محمود محمد نعسان
مضى من القلب والروح نار الرغبة المتأججة من الزواج، حلم كل شاب، ورغبة كل مراهق، ودواء كل عليل، تسلل إلي ملل خفي، وفتور كسر الإنسان في داخلي، وما الإنسان إلا العمل للبناء والترقي، إذا توقف الإنسان عن الرقي بتوقفه عن العمل حينها ولا بعدها سيصبح العدم وينزع عن نفسه ثوب الإنسان ولن تسمح الحيوانات بأن يدخل حيزها.
إذا سقطتِ الريحُ من على كتفيك
ولم يبقَ لك إلا عدنُ النعيم
وتغنيتَ بالعيون ونادك النهود
ورقصت معك النحور الهفاهيف
وشربتَ الخمور وضيعت العقول
وركضت عليك أقدام الغلمان
ومات كل شيء فيكَ إنسانٌ حق
عندها ولا بعدها ستفقد الشيء
وتصبح العدم ويعلوك الهدم
وتغدو ابن الخراب وجار الدمار
وحينها ستكون فقيد العقل
قتيل الإنس رقيد الرمس
دفين الحياة وطريح الموت
ستكون عبء تراب الأرض
وتلعنك الهوام وتلفظك الأنام
أنت رقمٌ صفر لا عددٌ يُعد
أنت ابن القعود وزوج الرقود
وديوث العمل وليث الكسل
أنت ابن الخراب وتاريخ الدمار.
متى سيشبع الإنسان؟ كلما قضى نهمه من شهوةٍ تعلق بغيرها! متى سيصل إلى الاكتفاء والشبع ويغدو في مرحلة هو فيها مكتمل رغائبياً؟ قد لا توجد هذه المرحلة في حياة الإنسان، إذ أن الحياة مفطورة على إشعار الإنسان بالنقص لحث خطاه إلى العمل والمزيد، إذ أن الرغبة هو طعم استمرار البشرية على الأرض.
العجوز الذي غيّر حياتي، وفتح عيوني، وأنار بصيرتي، وأتعبني أيما تعب، وجلب علي من الأثقال ما تنأى الجبال عنه، العم إياد الحمدوري البالغ من العمر 77 سنة، منحني الظهر، يكاد يكون زاوية قائمة وشوكة في حلق الكسل، تجاعيد وجهه خريطة عناء وملامحه دليل سعي، شعر حاجبه يلامس عينيه، قال لي:
- هل أنت راضٍ بواقعك؟
- ومَن مِنّا راضٍ بواقعه؟
- فلماذا لا تحسن واقعك؟
- وكيف؟
- إذا قررت التغيير ستفكر، وإذا فكرت لتعرف الطريق، لكنك لن تعرف الطريق إلى التحسين إلا بشعورك بدناءة واقعك ومن ثم رفضه والبحث عن بديل أفضل.
- الكثيرون حاولوا وفشلوا.
- تعلم مِن فشلهم، ولا تقع في أخطاءهم.
- جرب مَن هو أعلم وأقدر مني.
- كل الحلول لتحسين واقعنا كانت فردية والكثير كانت لمصالح شخصية.
- مستحيل أن نستطيع تغيير واقع السوريين.
- الموجودات ثلاثة: واجب الوجود ومحال الوجود وممكن الوجود، كل ما يمكن وجوده ولو بنسبة 0.1% فهو ضمن الممكن الوجود، والتغيير نسبة حدوثه أكثر من 0.1% فهو ممكن الوجود ولو كان صعباً، ولكنه غير مستحيل.
- نحن نحتاج إلى الكثير من العلم لنتأهل لخوض زمام التغيير.
- الملعقة أصغر من الكأس ولكن بدونها لا يتحرك السكر ويذوب ولا نشعر بحلاوة السكر في الشاي، فلنكن الملاعق التي تحرك المؤهلين من الداخل.
- حركت المارد في داخلي.
- امقته كي يستيقظ لينتفض.
- أكثر من انتفاضتنا؟
- نحتاج إلى ثورة على الثورة.
- كيف؟
- بأن نفكر...
من أين أتيتني يا عم إياد؟ وأي عقل تحمله أيها العجوز؟ مَن يراك يقول بأنك ورقة صفراء تطير مع الهواء، ولكن همتك تهد الجبال وتفتت الصخرة، الضعفاء هم نحن معشر الشباب، والمتقهقرون هم نحن أبناء الثورة، والمنحرفون هم نحن الذين قلبنا الثورة ثروة، نعم لقد صدقت القول وأحسنت البيان، لقد أعدت تأجج الشعلة في داخلي، أي حياة نعيشها نحن؟ وأي نصرٍ حققناه؟ وأي حياة اجتماعية نعيشها؟ الحيوانات منظمة أكثر منا، ولديها خطة عمل أحسن منا، ومنتجة أكثر منا! لقد خسرنا أثمن ما نملك، أرواح كنا نأنس بها، لقد خسرنا الوطن، الدراسة، المستقبل، الطفولة، المال، مسقط الرأس... فما الذي بقي نخاف عليه كي نتجرع ذلنا من أجله؟
ما حالنا إلا كالذي دخل غرفته جرذ فطرده إلى أن أخرجه من الغرفة ولم يكمل طرده خارج المنزل، فهو يعاوده كل ليلة، قلت بحماس وحيرة:
- أنا مقتنع بكلامك وبأهمية وضرورة العمل؛ لكن كيف؟ وكيف نفكر؟
- مشكلتنا أننا لا نعي قدر المأزق الذي نحن فيه! نحن نعيش ونأكل ونشرب وننام وتفكيرنا محصور في الأمور التي هي أسباب للعيش وليس غايات، وهذا أمر تم العمل عليه لعقود من قبل حكوماتنا الاستبدادية، إذاً أولى المهمات هو وضع القضية السورية ضمن تفكيرنا، وعند التفكير – التفكير وليس النوُح، التفكير للعمل – تظهر النتائج.
- ولكن الناس مشغولة بلقمة العيش.
- لقمة الحياة في سوريا أطيب من اللجوء، ومع الكرامة ألذ من الذل، أنا لا أنكر أهمية هذه اللقمة وأقدّر وضع الحياة فأنا ابن الشارع لا ابن البرج العاجي، ولكن نحن مجبورون على أن نخرج أنفسنا من الدائرة التي رسمها الاستبداد لحياتنا ونطاق تفكيرنا، يجب أن نكون على قدر لفظة إنسان.
- ومَن منا ليس إنسان؟
- مَن لا يملك مشروع يفيد البشرية جمعاء أو يحسن الحياة.
- لم أفهم!
- هناك آية في القرآن لو تدبرناها وتعقلناها وعملنا بها لتغير وجه العالم.
- أي آية؟
- هي قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، [سورة البقرة: الآية 30]، هذه الآية تخبرك أن الإنسان خُلق في حياة مليئة بالكد والتعب والخراب والدمار والآلام، ومهمته أن يحسن هذا الواقع ويزيل عنه الألم، لا أن يمد يديه عند كل نكبة إلى الله متواكلاً متقاعساً؛ فهو الخليفة الذي يملك الأرض ولا يوجد ملك يقبل الخراب لمملكته.
- ما الذي علينا فعله؟
- علينا أن نفكر بالأسباب التي وأدت الثورة.
- تفضل.
- على رأس القائمة: الفردانية التي تسيطر علينا، فالكثير لا يعمل وإذا عمل بعضهم فالكثير منهم يعمل بشكل فردي لا جماعي، الروح الجماعية منعدمة عندنا وذلك يعود إلى الاستبداد الذي كنا نرزح تحته، لذا علينا أن نعمل بشكل جماعي.
- ثم؟
- أن ننظم هذه الجماعة، لأن الثورة كانت جسد لا جسم، جسد بلا روح ومنقطع الأوصال، ترى كل فصيل وجماعة يعمل دون تنسيق وتكاتف.
- ثم؟
- علينا أن نستفيد من أخطاءنا وأخطاء غيرنا، ولا نسلك الطريق الذي أودى بهم إلى الهاوية، علينا أن نكون مرنين، نتكيف مع التغيرات السريعة على الساحة، علينا أن نقتل الجمود الفكري لنستطيع أن نعمل سوياً انطلاقاً من هدف مشترك هو «سوريا».
- إذاً أنت تريد سوريا، لا السوريين في الخارج؟
- أريد كل سوري في كل مكان لسوريا المستقبل.
- وهل تظن أن أمثالك قادرون على ذلك يا عماه؟ هذه حرب أنفقت فيها الدول مليارات الدولارات ولن تدعها لنا.
- أكرر، الموجودات ثلاثة: واجب الوجود – ممكن الوجود – ممتنع الوجود، كل عمل يمكن أن يوجد ولو بنسبة 0.1% فهو ممكن الوجود، وفكرتنا ممكنة الوجود باحتمال أكبر من 0.1% لذا فهي ممكن الوجود وإن كانت صعبة جداً وأن أقدر وأعرف صعوبة الظروف والعوائق ولكن فكرتنا ليست ممتنعة الوجود وقد نرى ثمرة هذا العمل بعد ثلاثة أجيال لكننا حتماً سنرى إن عملنا بالشروط.
- هل أنت عالم اجتماع يا عم؟
- (يضحك بشهية) وهل يوجد تخصص في علم الاجتماع في الوطن العربي؟ لقد تم إهانة هذا التخصص من قِبل المتخصصين النائمين لدرجة أنه نُسيK لكن فراستك لم تُخطئ تماماً، في 1990م كنت طالب علم اجتماع – سنة ثالثة في جامعة دمشق العريقة وكنت شغوفاً في تخصصي ونشيطاً في البحث والتنقيب، ولكني لم أكمل وتم إبعادي من الجامعة قسراً بسبب ميولي غير المقدسة للنظام.
لقد رسم عالم الاجتماع إياد هالة كبيرة حول حياتي التي كنت أصرفها في أمور غير مقدسة مقارنة بالآن، نحن نعيش نازلة والذي يترك العمل بالنوازل ويشتغل بالنوافل فهو مسلوب العقل والحكمة، لا توجد نازلة أكثر أهمية وملامسة لواقعنا من المال الذي وصلنا إليه بعد الثورة المُغتصبة، أطفالنا مسلوبو الطفولة المقبلون على واقع مُريع بلا تعليم، كيف سيستطيعون التعايش مع الحياة وهم لا يملكون أدنى مقوماتها، من تعليم وفكر ونفس...؟ ألسنا صفحة سوداء في كتاب التاريخ؟ ألن يخجل منا أبناءنا؟ ألن يلعنونا في صمتهم ويعاتبونا في علنهم: «إذا لم تكونوا تستطيعون السير حتى آخر رمق في الثورة فلماذا انتفضتم؟»، ألن يخرجنا من قبورنا ثلاثة مليون طفل بدون تعليم؟ ما الذي فعله بي العم إياد الذي يذكرني بالعم إسحاق؟ هذه حكمة الأجداد أم خبرة الأجداد؟ أم إنها اكتشاف طيش الشباب الذي كنت أعيش فيه؟
كانت لقاءاتي مع العم إياد في حديقة الحي، وكنا نلتقي على غير ميعاد، هو رجل سارح الفكر متأملاً في الكون، صامتاً أكثر منه متكلماً، لقد انقلبت حياتي رأساً على عقب وعقباً على رأس، لا، بل أصبحت أمشي على رأسي لا قدماي، تغيرت رؤيتي للعالم والكون والإنسان، ودعوني أُذيع لكم سراً بل تغيرت رؤيتي للدين، نعم تغيرت رؤيتي للدين، أصبح العمر عندي مضمر عمل للإنتاج النافع للأمة والمجتمع لا لي أنا، وأصبح الدين هو مَن يحثني على هذا الإنتاج، إن أنا ولدت وعشت وأكلت وشربت وأبليت ومت، ما الذي أضفته للحياة؟ صدقوني لا شيء غير أني بهيمة! هل كلمة بهيمة قاسية؟ ولكن قل لي بماذا أختلف أنا عن البهيمة؟ أُولد؟ وهي أيضاً، أكبر؟ وهي تكبر، أتزوج؟ وهي تتزوج، بل أكثر مني! أُنجب؟ وهي أيضاً، بل أكثر مني! أُعيد سؤالي: بالله عليكم بماذا يختلف سيبويه عن البهيمة؟! لا شيء غير، قد تقولون بالعقل! عذراً لم تحسنوا الإجابة؛ لأني لو كنت أملك العقل لما كنتُ بهيمة! لو كنت أملك العقل لما قلدت غيري وكنت إنساناً مستنسخاً لا مبدعاً! المطلوب من العاقل أن يبدع لا أن يقلد!
لقد أصبحتُ خليفة الله بحق وأصبحت أبحث عن هذا اللقب بحقيقة، المعذرة؛ قد تقولون أني كنت خليفة العم إياد! لكن في حقيقة الواقع كانت معرفتي مبتورة وأغلب قناعاتي هي تصورات نتيجة لقاءاتي مع العم إياد، بدأت أفكر بأن أترك عشر بصمات لا بصمة على كتاب التاريخ، سأكون أدنى من بهيمة ولكن أنفع! سأكون ملعقة غير ذوي قيمة ولكنها تحرك السكر في الشاي! بدونها لن يكون للشاي حلاوة! تحرك فيَّ حس الإنسان.
بدأت أتردد على الحديقة بغية الالتقاء بالعم إياد، مضى أسبوعان على لقاءنا الأخير، ولم أكن أملك رقم هاتفه، إذ لم أكن أتصور أن يغيرني عجوز ينتظر الموت، لكن الذي كنت مغبوناً فيه هو أني أنا العجوز الكسول لا إياد، مضت ثلاثة أسابيع دون أن التقي به! هل يعقل أنه كان طيف جن؟ أو ملاك؟ أو وحيٌ؟ لكن هل هو سراب، أم حقيقة؟ كنت أخشى أن تنطفئ شعلة الفتوة في داخلي وأرجع شيخاً عجوزاً كسولاً، ولأفترض أن إياد سراب، أو أنه حقيقة ولكنه مات! هل سأتعلق به وأتغنى بمجده عوض العمل؟ هل سأكون ولداً باراً للعرب بالتعلق بالأشخاص؟
وسط التفكر والتخطيط للعمل ظهر المهدي المنتظر إياد، وأعاد لي محطة الطاقة، سألته عن غيابه، أخبرني بأنها وعكة صحية لعجوز يودع الحياة، مثل إياد لا يموت بل يُخلد، سألته مفتتحاً لحوار شيق معه:
- كيف ترى مجتمعاتنا؟
- هذا سؤال كبير عميق جداً.
- لن يصعب على علماء الاجتماع أمثالك في الإجابة عليه.
- لست بعالم اجتماع ولست بخريج، خبرتي هي من بطون الكتب وظهر الحياة، ولا يوجد عندنا علماء اجتماع بحق وحقيقة إلا بعدد أصابع اليد الواحدة!
- كيف؟
- نحن فقراء جداً في التنظير الاجتماعي والإحصائيات والمستقبليات، وهذا بسبب قلة علماء الاجتماع، وبدوره أدى إلى ضعف المؤسسة الاجتماعية في حياتنا من تخطيط وتنظيم وتطبيق...
- أنا أرى بأننا نتكلم أكثر من أن نعمل، نحن شعوب مجبولة على الثرثرة والتنظير غير المرفق بالتطبيق، وحتى تنظيرنا ضعيف ونفتقد المراكز البحثية.
- نعم أتفق معك.
- حسناً، إذاً أنت تجدنا اجتماعياً مفككون ومنظرون.
- وزد على ذلك عاطفيون.
- وماذا؟
- نتمسك بالأشخاص لا الأفكار.
- ثم ماذا؟
- إقصائيون، نزندق كل مَن يخالفنا في الرأي، ونحن أيضاً نضع العقبات في طريق مشاريعنا ونعثر أقدامنا بها، الذي يريد خوض المشروع يجب أن يملك كل المهارة لإزالة الأوهام من عقله قبل واقعه، ونحن أيضاً غير مرنين في التكيف مع معطيات الواقع، بل نعيش في خيالنا الذي ارتضيناه لأنفسنا.
- أناشدك الله يكفي، لقد جعلتني أحتقر نفسي!
- المعذرة ولكن هذا هو الواقع.
- واقع مأساوي.
- بالفعل.
- ما دورنا؟
- دورنا أن نحسن الواقع.
- كيف؟
- الطرق كثيرة والوسائل متعددة، لكن العاملون قليلون، السواعد المشمّرة قليلة، نحن نبحث عن إنسان الإنسان!
- ما هو إنسان الإنسان؟
- هو الإنسان الذي عرف قيمة إنسانيته.
- كيف عرفها؟
- أن الله كرّمه بالعقل، وأنه يختلف عن البهيمة بهذا العقل، ولكن إن لم يستخدم هذا العقل الذي هو ميزة التكريم فهو في هذه الحالة يشبه البهيمة.
- ومَن منا لا يستخدم عقله؟ ألست تذهب وتأتي وتعمل وتفكر بعقلك؟
- أنت مخطئ، المستخدمون عقولهم قليلون، فالذي يأكل ويشرب ويعمل ويناقش ليس بالضرورة أنه يُعمل عقله، ألا ترى أننا فقدنا الإبداع والأفكار الجديدة وأننا أصبحنا استنساخ لأجدادنا لا أكثر! إنسان الإنسان هو الذي يعرف قيمة عقله وأفضليته على كل الكائنات، حتى الملائكة، ويعطي قدراً لهذا العقل فيعمل به على حل مشكلات الواقع والبحث عن أفضل الحلول، والمرونة في التنقل بين الحلول لا التزمت والتجمد، هو الإنسان الذي يعرف أن أهميته لا تكمن في الأكل والشرب والإنجاب، فهذه خصائص تشترك فيها جميع الكائنات! ولكن أهميته تكمن في إحداث تغيير في الواقع، في تحسين الواقع، في أن يُكتب اسمه في كتاب التاريخ.
- هل كل البشر مطالبون بهذا؟
- نعم الكل مطالب، ولكن لن يصل الجميع لأن هناك عوائق وعلائق، لكن كيف سيعرف الإنسان أنه سيصل أو لا؟ بالعمل يتبين.
- كنت أظنني ناضجاً فكرياً، وإذ أنا قزم في الحياة بفكري.
- الكل يظن نفسه عبقرياً، لكنه سرعان ما يكتشف زيف معرفته كلما عرف أكثر.
عند ذلك استودعته ورأسي أثقل من الأخشبين، لم أعد أتحمل كمية الإحساس تجاه نفسي بالتقصير والتخاذل! هل يعقل أنني عشت كل هذه السنوات وأنا بعيد عن إنسان الإنسان؟ أنا الذي كنتُ أظنني فطحل زماني ومفكر قومي! كم كنت مخدوعاً بنفسي! كل قراءاتي لم تستطع أن تغير واقعي بالشكل المطلوب! قرأت عدد غير قليل من الروايات والكتب العالمية، ما الذي قدمته لي تلك الروايات والكتب؟
عرفت لاحقاً أن الروايات قدمت لي الخيال والاستمرار بالخنوع والحياة الكسولة، وعرفت أنني كنت أخدع نفسي بأني أقرأ كتباً، بل لم تكن أغلب قراءاتي تخرج عن الروايات والتي كنت أعتقد بأنها الثقافة والأدب والفكر! وهل الأدب كان حكراً على الروايات يا سيبويه؟ الروايات جلها إلا القليل منها مشاعر، وهل يوجد أحد بدون مشاعر؟ هي مشاعر صبت في قالب أدبي ولكن هذا لا يخولها أن تأخذ المرتبة الأولى بين مقروءاتنا، الروايات علم لا يضر الجهل به، والكتب علم يضر الجهل به، اقرأ من جميع الأصناف ولكن باعتدال، ولتكن الكفة الراجحة للذي سيغير حياتك ويحسن واقعنا.
أنا الآن على أبواب الثلاثين، وبقي منتصف العمر إن كنت من أهل الستين، ما الذي سأفعله لأكون إنسان الإنسان؟ «أحيوا القضية السورية»، سمعت صوتاً في أرجاء نفسي، لم أعرف مَن الذي تكلم، ناديته: «هيه، مَن أنت؟ أظهر نفسك».
- أنا الموؤدة التي تم نزع ثيابها عنها وتركت في العراء صيفاً وشتاء، وتم العبث بها من قِبل الكل، حتى أبنائي اغتصبوني!
- لا أفقه من قولك شيئاً!
- مَن فقد مقومات الإنسانية سيفقد الفهم لا محالة.
- من أنت وإلا قتلتك؟!
- لا غرابة؛ فأنتم معتادون على الخيال.
- ماذا تريدين؟
- دوى صوتها الأجش:
- أحيوا القضية السورية.
- وهل نحن نسينا القضية السورية لنحييها؟ هذه القضية قضية شرف ووجود فكيف ننساها؟
- دوى صوت ضحكتها المستهزئة أرجاء نفسي:
- شعارات أشربتموها، اخرجوا لنا برهانكم إن كنتم صادقين.
- أنتم؟ مَن أنتم؟
- أنا وأخواتي، الكرد والأمازيغ وفلسطين والهند وإفريقيا وكل المعوزيين في كل مكان.
- صرخت وصرخت حتى تقطعت أحشائي ولم يسكتني إلا تطبيب سيماف ومواساتها، سائلة:
- ما بك عزيزي؟ ما الذي جعلك تصرخ وترتعش؟
قصصت عليها ما جرى بيني وبين العم إياد وأن الحقيقة آلمتني وغارت في قلبي، فشاطرتني الهم والألم وكانت أشد حماساً مني، وأبدت استعدادها على أن نعمل سوياً ونخطط لبدء مشروع نستطيع من خلاله رفع الوعي عند الناس لنصبح جميعاً إنسان الإنسان، سألتها بدهشة:
- كيف؟
- كما قال العم إياد؛ نتفق على ضرورة العمل ثم نجتمع لتلقيح الأفكار، ثم نستفيد من أخطاءنا وأخطاء غيرنا، ثم نعمل بشكل جماعي.