بشير البكر
القراءة والكتابة هما من أخذ بيد الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980) إلى الفلسفة الوجودية التي اجتاحت العالم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والتي تجاوز تأثيرها الحيز الثقافي إلى نمط الحياة اليومي والتفكير المباشر لدى الأجيال الجديدة في أوروبا، ومنها الطلبة الفرنسيون الذين نزلوا إلى الشوارع في أيار/ مايو عام 1968 يطالبون بالتغيير وهم يرفعون شعارات ذات طعم إنساني أكثر منه مطلبي أو سياسي. ومن الوجودية خرجت تيارات فكرية وثقافية عبر العالم وظهر فلاسفة جدد من معطف سارتر الذي لم تكبله الوجودية وتبعده عن المثقف الملتزم، الذي ظل يتدخل في "كل ما لا يعنيه"، ويرفض كل ما يمكن أن يشكل قيدا بما فيها الجوائز المالية المجزية، وأوسمة التكريم التي تمنحها الدول والمؤسسات. ولعبت المجلة (الأزمنة الحديثة) التي أصدرها دورا تنويريا مهما، واستقطبت كبار كتاب تلك الفترة مثل موريس ميرلو بونتي وريمون أرون.
ومن الكتب التي تشكل علامة مهمة في مسيرة هذا الكاتب الذي ترك بصمة خاصة في القرن العشرين كتاب سيرة الطفولة الذي عنونه بـ"الكلمات" وصدر في عام 1963، وتم الترحيب به على نطاق واسع، وحظي بالإجماع، باعتباره "نجاحًا أدبيًا" مذهلًا وتحفة كاتب موهوب ومتعدد الاهتمامات (الفلسفة والأدب والمسرح والسينما والنقد الأدبي أو الفني)، في حين أن سارتر اعتبره وداعًا للأدب، "الأدب بمثابة النهاية البرجوازية للالتزام الحقيقي في العالم". وبذلك داس على أوهام المهنة الأدبية، ونسف أسطورة الكاتب، وتقديس الأدب. إذ استمر في الكتابة، فهذه هي المهنة الآن. "ما أحبه في جنوني هو أنه يحميني، منذ اليوم الأول، من إغراءات" النخبة ": لم أصدق نفسي أبدًا المالك السعيد" للموهبة عملي الوحيد كان إنقاذ نفسي - لا شيء في يدي لا شيء في جيبي. وبهذه المرافعة دان "الكاتب الملتزم" هذا "الكهنوت المضحك"، والدين العبثي الموروث من قرن آخر. ودع سارتر الأدب ودفن الطفولة أيضا "لقد فهم القارئ أنني أكره طفولتي وكل ما بقي منها". من خلال قراءة "الكلمات" نكتشف أننا بعيدون عن السيرة الذاتية التقليدية التي تعود بالحنين إلى "السنوات الضائعة الجميلة"، بل ما يشبه الهجاء شديد اللهجة لها "في آن واحد ساخرة، ومدمرة، وخطيرة. وحيد، منعزل، في وضع مبهم، جملة بسيطة، وحشية بعض الشيء، في نهاية الصفحة"، حتى أن والدة سارتر علقت على الكتاب قائلة ""لم يفهم بولو شيئًا عن طفولته"، رغم أن ابنها خصص لها في الكتابات صفحات طويلة وجميلة. ويعترف أن "أجمل ما في طفولته" هو عشر سنوات من السعادة عندما اكتشف مع والدته السينما، واشترى العشرات من ألبومات الكتب المصورة، وشاهد عروض الدمى المتحركة، وفك رموز عدد لا يحصى من نوتات العزف على البيانو، وكتب أول نصوص أدبية له. وكرست والدته ذات الأربع وعشرين عاما جل وقتها لابنها الموهوب، من أجل "بولو" الصغير ذي الشعر الأشقر الطويل المجعد، وتلعب آن ماري دور الملهمة أو الناسخة أو القارئ، المكرسة والمتحمسة والمثابرة. وإذ طور سارتر لاحقًا حساسية خاصة تجاه النساء، وإذ نظر إلى العالم من خلال أعينهن، فمن المؤكد أنه كان تحت سحر والدته "تخبرني عن مآسيها وأنا أستمع إليها بحنان".
وكانت المفاجأة في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1964، عندما حصل الكتاب على جائزة نوبل للآداب، التي وصفته بأنه "غني بالأفكار ومليء بروح الحرية والسعي وراء الحقيقة، لقد كان له تأثير بعيد المدى في عصرنا"، ولكن سارتر رفض الجائزة، وجاء في وثائق الأكاديمية السويدية التي أفرج عنها بعد 50 عامًا، أن الكاتب أرسل لها رسالة قبل إعلان الجائزة حين جرى تداول اسمه في القائمة القصيرة، قال فيها إنه "لا يرغب في إدراجه في قائمة الفائزين بالجائزة، لا في عام 1964 ولا في المستقبل، وإنه لن يكون قادرًا على قبول هذه الجائزة". ولكن لجنة نوبل لم تأخذ برسالة الكاتب، وأسندت له الجائزة التي أصر على رفضها، ولم يحضر الحفل التقليدي في 10 كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه، ورفض استلام الشيك المصرفي للجائزة، وقيمته 273 ألف كورونة سويدية، وبرر أسباب رفضه الجائزة بأنها لا علاقة لها بالأكاديمية السويدية، ولا بالجائزة في حد ذاتها، وإنما تعود إلى أنه اعتاد على رفض الأوسمة الرسمية والتكريم، بما في ذلك وسام "جوقة الشرف" عام 1945 بعد الحرب العالمية الثانية، لدوره في مقاومة النازية. وشرح سارتر رأيه في مقابلات صحافية، وهو يرى أن الكاتب يجب أن يتبنى مواقف سياسية أو اجتماعية أو أدبية فقط بالوسائل الخاصة به، أي الكلمة المكتوبة، مضيفًا أن التكريم يعرض أفكاره لضغط لا يريده. وأفضل من لخص الأمر الكاتب الفرنسي جان جينيه، الذي خصه سارتر بدراسة مميزة هو الذي كان مرفوضًا من الوسط الأدبي بسبب خروجه عن السائد. وقال جينيه، صاحب نص "أربع ساعات في صبرا وشاتيلا"، إن جائزة نوبل بالنسبة لسارتر هي بمثابة "قبلة الموت"، وهي جائزة تمنحها "مؤسسات مميتة"، مستشهدًا بقول سارتر نفسه "لا أحد يستحق المجد وهو حي". وفوق كل شيء، كان سارتر متمسكًا بحريته واستقلاله، ولا يرغب في الاعتماد على أي مؤسسة على الإطلاق.
يسجل الكاتب في كتابه طفولته في بيت جده لأمه (آن ماري) العالم الفرنسي الشهير والموسيقي والمبشر المسيحي ألبرت شيفتزر، والذي عاش فيه بعد وفاة والده وهو في السنة الثانية من عمره إلى جانب أمه، وهناك تعلم القراءة، والتي كان لها دورها وأثرها عليه وعلى طفولته وطبيعته الشخصية. ولا يكتفي الكاتب بالتوقف أمام الأحداث بالسرد والتفصيل، بل بتطبيق مفاهيمه الفلسفية عن الأنا والوجود من خلال كتابة وقراءة واعية لتفاصيل دقيقة في مرحلته العمرية المبكرة "عند موت أبي استيقظت أنا وآن ماري من كابوس مشترك"، وكان أمامه سؤال كبير "من أطيع؟"، وكانوا يشيرون له إلى عملاقة شابة ويقولون له إنها أمه "ولو ترك الأمر لي لاعتبرتها شقيقتي الكبرى، هذه العذراء المحددة إقامتها والخاضعة للكل، أرى جيدًا أنها هنا لتخدمني، إني أحبها ولكن كيف لي أن أحترمها ولا أحد يحترمها"، ويقول سارتر إن طفولته مليئة بالأوهام ، تلك التي عاشها داخل حدود المقاطعات الفرنسية في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى.
يمتاز الكتاب بتقديم المذكرات من خلال تقنية خاصة في سرد المذكرات تتداخل فيها الأجناس الأدبية بين الرواية والسيرة الذاتية والرؤية الفلسفية. وهو ينقسم إلى قسمين: القراءة والكتابة، ويستعرض سارتر من خلالهما حياته بدءًا من مولده حتى بلوغه سن الـ 12، مرورًا بتكوينه الأسري، ملقيًا الضوء على بعض أفراد عائلته لأمه، مستعرضًا تكوينهم الثقافي من خلال العصر الذي عاشوا فيه، ويحتل الجد مكانة خاصة في حياة الطفل، فهو الذي أثر في وحدته وتعميق انعزاله عن المجتمع "كنت أبقى في المنزل بسبب أنانية جدي وموقفه التملكي"، ويتدخل الجد في خيارات سارتر المستقبلية، التي لا يجب أن تكون الكتابة، وإنما التدريس ليقينه بأن الكتابة لا توفر خبزًا. وكان من وجهة نظر الجد أن على سارتر أن يصبح مدرسًا للأدب الفرنسي، وأن يكتب في جريدة "الأحد" إن أحب. وفي هذه الفترة يتكون وعي سارتر "بأننا نتاج ما أراد الآخرون أن نصبح عليه". وهذا ما دفعه للتمرد على سلطة الجد باختيار الكتابة التي رأى فيها نافعة في كل الأحوال، وفي رأيه قد لا تنقذ الثقافة أحدًا، وقد لا تجد الحلول العالمية، لكنها إنتاج الكائن البشري، من خلالها يتعرف المرء على نفسه ويجدها.
بعد أكثر من نصف قرن (58 عامًا) على صدوره، ما يزال الكتاب مثار قراءات شديدة الاختلاف، وبعضها يميل إلى اعتباره استمرارًا بسيطًا لمذهب سارتر الراديكالي، بينما يراه آخرون جزءا من التخلي الشامل عن المواقف التي نجدها في نصوصه المبكرة. ويجزم نقاد آخرون بأن معظم هذه القراءات تتجاهل التوترات الحقيقية في "الكلمات" بين حرية الوعي وثقل الظروف، فالكتاب هو نص أدبي توضح لنا كتابته أننا لا نستطيع ببساطة التخلي عن ماضينا. وتبرز من خلال الكتابة القدرة على تناوله بطرق تقدمه في اتجاهات مختلفة نوعًا ما. وبغض النظر عما نفعله اليوم، فإن لذلك الماضي حضوره الذي لا يبرح، وقد يقود إلى جائزة نوبل، سواء قبلها الكاتب، أم لم يقبلها.