-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

أرواح تحت الصفر: ترتمي على ضفته وتغترف من نهره لتروي عطش ذاكرتك


هيفين محمد (دكتوراة في الأدب العربي)

 

«إنّها الحرب ببشاعتها ولهيبها، ولا سبيل لأيّ حذلقة لغويّة تجمّل معناها الواضح». هكذا قالت الروائيّة أفين أوسو في روايتها «أرواح تحت الصفر»، فأرواح الشخصيّات في هذه الرواية «أرواح خاوية كبئر جفّ منذ دهر».

جيان: التي تشعر بالاختناق. تبوح بغِلِّها للورق، فترتدي سترة نجاة من النسيان وتُبحر في بحر ضياعها، تربت على شغب الحنين وثغاء ماضيها، ترضعها من أثداء الهروب حليباً مرّاً.

أفيستا: يقضم النسيان ذاكرتها، تحاول استرجاع الماضي، تفرد قبضة حبيبها شفان، لتعثر في خريطة كفه عن ذاتها، تكون جداراً فاصلاً بين جشع والدها وانتفاضة حبيبهاعلى الواقع الملعون.

زنار: أمّه مَن أنجبته حبّاً، وتحمّلت مخاض الولادة، كانت ترفض مصاحبته؛ لأنه سيكون سبباً في ضياعها، بين لافتات معلقة مدببة بلغة يعجز عن حلها، خسر رصيد سعادته من قلب ينبض في عشقه، هو الذي مازال جرحه راعفاً، ويرفض أن يشاهد انكساراته تعكس في عيون أطفاله كما اعتاد على رؤيتها في عيون والديه ولكلّ جنديّ قصّة حبّ وقصّة حرب.

هيفي: تعاني من فقر دمّ حادّ، على عكس تراب الوطن الذي بات يعاني من تخثّر في ظلّ الحرب، ترمي حمولتها من المرض والهذيان على كاهل جوان.

شفان: ينتظر حلّاً من السماء لتعيد اللقاءات المسلوبة على الأرض، يرمي صنارته إلى تلافيف ذاكرة حبيبته، ويحاول اصطياد أسماك من قلبها.

ميرا: الفتاة الصغيرة ذات العشر سنوات، اليتيمة بائعة الكعك في الشوارع، طفلة نخرت الحرب طفولتها، تفرش الأرصفة بطابور من الأرغفة كأحلامها وتنادي كل صباح كعراك العصافير على كسرة خبز سوري ساخن كحرارة ندبها، تحاول أن تحتال على نموها بلباس فضفاض يخفي ملامحها الأنثوية.

حسن: الرجل النبيل الشاهد الحي على جرائم لا تغتفر لجانيها، يلملم أسرته كدلو ماء سكب على الأرض.

 

د. هيفين حنان محمد


أين يمكننا أن نُدرج رواية أفين أوسو؟ أهي من صنف المغامرات أم الخيال العلمي أم قصص الحبّ؟ فما إن بدأت بأوّل صفحة من رواية «أرواح تحت الصفر» سترى أنك تعيش في بيت دافئكبير، وبعدها ستتقلّب مع الصفحات لتعيش بين أرواح مرتبطة بالوطن، وأخيراً سترى أنك تبكي أرواحاً مرغمة على الهجرة.

فتاة عشرينية تجلس أمام أدراجها لتتقي منها وردة يابسة حمراء ذات لقاء، وأكواب فوارغ القهوة المؤرخة بمواعيدها السرية، كيف تترك مقدسات روحها تدنس حين يقتحم حرمتها غرباء تفوح منهم بارود ودماء، وسيدة تجز صوف خراف أتعابها، لتحمل ما يزمل صقيع روحها، مَن سيسقي شجيراتها ومَن سيلملم الياسمين كل صباح.

نعم إنها قصّة حبّ وحرب، أبطالها يعانون القلق والقوّة في الوقت نفسه، يبحثون عن مخرج من الواقع المتشرذم الممزّق الّذي عمّه الدّمار.تترك القيادة لشخصيات نسائية (جيان وتعني الحياة، أفيستا وهو اسم كتاب سماوي)، لتجرنا هاتان البطلتان من تلابيبنا.

 

الوصفة السّريّة النّاجحة لهذه الرّواية:

الوصفة السريّة للكتب الناجحة هي تركيزها على المحتوى الرفيع. وهذا ما نجحت فيه وتفوّقت به الروائيّة الكردية في هذا المجال، فالمحتوى الأوّل هو: اختيارها لأعمار الشخصيّات – فهم جيل التسعينات؛ أي هم الآن في عنفوان شبابهم وهم مَن يطلبون الحياة، وهم مَن ينتظرون المستقبل – والمحتوى الثّاني هو: المكانة العلميّة لهؤلاء الشخصيّات فهم جامعيّون مثقّفون، أبناء الحاضر؛ أي شهود عيان على ما يحدث. فهم ليسوا بحاجة لقراءة التاريخ لتصديق خبر وتفنيد آخر.

 

تحليل جملتين من الرّواية وفق نظرية الحقول الدّلاليّة:

الجملة الأولى: «اتّصل بنفسه ليواجه مصيره، ويستنجد بصوتها لترفعه فوق سطح الماء، ويتنفّس من جديد، إنه يغرق في بحر الحبّ والنّدم».

للوهلة الأولى سيقرأ المتلقّي هذه الجملة ويعتبرها من الجمل الطويلة، ولكن إن نظرنا إلى هذه الجمل وفق نظرية الحقول الدّلاليّة، سنرى أن هذه المدلولات (الألفاظ) تنتمي إلى حقل دلاليّ واحد وهو حقل الماء (يستنجد، سطح الماء، يتنفّس، بحر). وهذا ما تميّزت وبرعت فيه الكاتبة في أغلب الأحيان، فقد كانت تسيطر على جملها الطويلة، ولا تسمح لها بالخروج من الحقل الدلاليّ الذي يدور حوله المعنى.

الجملة الثانية: «الشباب في مقتبل العمر يفترشون الأرض، متّخذين من حقائبهم وسائد يتّكئون عليها، الحقائب التي قايضوها بمنازلهم. محاولات بائسة لإمساك النوم وسط صخب الشارع».

هذه الجمل تنطوي تحت حقل النوم (يفترشون، وسائد، النوم، صخب). فهذه المدلولات تحمل فيما بينها علاقات تستخدم في مجال واحد، وهو التهيّؤ للنوم الذي يحتاج فراشاً ووسائد، والصخب الذي يكون عاملاً مانعاً للنوم الهانئ. وكأن الكاتبة بهذا الأسلوب كانت تجمع من الحقل المعجميّ ألفاظها أوّلاً، بعدها تقوم برصفها في جمل، لتشغل كلّ لفظة حيّزها من المكان.

 

صور بلاغيّة تميّزت بها الروائيّة:

«ليضرب بنعله جدار قلبها».

«لا يمكنها تحريك مقود لسانها الذي بلعه الواقع».

«بات الحلم بالأمان ترفاً».

«يا حبّة البنّ المهدّئة لصداع روحي».

«أفلتني أنا لست طوق نجاة، أنا غريقة مثلك».

«سحب البساط من تحت أفكاره».

«يبحث بين مصنّفات أفكاره».

«أيّ ساحر سيخرج ذاكرتي من قبّعة القدر».

«بني: لا تلعب بعدّاد عمرك».

 

وأخيراً نقول: أفين أوسو كانت كهذا المثل الذي يقول: «لا تبلّغ القارئ ما تريده بشكل عابر». وحقّاً هكذا كانت، فقد أرادت أن ترسم لنا صورة الحبّ الممزوج بالحرب، وتحكي لنا كلّ ما عانيناه ونعانيه، فردت أضاميم القهر المعلقة في غرف مؤن عفنة تحت سماء لا يطالها الشمس، فتكون بيئة صالحة لفطريات متطفلة سامة بالنمو، اختزلت الرواية حكايات لمجازر حصلت وتحصل في السرّ والعلن، فكتبت وأجادت أيّما إجادة. كلّ الاحترام لهذه الشّخصيّة، وكلّ الإعجاب بهذا العمل.

تعديل المشاركة Reactions:
أرواح تحت الصفر: ترتمي على ضفته وتغترف من نهره لتروي عطش ذاكرتك

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة