-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

«آلجيت»: فانتازيا فلسفيّة ممانعة لتسليع الفكرة



إدريس سالم

 

في عمله الروائيّ الأوّل «آلجيت»، الصادر في مصر عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع – 2021م، يطرح الكاتب المصريّ الأمير محمد من خلال مائتين واثنتي عشر صفحة مسألة وجوديّة ولاوجوديّة الشيطان/ عالم الجنّ والملائكة الملعونين، فبطل الرواية حاتم، وهو طبيب وقارئ حذِق، يقاوم باستماتة متمسّكة بعلمه وثقافته ومخيّلته التي تدور وتعمل كطواحين الهواء، لإثبات وجود النسل البشريّ والكشف عن صراع أزليّ بين عالم البشر وعالم الشياطين، هذا العالم المخيف والمرعب، الذي يقاومه ويرفضه في أحلام يقظته وكوابيسه المفزعة، هو لعنة بوجوه وأذرع متعدّدة، ليعترف الطبيب بحبّه لكاميليا، وسط حياة غير متكافئة بين العائلتين، إذ هي من أمّ مصريّة وأب يونانيّ، فيرفض بدوره الأب الخيس ماسيوس أو الحج ماسيو فكرة تقدّم حاتم (المقطوع من شجرة) لها والزواج منها، مبرّراً بغياب ذويّه.

 


تنطلق أحداث «آلجيت» بحكاية طارق، الذي مات بسبب حادث سير، فتتقابل روحه مع روح والده حاتم، والذي أيضاً تعرّض إلى حادث في مصعد البناية قبله بسبع سنوات، لتُسرد بعد ذلك تفاصيل وأحداث شيّقة، فيستهلّ محمد المتن الحكائيّ قائلاً: «بدءوا بجمع الجثث... وكانت جثّتي هي الأخيرة»، ليبلغ المبنى الحكائيّ في إقناع القارئ على أهمّيّة واتّساع وعمق الفكرة، من خلال عدد من التقنيات الفنّيّة، بعضها كانت مثيرة وممتعة، وبعضها لم تكن بالمستوى المنشود، فالعنونة كانت ارتجاليّة غير مدروسة؛ لم تملك إستراتيجيّة خاصّة بتحقيق وظيفتها الجماليّة والدلاليّة، فيما الحبكة تسلسلت أحداث المتن الحكائيّ بشكل تراتيبيّ، سردها زمنيّاً ونفسيّاً، وطوّرها من الجملة الأولى «بدءوا بجمع الجثث... وكانت جثّتي هي الأخيرة»، إلى النهاية «إن من أشدّ الحماقات، أن تفتح حواراً مع الشيطان!»، مروراً بِذُراً توتّرت فيها بعض الأحداث وتأزّمت، وقد تجلّت ذلك سلباً في تكرار التراكيب والألفاظ في بعض الأماكن والمناحي، وإيجاباً بين صراع حاتم مع ذاته ودوافعها وقيَمِها، وبين قوى أبي مُرّة ونفوذه من جهة أخرى.

 

ومن تلك التقنيات الفنّيّة البارعة أيضاً، الصيغ السرديّة المُحكمة، بتنقّلاتها وتداخلاتها، في جسد الرواية، إذ برزت حكايات داخل حكايات، كانت فيها ألم عظيم وحبّ أعظم، لفتاة شكّل اختفاؤها الغريب انطلاقة المصائب والظروف، ودخول حبيبها في أحلام وكوابيس مع الشياطين، حيث من الراوي الغائب قاد الرؤية من الخلف إلى الراوي المتعدّد، بأبطال العمل (حاتم، العمّ حسين، أبو مُرّة، سعد السفّاح، آلجيت، الشيخ عثمان، رُقيّة، الضابط...)، الذين كانوا يقصّون العمل ويسردونه. إلى الراوي المشارك، بدوريْه المحكمين، إذ نجح الكاتب من خلال الراوي والاسترجاع الفنّيّ في توضيح وتفسير قضايا وأفكار لا زالت غريبة وجدليّة ومستعصيّة على الإنسان، فوثّق أحداثها ومواقفها بأسلوب أدبيّ مميّز وبسيط، وكشف عن جوانبها الداخليّة والمجهولة، باعتمادها على ثقافة دينيّة علميّة وبثّ الإثارة والتشويق وفتح أبواب الأسئلة على مصراعيها أمام القارئ.

 

ابتكر الأمير محمد شخصيّاته في مخبره الفنّيّ، بمعطيات اجتماعيّة ونفسيّة وعقائديّة وفكريّة، موهماً بواقعيتها من حيث تصريحه لوسائل الإعلام: «إن جميع أحداث الرواية حقيقيّة، وقد حدثت بالفعل، كقصّة اختفاء فتاة في شارع النبي دانيال، وجرائم سعد السفّاح، الذي أرعب الإسكندريّة في تلك الفترة»، فجعلها وكأنّها (أيّ الشخصيّات) حيّة بيننا، أو أنّها نحن مَن نُدار ونتعايش فيها، مقدّماً إيّاها بطريقة تحليلية تارة، عبر صيغة ضمير الغائب، الذي تغلغل في أعماق حاتم وآلجيت وأبي مُرّة، وتارة أخرى بطريقة تمثيليّة، مستعملاً ضمير المتكلّم، كاشفاً بشكل تدريجيّ حوارات وتصرّفات وانفعالات الشخصيّات الرئيسيّة والثانويّة، فاضحاً عن مشاعرها الذاتيّة وسماتها الخلقيّة وأحاسيسها.

 

لم يتوقّف محمد عند سرد أو رؤية سرديّة واحدة في أسلوبه الأدبيّ، بل تعدّى الأمر عنده إلى خصائص وأنماط وأساليب متّبعة للكتابة السرديّة الأدبيّة، فكثير من الروائيّين لديهم القدرة على صياغة العبارة، ولكن قد يصيب أكثرهم القارئ بالتشويش والملل، لعدم قدرتهم على تنظيم الأحداث وكتابة التفاصيل والمواقف واستخلاص الأهداف والنتائج، فترتيب الحكايات والموضوعات، وتعقيد الحبكة وتيسيرها، ووضع الأفكار والنقاط على زواياها ومواضعها، وإبراز الشخصيّات وأدوارها وقواها الباطنيّة والظاهريّة في اللحظات المناسبة والحاسمة، دون تهميش شخصيّة على حساب شخصيّة أخرى هي من صنيعة الروائيّ الحقيقيّ، الذي يعيش الرواية، الذي يتفاعل مع الفكرة، ويعلم متى يخرج منها في الوقت المناسب.



«آلجيت»، بحسب الصفحات الأخيرة هي رواية لها جزء ثانٍ بعنوان «العَهد»، الصادرة حديثاً عن نفس الدار، لا تنتمي إلى أدب/ روايات الرعب، وإنما تنتمي إلى روايات الفانتازيا، حيث تأخذ أبعاداً فلسفيّة وعقائديّة ووجوديّة، يُشرك مخيّلة وثقافة القارئ معها، فتتناول واقعاً حياتيّاً من رؤية غير مألوفة، تتعلّق بفترة ملكية لأحداث سياسيّة وتاريخيّة تعود إلى الفترة ما بين عامي (1922م – 1948م)، يعالجها إبداعيّاً ما خرج عن المألوف للواقع المُعاش، بخيال مطلق يكتم الأنفاس، بلعنة أصابتِ البطل، بخروجه عن طاعة ملك العالم السفليّ، بعد اشتراكه في اكتشاف مقبرة العصفور الذهبيّ، أو ما تسمّى مقبرة «توت غنج آمون»، ولم تنتَه بوفاته، بل استمرّت لتصيب ابنه طارق من بعده! ليشتعل فتيل الصراع القائم منذ بدء الخليقة بين الشرّ والخير، بين العصيان والطاعة، بين السلطة والتبعية، إلى حين فنائها، صراع دخل الدكتور حاتم في عمقه، ومقحماً نفسه فيه، عن جهل أو ربّما عن ذكاء، بسبب كتاب ملعون أو مسحور اشتراه من شارع النبي دانيال، الواقع في أحد أحياء مدينة الإسكندريّة، باعتباره مكاناً للعالم العلويّ لأحداث الرواية.

وبسبب هذا الكتاب تدخل كاميليا كأولى ضحاياه في نوبات من الهوس والرعب والكوابيس، لقراءتها صفحات منه، لتختفي بعدها في ظروف غامضة، ليقع ذاك الكتاب فيما بعد بيد حاتم، ومنه تبدأ رحلته مع العالم السفليّ، بين ممالك الجنّ وأقوامهم. فيه حياة مختلفة، بيوت وسجون وزنازين وجيوش غريبة، اجتماعات وغايات ومبادئ وقوانين، فجاء في الصفحات الأولى من ذاك الكتاب:

«أيّتها الأرواح الساكنة، أيّتها الأرواح العالقة، أيّتها الأرواح المخلصة،  أفيقوا من سباتكم، واخرجوا من أقفاص صدوركم الضيّقة، وشقّوا القلوب، دعوا الأجساد تتهاوى، بينما أنتم تلتقون في الأفق، آنَ لكم أن تلتقوا، آنَ لكم أن تحرّروا أرواحكم العالقة، أن تتعانق بعد أن فرّق بينكم الموت، حانَ لها أن تدرك معنى الأبد، حانَ لها أن تدرك ميلاد ما بعد الموت». (آلجيت، ص. 30)

 

الأمير محمد يوقّع روايته للقرّاء

يسافر إلى عالم ويعود إلى آخر، رحلتان منفصلتان ومتّصلتان، شائقتان شائكتان، بلعنة أدخلت البطل في دوّامة محيّرة وكبيرة، تتداخل الوقائع والحقائق أمامه، يتضاءل اليقين في داخله، وهو المتمرّس علماً وثقافة وخبرة، تضيّعه الشكوك كلّما راودته، كان وصف المشاهد والحوارات الفلسفيّة، والحبكة السارقة للذهن، والراوي المتعدّد، والشخصيّات ذات الطابع النفسيّ المختلف، اللغة السليطة بتشبيهاتها واستعاراتها وتراكيبها، والأسلوب المتناغم بين الحسّيّ (الواقعيّ)، والتعبيريّ (الانفعاليّ) أعمدة هذه الرواية، طُرحت من خلالها قضايا مصيريّة وأسئلة كثيرة، كان أبو مُرّة/ الشيطان هو العالم والعارف بها والمدرك لحيثياتها، والجانب الأقوى فيها؛ إذ يتحكّم بمصير حاتم وكلّ مَن يمت إليه بصلة.

يطلب منه أبو مُرّة/ الشيطان أن يكون أحد أتباعه، مقابل ألا يعيش ما عاشه والده من لعنة ستبيده وذرّيّته، هنا يدفعنا الأمر أن نسأل حيال هذا الجزء من الرواية: هل سيرضخ حاتم ويصبح طوع أمر أبي مُرّة/ ملك الشيطان؟ كيف تلاعب الأخير بمصير حاتم فامتزج/ تداخل/ تماهى الواقع بالخيال؟ هل سينجو ويخرج/ يهرب من السجن؟ هل سينقذ حبيبته كاميليا ممّا أصابها من شجون وشحوب؟ ثم مَن ألّف كتاب «أرواح عالقة»؟ ولماذا كلّ مَن يقرأه يدخل عالماً لا يشبهه؟ وهل «العَهد» ستجيب عن كلّ هذه الأسئلة، إضافة إلى أسئلة أشدّ عمقاً وجدلاً؟

 

ربط محمد أحداث روايته بلعنة الفراعنة التي هي أساس القضية/ المشكلة بعالم وعوالم الشياطين، وتوارث اللعنة للأجيال، ولنسل كلّ مَن يعكر صفاوة الملك الصغير، «سيضرب الموت بجناحيْه السامّين كلّ مَن يعكر صفو الملك». (آلجيت، ص. 108)، ليثبت أن الخديعة كانت سلاح الشيطان الأقوى، وتنويهه رمزيّاً في أماكن كثيرة، بأنه ليس كلّ واحد منّا قادراً على اكتشاف تلك النتيجة/ الخديعة، وأن مَن يقع بين براثنه سيعيش حياة ليست له فيها شيئاً، أو سيعاهده بالرضوخ والتبعية إلى الأبد.

 

في «آلجيت»، الرواية المسكونة بالكثير من القضايا والموضوعات، التي تحتاج للتأمّل في سياق تلك الأزمنة، نجد فيها أسلوباً خلّاقاً؛ إذ يقحمنا مؤلّفها بكلّ ما فينا في النصّ الروائيّ كمُشارين/ أبطال في صناعة/ صياغة إنتاج أدبيّ، وهو ما نجحت فيه هذه الرواية؛ عندما تخلّت عن راويها، فكنّا (كمُتلقّين) رُواتها، عندما تعاطفنا مع حاتم في حيرته وصراعه ودوّاماته، المتأرجح بين الماهية والوجود، الباحث عن أجوبة لأسئلة فلسفيّة عالقة في ذهنه، بجسد نصفه واقع ونصفه كابوس، ومع كاميليا في اختفائها وأزمتها النفسيّة ومرضها، وياسمين في سهراتها لانتظار حاتم وحبّها له، ومصرعها على يد متّهم سفّاح، فأوصلنا محمد إلى حقيقة مفادها: «التعبير من زاوية واحدة مملّ وقاتل»، فمع الاقتراب من نهاية القراءة ندرك أن المتكلّم/ حاتم ليس بكاتب، ولا برَاوي، ولا ببطل، وإنّما هو شخصيّة غير مكتملة البناء داخل المتن، تستعدّ لأداء دورها، تطالبنا بالصبر حتى ينساب السرد، فنحظى بلحظات انتشاء فكريّ، لكنها تأجّلت إلى جزء ثانٍ، فنكون شخصيّات ناقدة وكثيرة السؤال والتقصّي، وبما أن الكتابة الروائيّة مأساة حين الإقبال وحين الإدبار، فأين هي العلامات الدالّة على أن – لوْ وافق ورضَخ حاتم – عالم الشيطان هو عالم لطيف وأليف؟ وماذا عن الشياطين الحقيقيّين؟ فالحروب شياطين، الفقر شيطان، الجوع شيطان، السياسة شيطانة، الجهل، الطمع، الكذب، الخوف، الفتنة... الخ ماذا عنهم؟ مَن يردعهم؟ ولماذا لا نردعهم؟

 

لكلّ روائيّ أهدافه وأساليبه ومشاريعه في الرؤية للواقع والخيال، سواء بانطلاقته من الشكل المجرّد أو التعميميّ، لكن ما أثار حفيظتي وجعلني أحترم فكر (هذا الروائيّ المصريّ)، هو احترامه الكبير والناضج لعالم القارئ/ المتلقّي، وتفاعله مع وعيه، وثقافته، وتعليمه، ومفاهيمه، ومبادئه، وعقيدته، وتربيته، فاحترام القارئ هو مشروع بحدّ ذاته، خاصّة عندما يطرح الكاتب عليه أفكاره وأحاسيسه، بكلّ تمرّد وجرأة وواقعيّة حقيقيّة وهادفة ومؤمنة بالتغيير، تغيير الإنسان نحو الأنسنة والألفة في الأرواح.

 

أختم هذه المقالة/ القراءة الأدبية، باقتباسات من رواية «آلجيت»:

-        بدءوا بجمع الجثث... وكانت جثّتي هي الأخيرة.

-        رائع هو ذاك الإحساس الأوّل لكلّ شيء.

-        أسوأ ما قد يدهشك في البشر، هو أنّهم يزعمون معرفة كلّ شيء، بل إنّهم يتحدّثون عنها وكأنّهم عاشوها أو أدركوها، ولو لوقت، حتى عوالم الغيبات والأرواح، لم يسلموا من فضول البشر، جهل يتخفّى في طرقات المعرفة.

-        الكتب بما فيها، وليس بما كُتب عليها.

-        إنّ أسوأ ما يضرّ الإنسان، أن يحكم على الأشياء بأشكالها وألوانها، بعناوينها وأسمائها، وأن يجعل العين حاجباً على باب عقلك، بينما قلبك رسول حقّ مسجون في سراديب قلبك المظلم.

-        سيضرب الموت بجناحيْه السامّين كلّ مَن يعكر صفو الملك.

-        إنّ رائحة الشياطين نتنة، لا تستطيع حتى المرور بجانبهم.

-        يقولون إنّ مجالسة الشيطان لعنة، يقولون إنّ محادثة الشيطان فتنة، يقولون إن الهروب إلى عالم الأرواح سحر أسود.

-        الصفقة مع الشيطان حقيقة، ولكنّها صفقة خاسرة.

-        اللعنة لها وجوه كثيرة.                      

-        اللعنة إرث، والخطيئة كفّارتها تتوارث.

-        إن من أشدّ الحماقات، أن تفتح حواراً مع الشيطان!

 

الاسمبريد إلكترونيرسالة