدر اعتماده على الإيمان، والإيمان يعني أنك تسلم بعضاً من أفكارك لشيء دون أن تبحث في جدلية موضوعيته من عدمه، الإيمان إذا أُعطي بُعداً منطقياً لن يعود إيماناً بقدر ما سيصبح علماً.
بالمحصلة اختلط الحابل بالنابل، ولم نعد نستطيع تمييز الخبيث من الطيب. وبات الدين كجسد العاهرة، مَن شاء له هواه أن يثبت فحولة أفكاره فإنه يأتي إليه ويخرج منه متى شاء.
أما السياسة... تلك الكلمة التي كان النطق بها ناهيك عن التحدث عنها ربما يؤدي بك إلى غياهب السجون والاختفاء القسري والموت في أسوأ الأحوال، أما الآن، الكل محلل سياسي ومفكر وصحفي، والكل يتحدث بها ويدافع عمّا يتحدث عنه ويؤمن به مع الإصرار على إقناع الطرف الآخر بوجهة نظره ولو بالعنف والتهديد والقتل حتى!
وها نحن نخرج من حالة تطرّف إلى تطرف آخر، من حالة تحريم قاطع إلى حالة انحلال فاضح، حالة كسيف مسنّن، الطرفان حادّان ومؤذيان لدرجة هلاك المجتمعات، وكم نحن على مشارف الهلاك أو واقعون حقاً في هاويته دون علم منّا.
المطّلع على ما سبق سيبادر إلى ذهنه أن سرد هذه الأفكار يُعتبر حرباً على حريات التعبير ومحاولة لتكميم أفواه الناس عن إبداء آرائهم تجاه قضايا مصيرية حساسة كنا نعيشها، ونعيشها الآن، وستظل نعيشها إلى الأبد «الجنس، الدين، السياسة»، ربما كذلك، وربما الجواب الأنسب بعد هذا الانفلات الفكري المؤدي بدوره إلى الابتذال الأخلاقي في زمن «السوشيال ميديا» هو مقولة الأمريكي صامويل كولت، مخترع المسدس: «الآن... يتساوى الجبان مع الشجاع».