محمد حبش كنو
بينما كان يوسف غارقاً في دراسته وحياته الجامعية وعشقه الجديد أصيب بوعكة صحية فذهب إلى طبيب أعطاه بعض الأدوية دون أن يجري له التحاليل الطبية اللازمة وما إذا كانت تلك الأدوية تناسبه أم لا، وعلى إثر ذلك تضررت كليتا يوسف كثيراً ويوماً بعد يوم زادت حالته سوءاً على سوء.
بعد التحاليل والفحوصات تبين أن يوسف كان يشكو من ضعف في الكلى منذ الصغر، لكن الإهمال وعدم وجود الفحوصات الدورية في مجتمعات الريف جعلت حالته تصل لمستويات متأخرة ومع أخذه للأدوية التي تسبب الفشل الكلوي عند من يشكون أمراض الكلى، نشفت كليتا يوسف وبات محتاجاً للغسيل الكلوي في الأسبوع مرتين.
قرر الحاج عبد القادر أن يعالج ابنه بأي ثمن، فبحث عن أفضل الأطباء، فوصف المعارف له طبيباً حاذقاً في الشام، فأخذ ابنه وذهبا إليه، وبعد فحصه والتمعن في تقاريره وصور الأشعة قال الطبيب للحاج عبد القادر:
- يؤسفني أن أخبرك بأن ابنك يحتاج إلى متبرع بإحدى كليتيه.
نظر أبو يوسف بعينين ملؤهما الدموع إلى الطبيب وقال:
- أليس هناك حل آخر يا دكتور، أنا مستعد أن أبيع كل ما أملك وأدفع لك؟
- القضية ليست قضية أموال، وليت الأمر كذلك، لكن لا حل إلا مع وجود متبرع... يؤسفني مرة أخرى قول ذلك.
سحب الحاج عبد القادر نفساً عميقاً ثم قال:
- هذه إرادة الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لدي سؤال أخير وأرجو أن تعذرني، كم تكلفة هذه العملية في حال وجود متبرع؟
- حوالي ثلاثمئة ألف ليرة.
- خيراً إن شاء الله.
خرج الحاج مع ابنه يوسف قاصداً حلب، وهناك ترك ابنه يوسف مع أصدقائه في شقتهم المشتركة حتى يكون قريباً من مركز غسيل الكلى الذي لا يتواجد مثله في مدينتهم الصغيرة، ثم غادر الحاج عبد القادر إلى بيته، وهناك اجتمع مع العائلة وطرح عليهم موضوع التبرع بالكلى.
تلكأت حنان ولم تبدِ استجابة لهذا الموضوع، أما كاوا فقد كان في الجيش، فقالت أم يوسف «أنا أتبرع لابني»، لكن زارين قفزت سريعاً وقالت:
- بل أنت مريضة يا أماه، وأنا شابة أستطيع العيش بكلية واحدة.
وهكذا صممت زارين على التبرع بكليتها لأخيها.
نظرت أم يوسف إلى زوجها بعينين ملؤهما الأسى ثم قالت:
- ولكن من أين سنأتي بثمن العملية؟
- سأبيع قطعة الأرض المحاذية للجبل، ففي كل الأحوال لم يعد بي استطاعة للزراعة، وأولادي كما ترين فيوسف مريض وزارين ستتبرع بكليتها، وفي كل الأحوال ستتزوج قريباً، وحنان لا تطيق القرية أساساً، ومصيرها بيت زوجها مستقبلاً، أما كاوا فإن أراد العيش في القرية فليزرع الأرض المتبقية أمام البيت.
باع أبو يوسف الأرض المحاذية للجبل بسعر لم يرتضيه، لكنه مجبر، وبعد الفحوصات والتحضيرات اللازمة تمت عملية نقل الكلية إلى يوسف بنجاح، وبعد فترة من النقاهة رجع يوسف إلى جامعته بعد أن فاته فصل دراسي، لكن الجميع كانوا مسرورين وحمدوا الله على كل حال.
محنة زارين:
طوال فترة النقاهة كانت زارين تشعر أن خطيبها قد تغير، وربما يريد أن يقول شيئاً، لكنه متردد، قالت زارين في قرارة نفسها «ربما هو متأثر بحالي و لا يعرف كيف يعبر عما بداخله»، فقالت له ذات مرة:
- لا تحزن يا حبيبي فهذه إرادة الله، وهذا أخي فإن لم أتبرع له فمَن يتبرع له، وتأكد أنك لا سمح الله لو كنت مكانه لتبرعت لك بالكلية الأخرى وما بخلت عليك.
هز أحمد برأسه وبلع ريقه وبقي صامتاً لا يتكلم.
كانت عائلة أحمد وخاصة أخواته البنات يضغطون عليه ليترك زارين ويخطب أخرى قائلين له:
- ماذا ستفعل بفتاة عليلة ذات كلية واحدة؟
أحمد كان مقتنعاً بكلامهم تارة ومتردداً تارة أخرى، لكنه أمام إلحاحهم وضغوطهم وافقهم على كلامهم، خاصة بعد أن عرضوا عليه فتاة ذات حسن وجمال. قالت له أخته الكبرى وهي تريه صورة فتاة من تلفونها:
- انظر يا أحمد إلى هذه الفتاة كم هي بيضاء بضة ذات شحم ولحم وليست مثل تلك العسعوسة زارين التي تحولت إلى هيكل عظمي، أنت سيد الشباب وألف فتاة تتمناك.
انتفخ صدر أحمد غروراً، وأخذته العزة بالإثم، وقرر أن يفترق عن زارين، وتناسى أن أخته الكبرى هي نفسها كسيحة وكأنها تنتقم من ذاتها حين تنتقم من زارين، هرع أهله سريعاً إلى بيت الحاج عبد القادر وأخبروهم بقرار فسخ الخطوبة، متحجّجين بحجج واهية، وطلبوا خاتمهم الذهبي وما جلبه أحمد من هدايا لزارين في فترة خطوبتها.
جمعت أم يوسف هداياه الرخيصة وطلبت من زارين خاتمها بعد أن حضنتها باكية حتى بللت دموعها كتف زارين ثم واستها قائلة:
- أنت ست البنات، وغداً سيطلبك مَن هو خير منه عقلاً وخلقاً ومالاً وجمالاً.
حبست زارين دموعها، ثم آوت إلى ركن خفي وتكورت حول نفسها كجنين في بطن أمه، لتبكي في أعماقها ما شاءت أن تبكي.