هكذا إذاً، لقد أخطأ مرة أخرى أنبياء الشؤم الغربيون، أتباع الانهزامية في رؤيتهم القاصرة للعالم. كوباني المدينة الكردية المحاصَرة من قبل الإسلاميين، لم ترفض السقوط في أيديهم فحسب، لا بل حُررِّت ببسالة من همجيتهم خلال أربعة شهور فقط، رقم قياسي بالنسبة لسوريا إذا ما فكّرنا بحمص وحلب، لكن هذه الشهور الأربعة كانت دهراً بالنسبة للمقاتلين الأكراد، كان عليهم أن يقاتلوا يوماً بعد يوم، قدماً لقدم، اشتباكاً بالأيادي، وبالحرابِ أحياناً، كي يتقدّموا فقط بضعة أمتار أو يستردّوا خرابة خسروها قبل يوم. أربعة شهور، تعني ليلاً طويل الأمد لمن ينبغي لهم تحرير المدينة، شارعاً شارعاً، بيتاً بيتاً، وسط مشاهد من الدمار تُذكّر بستالينغراد العصور الحديثة. يُضاف إلى كل هذا نقص الماء، الغذاء، الذخيرة، المواد الطبية لإسعاف الجرحى، وكل ما من شأنه أن يجعل الحرب أقل رعباً لِمَن تعوّد ألاّ يُحرَم من شيء. معركة كوباني لم تكن هزيمة مُشرِّفة كما في كامارون، بل نصراً خاطفاً كما في بورودينو.
على غرار ما فعل شيرشل عام 1940م، لم يكن بوسع القادة الأكراد أن يعرضوا على شعبهم ثمناً للنصر سوى الدم والدموع والألم، وفي غضون ذلك، كان عليهم تحمُّل الصدمة، الثبات والتعوّد على المعاناة. استطاع الأكراد تحمُّل كل شيء، لقد عاشوا في تحصينات ارتجالية، خنادق بسيطة وملاجئ بُنِيت من هنا وهناك بعجالة وخنادق حُفِرت بين المباني، قاتلوا خاويي البطون وكئيبي القلوب، ينامون – إن يُتاح لهم وكلما سمحت لهم ظروف المعركة – خلف أكياس من الرمل أو صفائح من الحديد الصدئ جُلِبت من مقابر السيارات.
باهظ ثمن الحرية لحظة الحساب، فمن الكتيبة الأساسية المكوَّنة من ألفين وخمسمائة مقاتل ومقاتلة، المحاصرة منذ أيلول/ سبتمبر، وتقاتل دون تراجع بمساعدة بضعة مئات من المدنيين، قُتِل وجُرِح النصف في هذه المعركة الشرسة التي دخلت أسطورة التاريخ، دفع الجهاديون بلا شك ضعف هذه الفاتورة وأُلحِقت بهم هزيمة نكراء لم يعرفوها في تاريخهم.
لم يبقَ من كوباني الآن سوى أكوام من الأنقاض والحُطام والحصى تنتثر فوقها الجثث، ما يُبنَى في عصور يُهدَم في بضعة أشهر، إنها الحرب وويلاتها.
في بداية حصار المدينة، أتذكّرُ أنّ سفارات أوروبا كانت تتوقع للأكراد أن يستسلموا في غضون أسبوع لا أكثر، وأنّهم سيَلقون نفس مصير القوات المسلحة العراقية التي رمت السلاح قبل شهرين في الموصل، وكيف لا يحدث ذلك أمام هذا المد من الجهاديين الذين استولوا على كل السلاح الثقيل للجيش المنهزم، من دبابات ومدفعية وصواريخ. ربما لا يرقى الأكراد إلى هذا المستوى من القوة بما يمتلكونه من سلاح خفيف. لكن إذا ما انطلقنا من هذا المعيار لنُقيِّم الأمور، نكون قد جهلنا تماماً الاختلاف في الطبع والنفسية لدى الجنود العراقيين المجرّدين من أيّ مثال، والمقاتلين الأكراد المتشرّبين بدافع باطني نحو الحرية والحلم الديمقراطي، فما يتمتع به الشعب من طبع ونفسية عامل جوهري في خسارة المعركة أو ربحها، وليس للسلاح سوى دور ثانوي في المعادلة. علينا ألاّ نخلط بين الأشياء.
ماذا فعل الأكراد من أجل تحقيق النصر؟ حقاً، لقد كانت الضربات الجوية حاسمة لإيقاف التعزيزات المستمرة التي كانت ترسلها الميليشيات الإسلامية إلى حقل المعركة في حين لم يتمكن الأكراد المحاصرون من جميع الجهات حتى ملئ الشواغر الناجمة عن خسائرهم، ولولا هذه الضربات، لبقوا ربما في مربعهم الأخير، ومع ذلك يعود سر انتصارهم إلى أمور أخرى، إلى فضيلتين؛ القيم والهدف الجماعي. لدى أكراد سوريا قيم لم يمضِ عليها الدهر، كالشجاعة والتضحية والبطولة وإنكار الذات وحب الوطن، هذه العبارات لها معنى، لها ثقل وجانب مادي مؤثّر، عبارات محفِّزة، يستخدمها الشباب بشكل متزايد. أمّا بخصوص الهدف الجماعي، فهو يكمن في عدم رؤية الدولة المستقلة التي أسسوها في شمال شرق سوريا، بعد التخلص من نظام بشار الأسد، تزول من على الخارطة. إن لم تكن دولة قانون فهي دولة أمر واقع، لكنها في النهاية دولة لها جيشها، شرطتها، حكومتها، برلمانها، إدارتها وخاصة مشروعها المجتمعي الثوري بالنسبة للشرق الأوسط. الديمقراطية، العلمانية، المساواة بين الجنسين، العدالة الاقتصادية، اللامركزية واحترام الأقليات المشاركة في الحكومة، من عرب ومسيحيين، مازالت الأمور بعيدة عن الكمال لكنها تسير في الاتجاه الصحيح.