-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

بعد الخيبة بشارعين ومدينة

جان بابير

 

كان يشبه ورقة سقطت عن شجرة الخريف، لم تدّخره الفصول لمواسم أخرى. نحيف الجسم، شعره متهدّل ولحيته مهملة يمارس السير كمن ليس لديه هدف أو مسعى، فقط كان يحصي خطواته. هو الآخر لم يحتفظ بقيمة الوقت، يأكل وينام اعتباطياً، لا يشعر بالراحة في النوم ولا باللذة في الطعام، فقد شهية الحواس. تؤرّقه الأغطية والنوم القليل الذي يستيقظ منه مذعوراً، وكأنّ الشياطين تخنقه، لذا اكتفى بوحدته المؤلمة، فهي أفضل من الضجيج المليء بالنفاق.

هو اختار أن يكون بوهيمياً له ولنفسه، وأن يكون عمله في هذه الحياة خدمة الناس بعد الموت. يعتقد البعض أنه ممثل للنوايا السيئة، والبعض الآخر يعتبره سفيراً للنوايا الحسنة في مدينة لا تمتّ إليه بصلة. يحلم باستثمار وقته بين الكتابة والأشياء المفيدة التي أقنع نفسه بها، يحلم بريف بسيط وبتلك الفتاة الصغيرة في خياله الكبير. الحياة هبة، هكذا قال في نفسه، بينما يقطع الشارع الأول نحو الحانة، مسح يديه من الخيبة و دسّها في سروال جيبه، ليتفقد السنتات القليلة، هل تكفي لما يود أن يشتريه اليوم؟ لم يسبق له أن قلق على الغد أو اعتمد على موارد مالية ثابته. تحسس سرواله و رفعه نحو الأعلى، لا بد أنه فقد الكثير من الوزن رغم نحافته، إلا أنه كان يستعرض عضلاته الفنية في موهبة الكتابة والرسم. ويمتلأ قلبه بالضياء، تنسكب مياهها في روحه الظامئة. مرّت بالقرب منه فتاة، نفذت إليه رائحة عطر ثمين، لم يعِر اهتمامه لشيء ولم يلتفت، إنما تابع سيره نحو  الحانة، فكر في نفسه: "من الجيد أني لم أتزوج في سن صغيرة". وتذكر بذلك دوستوفيسكي، كنت أنجبت دزينة أولاد وكما يقول كنت سأوصيهم "بضرورة تكرار هذه الحياة". وخاطب نفسه:

 

"ها نحن من خلال أفكارنا ندفعنا يومياً نحو حتفنا في كل لحظة، هل سأجد صديقي الحكيم في الحانة؟". المساء يقترب من المدينة، وهو اعتاد في كل ليلة أن يملأ نفسه بالكحول، كما تحشو هذه المدينة نفسها بالضجيج، اعتاد أن يحتفي بقنينة ويرسم قبلاته على أطراف الكأس، ليعود في النهاية ساحباً الشارع خلفه بعد أن يحمله ثمله إلى أوراقه محتفظاً بعبثيته لسنوات ليحيي الخيبة من جديد. فتح باب الحانة فوجد الحكيم لوكاس جالساً في زاويته المعتادة. خاطبه:

 

  - الآلهة مختبئة في زوايا الحانة.

رفع لوكاس عينيه اللتين تشبهان خرزتين زرقاوين ونظر إليه قائلاً:

- والشياطين تبحث عنهم.

ونظر باتجاه النادلة، "أيتها القديسة، اجلبي له قنينته المعتادة من (الأوزو)، هذا الشرقي لا يرتوي إلا بالعَرق".

بعد أن أجهز على ما بقي من القنينة دون أن يتبادلان حرفاً واحداً، شكره واستودع لوكاس، وفي الباب قال له:

- أراك في الجحيم.

 

جر الشارع خلفه عائداً. هو لا يبحث عن نفسه، لا  على المنابر، ولا على خشبة المسرح، إنه يعيش ميوله وموهبته ويدفع بعمره نحو الأمام، ويجرفه السؤال نحو الإجابة التي يجب أن تدوّنها تلك المفردات التي اعتصمت في حلقه، ولا تود الخروج من منفاه الجديد. يعتذر من ملامح الخيبة المرتسمة على وجهه، والتي تقرّبه من وجع أكبر ، يقول: "فلأكتب نص بوهيمي مهزوم مثلي".

المفردة العذراء تتدثر بشرشف المساء

تعيدني إلى الريف

وجداول الأخبار التي تجرف الموت

بأي قبضة سأطرق باب الخيبة

وأية فاكهة أضعها في سلال الروح لتلك العذراء؟

في ظلي تقيم الرماح

ويسكنني طفل في الخمسين

تتساقط من لحاه الحكمة

ولم يكمل ما بدأه، إذ غلبه النعاس، وسقط رأسه على المائدة كثمرة ناضجة من شجرة النوم.

تعديل المشاركة Reactions:
بعد الخيبة بشارعين ومدينة

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة