-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

يوم موتي

 


خليل جابو

 

أحب أن يكون يوم موتي أجمل من أيام حياتي، أن يكون الموت على هيئة هدية من الله على تلك السنوات التي قضيتها متنقلاً بين الهروب من المخابرات لأني أردت العيش بكرامتي، وبين الهروب من زوجتي لأنني تزوجت ونسيت أن أمارس طقوس واجباتي كرجل بيت.

 

أن أحضر لها الورود في المناسبات بدلاً من النشرات السياسية. أن أحضر لها طعاماً للمنزل بدلاً من الشعارات والأقوال. أن أتكلم معها عن المستقبل والواجبات، بدلاً من أن أحدثها عن موت الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، كيف وضعت رأسها في الفرن بعد أن كان مليئاً بالغاز وتغلق كل المنافذ في المطبخ، فماتت بعد حياة مليئة بالحزن والمآسي ومحاولات الانتحار والمصحات النفسية وأيام أخيرة مليئة بالعقاقير المهدئة، كما يفكر أن يفعل بنفسه الشعب السوري الآن، لكن لا غاز لديهم.

 

أحب أن يكون يوم موتي له طقس خاص، غير طقوس أيام حياتي. أن أستيقظ في الصباح الباكر كغير عادتي، أشرب قهوتي ببطء شديد وأنفث من سجائري كما لو أنني عاشق سعيد، أن أقوم بترتيب شَعري بعد الحمام وحلاقة ذقني، أنثر العطور فوق لباسي بعد أن ألبس أجمل وأفخر ما لدي. بعدها أحثّ خطاي واثقاً من نفسي كما لو أن المخابرات لا تبحث عني، أجلس في مقهى برجوازي وأحاول ترتيب كلمات مخملية تشبه تلك التي أشاهدها في الأفلام، كأن أقول للنادل «بونجور» بدلاً من «صباح الخير». أن أقول له «فنجان قهوة مع حليب» بدلاً من «ركوة قهوة». أن أنسى أنني ملاحق، وأنسى أني زرت السجون والمعتقلات. وأحاول أن أتذكر جمل لطيفة تليق برجل على أبواب الأربعين وهو يبحث عن موت جميل في دهاليز هذا الوطن المنسي. أضع ساقاً على ساق وأتناول هاتفي لأتحدث مع أمي عن مشروع إجازتي على شواطئ باريس ومدريد وهاواي، أبتسم لصوتها الملائكي وأغلق المكالمة. أتناول صحيفة أجنبية من رفوف المقهى فأبحث عن خبر لا علاقة له بالرئيس ومنجزاته في وطني، لا أريد أن أعكر صفاء يومي بوجهه البهيم كما كان يحدث كل يوم. بعدها أذهب إلى مطعم آخر لأتناول الطعام مع أصدقائي، أطلب وجبة سيمون فيميه مع كأس نبيذ أبيض فرنسي فاخر من ماركة شاردوني. أتناول وجبتي بهدوء كما لو أنني من مواليد جنيف أو باريس، أطلب الحلويات بعدها وأنسى إبريق الشاي. بعدها أعود للمنزل لأسرق قيلولة من يومي الأخير في هذه الحياة. أستيقظ بعد الظهر على قبلة من حبيبة لا وجود لها، تلبس فستاناً أحمر، يتدلى شعرها المعتم على كتفها وهي منحنية، أضع يدي على وجهها وأبتسم وأقف واثقاً من نفسي كما لو أنني قبطان في مركب حياتها.

 

أحب أن يكون هذا اليوم كالأحلام اللازوردية حين تتسلل إلى أحلامنا وتجعلها جميلة وقيّمة، أتباطأ في كل شيء كما لو أنني كنت فاتحاً في التاريخ، والبشر ستخرج في جنازتي وهي تبكي وتصرخ بأن الحياة خسرت رمزاً من رموز الكون. أجلس على طاولة العشاء، أتناول وجبتي الأخيرة ببطء أيضاً، أحتسي آخر قدحٍ في حياتي، أبتسم ابتسامة المنتصر في الحرب وأعود لسريري. أتمدد وأبتسم وأغمض عيني والنية بأن أنام، لكن يأتي عزرائيل ليقبض روحي. بعدها بلحظات وأنا ممدد على السرير جثة هامدة، أرى زوجتي وهي تدخل إلى الغرفة، تلبس فستان نومها، وتنثر العطر على عنقها وتمشي ببطء كي لا توقظني، تتمدد بجانبي وتمسك بيدي، تقول لي بصوت بالكاد يسمع: «لم يدك باردة؟!»، لكنني ميت ولا قدرة لي على الحراك والكلام، تكرر السؤال بصوت أعلى من قبل «لكنني ميت يا حبيبتي، حاولي أن تدركي ذلك قبل أن تتفسخ جثتي وتصبح جيفة، فأنا لا أملك أن أبقى هكذا خارج القبر لساعات، يجب عليكم دفني في أسرع وقت، لأن جسدي منهك من السياط و قلة الطعام، جسدي المحشي بالشعارات والأقاويل التي لا تفيد بنسبة ضئيلة جداً من الفيتامينات لا قدرة له على البقاء هكذا، أدفنوني»، أحاول أن يتجاوز صوتي حدود حنجرتي، لكن بلا جدوى، فأنا ميت، أدفنوني.

 

حين تجدني زوجتي بلا حراك، تجحظ عيناها بشدة وتتكأ على مرفقها بذعر موجهة رأسي نحوها وهي تحاول أن تهزني كي أستيقظ، لربما كنت مريضاً أو أصابني دوار أو شيء جعلت يدي باردة. لكنني ميت يا حبيبتي، أدركي ذلك قبل أن تفوح رائحة التملق عن الرئيس من جسدي، قبل أن تطفو كلمات الموالاة والأدعية الكاذبة على جسدي وتغرق هذا البيت بخيبة. تحاول مراراً وهي تقول لي: «استيقظ»، لكن أنا ميت وكيف لي أن أصحو؟ أنا ميت هيا أدركي ذلك وأرسلي خلف أي رجل دين يقرأ فوق رأسي آية من كتاب سماوي لأواجه ربي وأقول له إن هناك ديانة ما استقبلت جثتي وليس كما كانوا يقولون جنود وزعران الرئيس بأنه لن أجد رجل دين يقرأ على جثتي لأنني شتمت الرئيس وانضممت لحزب سري مناهض له.

 

أنا ميت، هيا أدركي ذلك ولا تنسي أن توصي لي بكفن، ضعوني في القبر ولا تستغفروا لي أو أن تطلبوا وتتمنّوا أن أسكن الجنة، لأنني بلا شك سأدخلها وسيغفر الله لي خطاياي لأنني من وطن احتملت العيش فيه تحت سقف الرئيس وزعرانه. احتملت فيه الوقوف ساعات على طوابير المخابز وأنا أحاول أن أحصل على رغيف خبز لعائلتي وأدعو للرئيس بالعمر المديد وهو يسرق من خيرات وطني، أن أتحسر على ساعة نور في عصر التطور وهو جالس في قصره الدافئ، أن أرسل أولادي إلى المدرسة وهم ليسوا جائعون وأولاده يركبون المرسيدس والتيسلا والليموزين. احتملت فيه صعود وهبوط الدولار وراتبي كما لو أنه جالس على كرسي في متحف لعرض الأثريات التاريخية، والرئيس جالس على كرسي من ذهب، ويحاول جعله إلى كرسي من ألماس, احتملت العيش في وطن يشتمني فيه عنصر المخابرات وأشكره بعدها لأنه لم يزلزل جسدي، احتملت العيش في البرد والنفط والغاز يتسرب للخارج ليزداد من رصيد الرئيس. احتملت العيش في وطن أقطّع أوراق الشجر لأطعم أولادي وأقول لهم: «اشكروا ربكم لأننا نعيش في عهد الرئيس».

 

أغسل وجهي كل صباح بالتراب متيمماً لأننا لا نملك الماء في دولة غنية بكل شيء. لا تستغفروا لي، كل ما عليكم فعله أن تضعوني في القبر وتكتبوا على الكفن:

«سوري».

الاسمبريد إلكترونيرسالة