-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

على قارعة الخجل



ماجدولين الرفاعي

 

للغياب رائحة تشبه رائحة احتراق القلوب فوق مواقد الانتظار، لكنني في ذلك اليوم فقدت حاستي الخامسة، وضللتني السادسة عن معرفة الحقيقة، فوقعت في بئر الشك والبلاهة.

كنت أنتظر الحافلة التي تأخرت عن موعدها كثيرًا في ذلك المساء الأيلولي الأصفر، وقد بدأ القلق يوسوس لقلبي، ويلح بالأسئلة: أين سأمضي ليلتي إذا تقطعت بي السبل، فالليل في مثل هذه الظروف الصعبة ذئب جائع؟!

أيقظ شرودي رجل أشعث الشعر بملابس نوم رثة قذرة حافي الأقدام إلا من جلدها الميت وشقوق كعوبها العميقة، يبدو لي أنه خارج للتو من مشاجرة تركت آثارها على جميع أجزاء جسده...

اقترب مني بخجل فنفرت، ورجعت بضع خطوات إلى الوراء، كانت رائحته منفرة جدًا، وكافية لقتل كل ذباب الكون وحشراته...

برجاء وشبه توسل طلب لفافة تبغ. لم أتردد. أشعلتها له ثم ابتعدت كي لا تخنقني رائحته النتنة من جهة، ومن جهة أخرى خوفًا من غريب لا أعرف ما يضمره لي من شر.

في الحروب تصاب المدن بالعقم، وتختفي مظاهر الفرح والحركة فيها، فتصبح المساءات شبه خالية وموحشة إلا ممن علق على أحد الحواجز الأمنية فتأخر عن العودة إلى ملاذه، ولذلك لم يكن هناك غيرنا في انتظار الحافلة الأخيرة لهذا اليوم.

كنت أحاول الابتعاد عنه ما أمكن مع اختلاس النظر إليه بين الفينة والأخرى. اقترب من جديد وبصوت متهدج سألني إن كنت واثقة من قدوم الحافلة. لم أجب عن سؤاله، إنما سألته إن كان يملك النقود لدفع الأجرة؟!

استبشرت بابتسامته التي خففت من توتري، وحلت عقدة جبيني قليلًا، وأجاب بعد الحمد أن النقود لا تنقصه، ثم أشار بيده إلى هاتفي المحمول، وسألني إن كنت أسمح له باستخدامه، في تلك اللحظة انتفض عقلي، وبدأ بتحليل الموقف، ومعاتبتي على طيبتي في التعامل مع الغرباء الذين يتمادون في طلباتهم، سيجارة، ثم الهاتف، ثم لا يعلم إلا الله ماذا يريد؟!

وعندما رفضت، طلب بخجل ورجاء، وأكد أنه لن يلمس هاتفي، فقط يريد أن أطلب له رقم الهاتف، وأغلقه فقط من دون أن يتحدث!

بعد قليل، رن جرس هاتفي، وكان الرقم الذي طلبته، ولا أدري ما الذي جعلني أتخلى عن حذري في تلك اللحظة، فناولته الهاتف ليجيب على المتصل...

بصوت متهدج يغمره الفرح ودموع منهمرة، قال لها:

أمي أنا على قيد الحياة.. أمي أنا أحمد، للتو أطلقوا سراحي، أخبري جميع أفراد الأسرة، وانتظروني أنا قادم.

أعاد لي الهاتف، وجلس على الأرض، وراح يبكي كطفل أضاع أبويه.

من بعيد سمعت صوت المرأة تبكي وتشكرني، لأنني زففت لها البشرى بخروج ابنها من المعتقل، سمعتها تقول بصوت تخنقه العبرات: الحمد لك يا رب بعد ثماني سنوات عاد لي ابني من المعتقل بعد أن قطعت الأمل من عودته!

وأردفت قائلة بكم من الحب يكفي ليصبح العالم بلا ضغائن أو حقد: تعالي معه يا بنتي، تعالي لنكرمك بما تستحقين من تكريم.

أغلقت الهاتف وبكيت لا على المعتقل والظلم الذي تعرض له، ولا على دموع والدته الذي حفر وجداني!

إنما بكيت على نفسي من تكبرها.

 

تعديل المشاركة Reactions:
على قارعة الخجل

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة