-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

السعادة مهنة شاقّة: أيمكن للفقير أن يصبح مليونيراً بطريقة نزيهة؟

 

إدريس سالم

 

«لماذا نحن دائماً أكثر عدلاً وأكثر سخاءً مع الموتى؟»، هو سؤال طرحه ألبير كامو على لسان جان باتيست كلامانس بطل روايته «السقوط»، واستوقفني كثيراً بجدليته وفلسفته النفسية، إذ قارنته بالواقع الذي نعيش في الشرق وأيضاً برواية «السعادة مهنة شاقة» للكاتب خليل جابو، فأولئك الذين يبذّرون أموالهم على الملذّات والشهوات، لو خصصوا من أموالهم شهرياً (5%) لإعالة فقير كسعيد الكردي وإخوته لما تعرّض الأخير إلى الاعتداء الجنسي أو السجن أو حرمانه من حقه في التعلّم، فالفقر – كما قالت عنه مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء السابقة للمملكة المتحدة – هو عيب في الشخصية، فعقلية الحاجة التي كانت موجودة لدى سعيد هي التي جعلته يتصرف بشكل غريب ومختلف، جعله يفقد طفولته وشبابه.

 

في رواية الكاتب الكردي خليل جابو «السعادة مهنة شاقة»، الصادرة عام 2019م عن دار ببلومانيا في العاصمة المصرية القاهرة سؤال يطرح نفسه في تفاصيل سرد تسلسلي متناوب: هل يمكن للفقير البائس أن يصبح مليونيراً بطريقة نزيهة؟ ليسرد لنا كاتبها أولاً أن الحب والسعادة لا يجتمعان إلا في فترة زمنية (حالة آنية)، سواء يختارها القدر أو بفعل أوامر إلهية.

 

في خضم (319) صفحة ينتقل بطل الرواية من مصيبة إلى أخرى، وما إن يخرج من متاهة عقدة حتى يدخل في نفق عقدة أخرى، كيف لا وهو طفل في المرحلة الابتدائية من تعليمه، يعتريه جهل يعيشه بكل تفاصيله الدقيقة ومراهقة حُرم منها، ليكون سعيد الكردي – بطل الرواية وساردها – تعيساً إلى آخر سطر من القصة، ذاك الطفل الذي صار قوياً بفضل النكسات والصدمات والمفاجئات، حيث يقول في الصفحة العاشرة نادباً حظه ونصيبه من اسمه: «حتى الأحلام كنت أخاف أن يطالبني بها أحد يوماً ما».

 

سعيد، الطفل الأمّي بأسئلته الكبيرة التي لا أحد يجيبه عليها، كانت كعكة (الإكلير) التي منحتها جورجيت له في حي السليمانية عربون صداقة دافعاً وسبباً لأن يفهم أن الله المسلم والرب المسيحي واحد، وأن المسيحيين والمسلمين يعبدون إلهاً واحداً، هذا الطفل الذي حمل مسؤولية إعالة عائلة فقيرة بائسة في سن مبكرة، لم يكسره الواقع بقدر ما قضم البشر ظهره مراراً وتكراراً، ابتداء من عمومته وخالته أڨين، إلى معلمته فهيمة، مروراً بالسمّان مصطفى والعقاري شكري القنواتي وآخرون، لكن الأمل الوحيد الذي كان دافعه للتشبث بالحياة هي والدته نيڨين وإخوته جيهان وجوان وفرهاد.

 

جابه الحياة والبشر والواقع المرير، تسلّح بالصبر والإرادة الصلبة والتنظيم في سبيل أن ينتشل عائلته من الفقر والتشرد وتراكم الديون والتخلص من العدم الذي يجري في أروقة حي السكري الذي يقيمون فيه مع جدتهم البخيلة الثرثارة. تخلى عن ذاته وأنكرها، واضعاً مشاعره وآلامه الروحية والجسدية خارج عائلته لمجرد أن يلتقي بهم، دون أن ينسى الانتقام من فهيمة ومصطفى وشكري.

 

كلما احتك بالواقع اصطدم به، فكثرت عليه الآلام من كل حدب وصوب وهو يكبر يوماً بعد يوم، دون أن تنطفئ نيران العزيمة والقوة والصبر والصمود، عانى الأمرّين بين عمله ودراسته، إذ عمل في صغره في دكان مصطفى مقابل (25) ليرة أسبوعياً؛ شريطة أن يدفع ذلك الراتب لتسديد (500) ليرة كديون من السمان عليهم، ليترك عمله كأجير جراء تعرّضه للاغتصاب على يد صاحبه في العلّية، فداوم كعامل لتحضير الشاي في مكتب عقاري في منطقة الجميلية لدى المدعو شكري القنواتي مقابل (200) ليرة أسبوعياً، وبعد فترة ترك العمل عنده بعد أن اتهمه بسرقة مبلغ من المال من مكتبه، كان ذلك تهمة مخططة هدفه منها الضغط على أمه لتقيم علاقة معه، فسُجن سعيد وكان سبباً في فشل تلك العلاقة التي انتهت بدخول نيڨين السجن جراء تدريسها اللغة الكردية التي كانت ممنوعة في ظل النظام البعثي بعدما وجدوا آلة كاتبة في منزلها أثناء التفتيش على المبلغ المسروق.

 

في صغره كان سعيد يحب الرسم وأن يكون رسّاماً يوماً ما، فجمعته صدفة بالفنّان التشكيلي سلام سرور، فعمل في مرسمه بعد أن ترك العمل في المخبز الذي كانت جورجيت تعمل فيه، تقاضى من صاحب المرسم راتب (2000) ليرة شهرياً، إلى أن كبر وتعرّف على المدام سميرة زوجة رجل في السلك الأمني، ليعمل عندها كمرافق شخصي في العلن، وفي السر عشيق يريّحها تحت الشراشف أو فوق الأسرّة (أيّ أصبح مومِساً)، فتفتح سميرة له مرسماً كبيراً كشف له عن عالم سيدات المجتمع المخملي الثريات، فتعرّف من خلال تلك الشراكة على المدام خولة وهي زوجة أهم تجار الأقمشة في حلب، التي طلبت منه أن ترسم لها عشرين لوحة لديكورات فيلتها كان هدفها إقامة علاقة جنسية معه وتكلّلت بالنجاح، إلى أن يقع في فخ الحب مع كريستين العاملة في أحد الفنادق اللبنانية، وما خفي كان كارثة على ضميرهما وحياتهما، لأن ما حدث كان قاسياً ومفاجئاً.

 

إن الفوضى التي تعتري العالم السري للسيدات الثريات تسقط سلباً على المجتمعات الفقيرة، عالم الشبق والاستغلال والاغتصاب والممارسات الجنسية التي تبدأ بالمال وتنتهي بالأعمال، هذا العالم السري المخيف والخطير والذي لا يشبه العالم الحقيقي الذي يتواصلون ويتعايشون به مع محيطهم وذويهم، لكن سعيد بعد كل الذي جرى وكان يجري معه اكتشف خطأه ودفع ثمنه غالياً، عندما اكتشف أن المال يجب أن يكون وسيلة لتحقيق الأهداف وليس هدفاً، هو خطأ اكتشفه بعد حبه لكريستين.

 

سعيد الكردي، الشاب العصامي الذي كان يوماً ما طفلاً عصامياً، واجه الكآبة والحيرة والتفكير بالقادم الأسوأ، لم يستطع التمسك بالصليب ولا التخلي عن الهلال، نبضه في بيروت حيث كريستين وبروتيلها الأحمر وأنفاسه في حلب مع هموم عائلته، فضاع جسداً وروحاً بعد أن تزوجا وأجهضت زوجته طفلاً عمره شهران، لتنتهي تلك العلاقة بخيانة زوجته له مع طباخ الفندق الذي يعملان فيه بدمشق دون الإفصاح عن زواجهما، لينفصل كل من كريستين المسيحية المارونية وسعيد المسلم الكردي، ويعيشا حياة مستقلة، بعد رحلة شاقة عنوانها بخل كريستين وعنادها.

 

السعادة مهنة شاقة عانت من زمن كان غامضاً ومجهولاً؛ فالأحداث كانت تكبر وتتفاقم دون أي عناية زمنية باعتبار أن الزمن عنصر هام للسرد، إضافة إلى أن كاتبها لم يمنح أي مساحة ثانوية للشخصيات الأخرى ليلعبوا أدوارهم في الرواية، إذ همّش استغلال واعتداءات مصطفى الجنسية بحق الصغار، وجشع ودناءة ضمير شكري القنواتي، وميشيل وتدينه وثقافته الواسعة، والأهم تضحيات والدة سعيد.

 

الشخصية إحدى عناصر الرواية التي تدور عليها حوادثها، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحبكة ولا تنفصل عنها، أي أنها مدار المعاني الإنسانية ومحور الأفكار والآراء العامة، ولهذه الأفكار والمعاني المكانة الأولى في الرواية، وأول ما يميز الشخصية حظها من الوضوح والتعقيد، بمعنى أنها إما أن تكون بسيطة, أو مركبة من صفات متعددة وغالباً ما تكون الأخرى.

 

إذاً غالبية شخصيات خليل جابو كانت لها دور رئيسي في تجسيد الهوية الفكرية في السرد الروائي (فكرة الرواية قوية ولكن!!!)، فكانت هناك الشخصية المتمردة المتمثلة بسعيد وتمرده على واقعه، والشخصية المقهورة تمثلت بوالدته وقهرها من محيطها وأقاربها، والشخصية السلطوية التي كانت من نصيب مَن انتقم سعيد منهم في النهاية سواء بضربهم وحرق شواربهم، أو بتعريتهم وحرق ملابسهم، أو وضع قضيب خشبي في مؤخراتهم.

 

لكن الكاتب رغم ذلك برع في تصوير معاناة الإنسان الشرقي بتفاصيلها الدقيقة، مشعلاً الأضواء ومسلطاً على ظاهرة الفقراء المنسيين الذين يعانون بأجسادهم النحيلة وقلوبهم البريئة من وحوش المجتمع المصابين بداء المال والشهوة والظلم، وكشف المستور الذي يختبئ فيه النساء الثريات، وفضح معاناتهم ورغباتهم وشهواتهم.

 

إن عنصر البيئة الذي يخلق الفنّ ويتبلور في أجوائه هو لا يقل أهمية عن عنصر الحبكة وعنصر الشخصيات وغيرها من عناصر الرواية، فالبيئة يعني حقيقة الرواية الزمانية والمكانية، أي كل ما يتصل بوسطها الطبيعي وبأخلاق الشخصيات وشمائلهم وأساليبهم في الحياة، وبالتالي مجموعة قوى وعوامل ثابتة وطارئة، تحيط بالفرد وتؤثر في تصرفاته في الحياة وتوجهها وجهة معينة، طالما أن والرواية ليست معزولة عن مجالها الطبيعي والاجتماعي فإن تهميش أو غموض عنصر البيئة يعتبر خطأً جسيماً.

فخليل لم يعطِ أي وصف مفصل دقيق لبيئة روايته لا من خلال الملاحظة والمشاهدة أو من خلاله قراءاته الخاصة المنسوجة بخياله، من أزقة وشوارع وبيوت السكري والجميلية ومنطقة الراشدين ودمشق وبيروت، بقدر ما كان متصالحاً مع الأسماء ومعانيها في حياته.

 

بالعودة إلى السؤال الذي وضعته في عنوان هذه القراءة «أمكن للفقير أن يصبح مليونيراً بطريقة نزيهة؟»، والجواب سيجده كل قارئ يغوص في أحداث هذه الرواية، وأعتقد أن الجواب بحسب الأحداث التي قدمها وسردها جابو يكون (لا)، إذ أن ثروة سعيد الكردي التي يرها حلالاً وشرعية كانت غير نزيهة، سواء بدوافعها الروحية أو الأخلاقية أو الإنسانية، ففي مرسمه (لمسات) استغل شهوة المدام خولة وعدم إشباعها من زوجها، وكسب منها مئات الألوف، إضافة إلى الأرباح والأموال التي نالها من علاقته كعشيق عاهر مع المدام سميرة، تلك الأرملة الخمسينية، وغيرهن من السيدات اللواتي كنّ تأتين إلى المرسم بغية أن يرسمهن سعيد عاريات أو غير عاريات، ليستغلهن سعيد بإغرائهن وإشباعهن جنساً، ليشبعنه مالاً ونفوذاً، فكانت نتيجة ذلك خسارته لشبابه وعمره وكرامته.

 

إن علماء في علم النفس فسّروا الفقر ووضعوا حلولاً للإنسان الفقير حتى يتأقلم مع واقعه، ولكن دون أي نتيجة إيجابية، فهنا – أقصد في هذه الرواية – صوّر الكاتب معاناة الإنسان الفقير في كثير من سراديب وأقبية الحياة البائسة والمتمثلة بقصة سعيد الخضرجي، وغاص في تفاصيل بحثه عن العمل والمال عميقاً، لكنه لم يطرح أي حلول للحد منها أو برامج تنموية توعوية لمواجهتها أو التسلح بها.

 

فيما يلي، اقتباسات – أقوال وردت في الرواية، وارتأيت أن أنهي بها قراءتي الأدبيّة هذه:

·       الشواء والعرق بدون حب آخر الليل، كالذي يجلس بين حقول التبغ ولا يملك عود كبريت ليشعل سيجارته.

·       الممنوع مرغوب ومرعوب في الشرق.

·       الوسادة لها عمل آخر غير أن تحمل رؤوسنا المنهكة وقت النوم، وهو أن تحاصرك من كلّ الجهات كي لا تهرب ممن تحب.

·       الحبّ أذكي من اللصّ، يتسلّل إلى قلوب العشّاق بسرعة فائقة، ويحتدّ في البراعة حين تكون هناك حلقة ناقصة في السلسلة، لتبدأ رحلة الألم من النوع الفاخر.

·       الناس لا جمارك على كلامهم.

·       المرأة العنيدة والبخيلة تجعل حياة الرجل أشبه بالعيش في صندوق معلّق.

·       إن كان هناك حبّ، صحن زيتون يصبح وليمة.

 

تعديل المشاركة Reactions:
السعادة مهنة شاقّة: أيمكن للفقير أن يصبح مليونيراً بطريقة نزيهة؟

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة