-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

شعرية الوجود في مواجهة اللاعقل

 


رشيد المومني


يأخذ  سؤال  العقل   طابعا إشكاليا.، فور  تفاقم  أعطابه   المعرفية و التدبيرية  التي   تشل حركيته خلال لحظة  زمانية  و مكانية  معلومة من سيرورته ، حيث تتجسد مظاهر الأعطاب في  استشراء حالات الإحساس بالخطر ، و رعب النهايات،  الدالة ضمنيا  على  استفحال  الأزمة، بفعل تبخر  المشاريع التي  تتطلع  الشعوب  إلى إنجازها، سياسية كانت، أو اقتصادية ،ثقافية   أو  حضارية .  حتى لكأن   التوثيق  لمسارات العقل ،  هو  في حد ذاته   توثيق  للأزمات الحادة  التي تعصف بحياة  الأمم، و  تنخر كيانها. ما  يعني  أن الخروج من نفق الأزمات ، يتوقف عمليا على  اهتداء النخب إلى الأعطاب المؤثرة سلبا على   حركية العقل ،   و العمل على الحد من   تداعياتها .

 و كما هو معلوم ،  فإن  علاقة أسئلة العقل   بإشكاليات تدبير  الأزمة ، هي الأرضية  التي  تأسست وتتأسس عليها  كافة  الخطابات و السجالات الفكرية  و الفلسفية ،  منذ الأزمنة  الإغريقية القديمة إلى الآن .  ذلك أن  محاولة فهم  ميكانيزماته ،هي  بمثابة  تساؤل فكري  و روحي عن  حقيقة الكائن ،  الذي يعتبر طرفا مباشرا  إما  في  النهوض بالشرط الإنساني، أو في تأزيمه. و مادام الغموض يلف حقيقة الكائن ، فإن العقل هو أيضا  ،سيظل  باستمرار محتفظا  بغموضه، ما يجعل  منه  الموضوع الأثير  لكل  أنماط المقاربات الفكرية و الفلسفية ، و خاصة منها تلك التي تتناوله بالنقد و المساءلة. 

وسيكون من الضروري  في هذا  السياق ، الفصل  بين  تأويلين متضادين  لعلاقة  أعطاب  العقل ، بتداعياتها المنعكسة سلبا على  حياة  الشعوب. حيث  لنا أن نستأنس في المقام   الأول  بأغلب المقاربات التقليدية  -فضلا عن ببعض التوجهات الحداثية -   التي  تتناول  هذه العلاقة  ،  انطلاقا  من غياب البعد الأخلاقي  المؤطر  بسلطة  الواجب . و في هذا  السياق   يمكن   استحضار  -على سبيل المثال لا الحصر -   وجهة نظر  الفيلسوفة  "حنا أردنت " بنبرتها الحداثية  المغرقة  في تشاؤميتها ، و التي تقدم لنا  "عقل المرحلة " بوصفه طاقة سلبية ، متخصصة  في  إنجاب واقع  الأزمة  و تداعياتها  المأساوية .ذلك  أنها اعتمدت في  بناء  أنساقها  الفكرية  المنتصرة  للعمل  السياسي ، على  خلفيات  ممارسات  عقل " شرير" مؤطر  بقوانينه  الشمولية " التوتاليتارية " ، التي أسفر اشتغال آلتها  الجهنمية   عن  محارق  حروب  و أهوال،   لطالما زرعت أشواك الرعب  في نفوس ساكنة المعمور، على امتداد الحربين العالميتين. و يمكن  اعتبار هذا  التأويل   امتدادا  لانحرافات  المسار التنويري  الذي  يعود فضل  تأسيسه   لفيلسوف  القرن الثامن عشر  "إيمانويل كانت "، حينما  نبه البشرية   إلى  وجوب "إعمال العقل" على قاعدة  التمسك بأخلاق الواجب وقيمه ، دون أن  يعلم  بأن   مطاف أمله التنويري، سينتهي حتما  إلى  الاحتراق  بلهب   عقل مضاد، مغرق في نزوعاته  التدميرية. و هنا  تحديدا سنجد أنفسنا  بإزاء التأويل الثاني، الذي  تتبدد معه  منظومة الواجب الأخلاقي  جملة و تفصيلا،  كما  هو معبر عنه  في   المصير ذاته، الذي  تعيشه  حاليا خطابات الفيلسوف  الألماني "هابرماس" حيث لم تعد عقلية الإيديولوجيات المشهود لها  بعنف ممارساتها  الهيمنية  و الإقصائية، هي الطرف الأساسي  في الصراع، بقدر  ما أصبح منطق  اشتغال آلة  العقل  التدميري،  هو  المعني  أساسا بالتساؤل.  ذلك أن  هذا العقل   بهويته التقنية و التجريبية المتطرفة  ، استغل  انشغال الخطابات الحداثية بهوس التصدي  للأيديولوجيات الهيمنية ،  و الأفكار النمطية ، كي  يتفرغ  إلى  الفتك بالمنجزات التنويرية التي سبق لها  أن تحققت في كنف المشروع التحديثي . حيث  انبرى  تدريجيا  إلى  ممارسة  استقلاليته  على ضوء  منجزاته العلمية  و  التقنية ، غير عابئ مطلقا  بتك المناوشات  النقدية  و التوجيهية  التي دأبت  على  تقفي أثره بالنقد و التصحيح.

