إسراء حامد
كيف دمر العلم الحياة، لكنه ساعدنا في إيجاد معنى في هذه الحياة... في عالم تكسوه العبثية، تبدو فيه هاوية الأشياء أكثر وثوقا من معانيها.
“ما معنى الحياة في ذلك الكون الصامت؟” كان هذا السؤال بمثابة الحياة أو الموت عند ليو تولستوي، فلم يكُن سؤالًا مجردًا محض النظرية. ” لما يجبُ أن أعيش؟ … فما هو ذاك الجوهر الأصيل من حياتي الوهمية – الفانية على أية حال؟”، “أفضل شيء أن أزهق روحي…، تلك الحالة من العجز على إيجاد إجابة شافية يمكن أن تودي بحياة أحدهم في نهاية المطاف على شفا الانتحار .” من كتاب سيرته الذاتية (اعترافات – ١٨٨٢).
كانت المفاجأة عندما وجدت أن السؤال لم يكن أزليًا كما قد يعتقد البعض؛ فلم يظهر في الإنجليزية حتى عام ١٨٣٤. حيث سجل السؤال (معنى الحياة؟) لأول مرة في رواية سارتور ريسارتوس Sartor Resartus لتوماس كارليل.
ذهب بطل الرواية في خطوات تقليدية بحثًا عن أزمة الوجود برمتها قبل عرض السؤال. فدنا أول الأمر من التفريط في المعتقد الديني، ومن ثم أعلن عبثية وهاوية الكون بدون الله. يقول:“انبثق الإلحاد من الشك، تدفقت الظلال بعد الظلال تاركة روحي مصابة بالعتمة، لا يوجد إله، إذًا فماذا بعد ؟ فكان الكون بالنسبة لي خاليًا من المعنى، كمحرك بخاري ضخم يدور لا متناهيًا دون اكتراث حول العدم وألا شيء ممزقا إياي بين ثناياه”.
كانت أزمة الوجود عند ليو تولستوي حافلة بالأسئلة المعذبة والتي تلاحقه، يذهب لممتلكاته متسائلًا دومًا (لماذا أفعل...؟).
التمسك بالمعاني عند تلاشيه
حسنًا، لابد من وجود شيءٍ مميزٍ في الجو العام للقرن الـ ١٨ لدرجة اكتساب السؤال شكله الفريد هذا، كانت البداية مع الرومانسيين الألمان فريدريك شليجل ونوفاليس باستخدامهم عبارة (der Sinn des Lebens) التي تعني الإحساس بالحياة. فهما نقطة الانبثاق ليس لكارليل فحسب بل لكلا من سورين كيركغور وآرثر شوبنهاور – الأب الروحي لنيتش. شكل كل منهم دورًا أصيلًا في تحويل هذه الأسئلة الباطنية إلى تلك العبارات والأسئلة الوجودية المألوفة في يومنا هذا.
شهد القرن الـ ١٩ تحولات عدة في المجتمعات الغربية، بداية من الثورة الصناعية تلك. لذا لأخوض في القول بأن القوة الرئيسية الكامنة وراء تلك الأزمات الوجودية لكارلايل وليو تولستوي وآخرين هي النظرة الإلحادية العامة الناشئة، والتي شجعتها حتمًا النزعة العلمية المجردة بالعيش فيما أسماه كارليل نفسه “قرن إلحادي”. فعزف كارليل عن المعتقد الكالفيني المتشدد لوالديه . فيشير إلى شعلة العلم المنبثقة تلك “لدرجة يصعب فيها حتى ألا يتوهج مخبأ أو شق للطبيعة أو الفن”.
كما كان تولستوي، فبالطبع لم يكتب مصادفة:” الحياة على الأرض لا تملك ما تمنحه” . فكان غارقاً قبلها في أزمة وجودية . اطلع على الفيزياء ومبادئ الجاذبية والحرارة….في محاولة منه لفهم قوانين الكون الباردة بشكل أفضل، لكنه وأثناء هذا فقد إيمانه بالمتعالي.
بعد أكثر من قرن من وفاة كارلايل وتولستوي، تسللت الرؤية الإلحادية للأشياء من حولنا بدرجة لا تحتمل. ولكن هل حقًا لدينا الإجابة عن سؤال المعنى الذي لطالما سعى إليه هؤلاء وخارت قواهم ولم يجدوا شيئًا؟
أظهرت الأبحاث مؤخرًا بأننا نحن المدنيون المتمتعون بشيء من الغنى في بلاد متقدمة نكافح لإيجاد هذا المعنى . أجرى إد دينار والياباني Shigehiro Oishi دراسة تحليلية في عام ٢٠١٣ استنادًا على الاستبيان الذي تم من قبل مؤسسة غالوب لجريدة علم النفس حول العلاقة بين الرفاهية والرضا، كانت النتائج الأولى ليست مفاجأة: يتمتع الأشخاص في المجتمعات الثرية بمعدل رضى أكبر بحياتهم، ولكن مع تفقد العلاقة بين مستوى الثراء هذا والإحساس بالمعنى، وجد الباحثان نمطًا مغايرًا تماما حيث أعرب أفراد المجتمعات الغنية عن افتقارهم لما يعرف بالهدف أو المعنى الهام من الأشياء.
أجل ، فأفراد دولٍ كفرنسا، اليابان، وأمريكا أظهروا ندرة المعنى خلف حيواتهم. بينما في المقابل كانت أفراد دول كتوغو والسنغال وسيراليون في الصدارة فيما يتعلق بالمعنى. لذا اتصل في أبحاث عدة حديثة الافتقار للمعنى أو الغاية بزيادة معدل الأفكار الانتحارية تلك. كما وجدوا أن عزوف الأفراد عن المعتقد الديني يؤدي إلى ندرة في إدراك الهدف المنشود من الحياة. لذا تعد هذه النقطة الفاصلة الموضحة لسبب زيادة معدلات الانتحار في المجتمعات الغنية رغم ما يتميز به الأفراد داخل هذه المجتمعات. كل هذا يجعل من مسألة العثور على المعنى تلك ضرورة ملحة. فكيف للفرد أن يعثر على ذ المعنى في الحياة والكامن وراء الأشياء بينما يحيا في مجتمع علماني في المقام الأول؟
عنصري المعنى
يتحتم أولًا الفصل بين إشكاليتين: معنى الحياة، والمعنى في الحياة. فالأولى تمثل الحياة بشكلها العام، تعكس أسئلة من نوعية لماذا يوجد الكون؟ أو هل تمتلك البشرية لما يعرف بالغاية؟ وهذه النوعية من الأسئلة دائما ما نتوه بين ثناياها في سعي أبدي خالي الوفاض، والذي تشلها أيضا النزعة العلمية المتعصبة في كون دنيوي جاحد، يدار بقوانين الطبيعة الصماء. فإذا أرادنا حقًا الوصول للمعنى يجب الاستعاضة بالأسئلة حول المعنى الكامن بالأشياء.
فأسأل نفسي في المقابل حول المعنى في الحياة المنبثق من الأشياء، وما الذي يجعل حياتي ذات معنى لفردي؟ أين أجد الغاية لأسوق حياتي؟ وهذا ليس سؤالًا حول قيمة الكون، بل هو حول الأشياء الصغيرة التي نعثر فيها على القيم الفريدة؛ أي ما يجعلني أشعر أن حياتي تستحق العيش.
يدرك الأفراد ذلك المعنى بالأشياء بطرق فريدة ومستقلة. فيمكن أن تبدو بعض الأشياء ذات معنى لأحدنا بينما هي في المقابل ليست سوى أشياء مجردة وعبثية لآخرين. فيبدو لي مكان بالغابة قضيت بقربه ربيع طفولتي كل ما أملك؛ وهو الشيء المقدس بالنسبة لي، في حين أنها ليست سوى أشجار، أحجار، ومستنقعات لآخرين مجردة من أية من المعاني.
كما ظهر منذ فجر حصاد المعرفة حول عمل النفس البشرية والدوافع الكامنة وراء الأشياء سمتان عامتان للأفراد:
أولهما ميل الكثير منا نحو السعي لشيء أعمق من ذواتنا، أي السعي نحو بلوغ القيم ذات المعنى في المجتمعات وليست بالضرورة المعبرة عن ذواتنا. فكر في نيلسون مانديلا، مارتن لوثر كينغ، أبراهام لنكولن أو المهاتما غاندي؛ هؤلاء تراءت لهم القيمة في أعين من جاهدوا لأجلهم.
عُرض على بعض من الأفراد لعب لعبة عادية والبعض الآخر أخبروهم بأن حصاد نتائجهم في هذه اللعبة يذهب كنقود لصالح برنامج الغذاء العالمي للأمم المتحدة، بينما يلعب الباقون فحسب، لم يكن مباغتًا تقدم المجموعة الثانية؛ فكانت ترى المعنى والغاية الكامنة وراء هذه اللعبة البسيطة ولم ترها على أنها شيء مجرد وعبثي. ولكن هل هذا حقًا كل ما يدفع المعنى لنا في هذه الحياة، الحصول على المعنى من إرضاء الآخرين ؟
تخيل أن تكون جراحًا قلبيًا تجري كل يوم العمليات التي تنتشل الأفراد من الموت، والتي لا تحيي حياة الفرد فحسب بل كل ذويه. أليس هذا حقًا يمثل قمة المعنى؟ حسنًا لا تتعجل، يخبرنا الطبيب النفسي وليم ديمن أنه وجد أحد هؤلاء ولكنه لا يستشعر قيمة المعنى، بل انه أقسى ما يكون عن هذا، شخصٌ بائسٌ لا يقدر حتى على النهوض من سريره وخوض يوم جديد في هذا العالم ؛ قال انه يفعل هذا لأبويه والمجتمع فحسب، منشقًا عن أعمق احتياجاته، وكم يرغب في العثور على ما يجعله سعيدًا وليس مجرد الحصول على رضى أسري ومجتمعي.
الجدير بالذكر هنا أن المعنى في الحياة لا يتصل بالضرورة بالآخرين، بل هو أكثر وثوقًا بنوافذنا الفريدة في سعي نحو غايتنا المستقلة، المعبرة عن ذواتنا الحقيقة بعيدًا عن توقعات الناس وآرائهم؛ فيبدو للبعض أنه المفتاح الموازي لإدراك المعنى.
في دراسة حديثة توضح المفارقة بين ما نراه لأنفسنا – والمحقق للمعنى بالنسبة لنا -، وما نحن عليه – الناتج غالبًا من النمط المصمم مجتمعيا- ووجدوا أن ما يراه الأشخاص لذواتهم الحقيقية لم يكن ما هم عليه أو على طريق بلوغه، بل ان ذواتهم الاجتماعية تبدو مغايرةً تمامًا لتلك الحقيقية الكامنة في أعماقهم.
كيفية إضفاء المعنى لحياتنا
أكثر الطرق فاعلية للوصول إلى المعنى هي تلك المعبرة عن ذواتنا والتي تمكننا من الانخراط مع الآخرين. فالتحدث إلى العامة، بالإضافة إلى كونه سمة ذاتية يمكن أيضًا من خلالها التعبير عن قضية اجتماعية معينة، والأشخاص الذين يعزفون الجيتار كشيء يعزي أرواحهم وذواتهم يمكن أن يكون أيضا أداة البهجة لمستمعيهم.
كما أنه لا يمكن التغاضي عن العمل التطوعي فهو الذي يجعلنا نصل إلى ذروة هذا المعنى. فلا تسعى نحو النجاح والسعادة المجردة، فتلك مساعي منبطحة، يمكن أن تتركك فارغًا منعدمًا ذاتيًا؛ بل التفكير فيما يعبر عن ذاتك التي تخلصك من قبضة الانصياع. ومن ثم يمكن لتجربتك الفريدة الخوض في تجارب مفعمة بالحياة مع الآخرين.
فكتب ليو تولستوي حتى أثناء الأزمة الوجودية الشاقة التي كان يعانيها معبرًا عن مضمون هذين العنصرين: “قطرتي عسل، محبتي لعائلتي وللكتابة” – (المساهمه، الذاتية)، ما ساعده على الاستمرار في العيش رغم ما كان يعانيه. فما علينا نحن البشر التي تتجاذبنا تلك القوتين سوى إيجاد الطريق الذي يعبر عن ذواتنا المستقلة، غاية إسهاماتنا وموقفنا من الحياة. فذلك هو الترياق لوجود ذي معنى، فعندما تجد ترياقك الفريد المعبر عن مضمون دوافعك يمكنك السماح للنجاح والسعادة بمعرفة طريقهم إليك، ولكنها بالطبع لن تكون مجردة من المعنى.
عن موقع المحطة