 هكذا  و في خضم  اعتداده بذاته،  بوصفه طاقة متفردة ، و قادرة  على  التجنيح  في   عمق عوالمها  الخاصة ،شرع العقل  في إمطار البشرية   بالجديد، و بالمفاجئ من  الاختراقات التجريبية  المعززة  بنيران جحيمها. و الظاهر أنه شرع  بموازاة ذلك  في إعلان   تمرده على  جبروت  اللآهوت،  الذي طالما  عانى   من  سلطته و تسلطه.

 فمن هذا  المنطلق تحديدا ، ينبغي وضع  عقل  ما بعد الحداثة ، في سياق انحرافه العدواني،  و العمل على   تعقب نزوعاته التدميرية  داخل أفلاكه  المصابة  بجنون السلطة. أي خارج علاقته القديمة و التقليدية ، التي كانت تضعه في مواجهة الخرافة، الميثولوجيا، و اللآهوت.لأن  البقاء ضمن هذه العلاقات المتجاوزة، من شأنه  استبعاد مسار النقاش عن  راهنية  اللحظة ، التي لم يعد  فيها  العقل مستعدا  للاقتصار على الاستمرار في الاضطلاع   بتدبير  الفضاءات المعرفية  بالمفهوم المؤسساتي  و الحداثي للكلمة ، لينصرف    و عن  سبق إصرار إلى تدبير كينونته الخاصة  به. بمعنى أن  العقل بصيغته الحالية ، لم يعد يكتفي بالابتعاد  عن   أجواء الذات الإنسانية ، بل شرع  في الابتعاد  عن ذاته أيضا ، انسجاما  مع   تحولاته  الحثيثة  و المتسارعة التي  طوحت به في مدارات  اللآمتناهي العلمي  ، بما هي  مدارات  تجريبية بحتة ، ليس لآليتها التدبيرية أي وعي   بمفهوم  الواجب  الأخلاقي و الإنساني. و هي  آلية  شرعت  في  ترسيخ مشروعتيها ، على ضوء ما  تحققه  تباعا  من نجاحات باهرة  في  الحقل  العلمي  المنفلت من عقاله،  بمجموع ما يتوزع  عليه من محترفات  و مختبرات   سرية  وعلنية . 

هكذا  إذن، سيميل  العقل  إلى   الانحراف عن  مساراته الموضوعية  و المنطقية  ، التي كان  يمارس فيها  دوره التنويري ، كي  يأخذ  شكل  مسخ أسطوري ، تتجسد تمظهراته و تجلياته  في جميع  الاختلالات الحالية  الممسكة بتلابيب  البشرية ، والتي    غدت  بالنسبة  إليه،  محض عائق  متقادم ، ينبغي الإطاحة به . حيث يبدو  كل ما يقع  الآن  تحت  أنظاره،  مندرجا  ضمن مشاريع اختبارية ، يحتل فيها العبث الأهوج  مركز  الصدارة. و بالتالي،، فإن  انبهار العصور الحديثة  بالعقل على ضوء  ما  حققه  من كشوفات علمية ، حوله  تدريجيا إلى  سلطة  قاهرة  أدت  إلى  تحجيم  باقي  المقومات  الإنسانية  الناظمة  لهوية  الذات . و هذا  التحجيم  أدى  عمليا إلى  استحداث عوالم  غامضة،  تتواجد فيها  كائنات " سرية " سعيدة  بتشوهاتها. كائنات  بعقل كبير،  لكن بدون  قلب و لا روح. عقل  همجي و  متسلط، يأتمر  العالم بأوامره  ، و يخضع لمشيئته   المفرغة  من أي عمق إنساني .

  فهذا العقل، و بفعل   تحقيقه لاستقلاليته  المطلقة  ، تمكن من  اختلاق آفاقه الشخصية  الخاصة  به ، و المنفصلة  كلية  عن  تلك  التي دأبت الإنسانية  على  استشراف آمالها و أحلامها .   و  الأدهى من ذلك، أنه   شرع في قتل المقومات الجوهرية  لهذه الإنسانية  ، كي يتخلص من رقابتها ، و كي  يمارس حريته بالكامل في  اجتثاث  أواصر  العلاقة التي كانت  تربطه بقيم  أمست من وجهة  نظر المتحمسين له  في حكم ماض،  لم يعد  لوجوده أي مبرر يذكر.

و في ظل هذا الواقع  الهجين ، و المنذر بهيمنة  هذا  العقل  التخريبي  و التدميري الذي   تطال عدوانيته  السماوات  و الأراضي  السبع   ،تبرز الحاجة  القصوى  إلى  رقابة  استثنائية ، غير  مشروطة بأية  مرجعية  دوغمائية، من شأنها  الانقلاب إلى نقيضها في أية  لحظة متوقعة أو لا متوقعة ، كما هو الحال  بالنسبة  لثنائيات القيم   التي  لا يستقيم  وجودها آلا  من خلال   شحنات  العنف  المتبادلة في ما  بينها  . على غرار ثنائيات  الخير و الشر  ،الحلال و الحرام، المباح و المحظور ، و غيرها  من  الثنائيات المؤطرة  بقوانين ذات  طبيعية  صدامية ،غالبا ما  يتم تكييفها  وفق مقتضيات الغلبة،  التي  يتحكم في  خيوطها هذا الطرف أو  ذاك. و  لعل الرقابة  الأكثر قربا من هذا  التوصيف ،هي  الرقابة  الإبداعية التي يحتل  فيها  "الشعري" مركز  الصدارة .  علما  بأن استدعاءنا لمفهوم "الشعري "، هو استدعاء  ضمني لجوهر  الكتابة  الشعرية،  و الذي يمكن رصده  في فضاءات الممارسات الفنية  و الإبداعية،  كما  في شبكة  العلاقات الإنسانية  المنتصرة لحركية لحياة. ذلك أن  المراهنة على  إثراء  فضاءات المعيش  و المفكر فيه  بطاقة  الشعري  و حداثته، لدى  العامة و الخاصة ، وحدها الكفيلة بانتشار ذبذبة  اليقظة الإنسانية   في أوصال الكون ،  وبالتالي،  الحد من غلواء  العقل التدميري  و جبروته.


 شاعر و كاتب  مغربي

 

تعديل المشاركة Reactions:
                     شعرية  الوجود في مواجهة  اللاعقل

Şan

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة