سلمى جمّو
تنويه:
إن هذه الدراسة الأكاديمية، التي كتبت عن قاسم توفيق، نُشرت في المجلة الدولية لكلية الإلهيات/ جامعة سينوب التركية.
مقدمة:
إن
الأدب، الذي يُعد فرع من فروع العمل الفني، أكثر إنتاجات البشرية إثارة للاهتمام،
وجذباً للفضوليين الذين حاولوا، ولا يزالون يحاولون فك شفرات الأعمال الأدبية.
وبما أنه عالم غنيٌّ بالأسرار فقد حاول الكثيرون الغوص في أعماقه، وبدأ هذا المجال
بإثارة اهتمام القرّاء العاديين، مروراً بالفلاسفة، ونهاية إلى علماء اللغة
والنفس. فالأدب هو المفتاح الذي يمكن من خلاله العبور إلى خبايا عالم المبدع
المخفيّ، وبالتالي عالم الإنسانية جمعاء، لما تحتويه النفس البشرية من أفكار
وعواطف جمعية يتقاسمونها مع بعضهم البعض.
ومع ظهور مدرسة التحليل النفسي الذي أعلن أن الفن هو
انعكاس اللاشعور لدى البشر، وأنه لفهم المبدع فإنه يجب دارسة أعماله دراسة تحليلية
نفسية. ومع "فرويد" الذي بدأ بتحليل الأدب بربطه بالرّغبات المكبوتة
المخزونة في اللاشعور، واعتباره الأدب عملية تحويل وتسامٍ للرغبات الجنسية، مروراً
ب"يونغ" الذي خرج معارضاً معلّمه ونادى بأن الأدب هو لاشعور جمعي
يتشاركه البشر جميعاً وبأنّه عمليةٌ تراكميةٌ من خبرات عاطفيّةٍ، وصولاً إلى
"لاكان" الذي أحدث ثورة في العمل التحليلي النفسي باعتباره اللاشعور
بنيةً لغويّةً، وبأنّ اللغة عبارة عن رموز ودلالات يجب أن يتم قراءتها قراءةً
بنيويّة.
وبالحديث عن العلاقة بين اللاشعور والفن، نرى أنّ الفن
هو المجال الوحيد الذي تصان فيه كل قوة الأفكار إلى يومنا هذا، ففي الفنّ فقط يمكن
للإنسان، المعذّب برغباته، أن يحقّق شيئاً شبيهاً بالإشباع، وبفضل الوهم الفنيّ،
تُولد هذه اللعبة الآثار الانفعاليّة نفسها، كأنّ الأمر يتعلق بشيءٍ من الواقع،
لقد صدق من تحدث عن سحر الفن وقارن الفنان بالشاعر.[1]
فالعمليات الشعورية، والإبداع، ليست عبارة عن سلسلة مترابطة متماسكة، يمكن فهمها
والتخمين بها بشكل واضحٍ وبسيط، ولابدّ من ذكر أن العمليات الجسمية متلازمة مع
العمليات النفسية، ويرى "فرويد" أنّ العمليات الجسميّة أكثر وضوحاً في
غموضها من العمليات النفسيّة، حيث إنّ بعض العمليات اللاشعورية لا تقتضي وجود
عمليات جسميّة كي تظهر وتسعى لتحقيق رغباتها إذ أنّها في أحيانٍ كثيرة تعمل وتتحرك
مستقلة بذاتها عن العمليات الجسميّة.
وبالحديث عن العمليات الشعوريّة ظهرت معضلة أمام
العاملين في التحليل النفسي وهي آليّة عمل الشعور ذاته، حيث بدا مفهوم الشعور وحده
قاصراً عن مدّنا بالمعلومات حول الحياة النفسية للفرد وميكانيكيتها، لذا برزت
الحاجة إلى مفهوم آخر يكون نقطة انطلاق، فكان ظهور مفهوم اللاشعور ضروريّاً في
التفكير السيكولوجي، وقد قال "فرويد" في هذا الخصوص: "إنّ أبسط
تصوير للأمور هو الافتراض بأنّ العمليات الشعورية موجودة عند سطح الأنا، وكل شيء
عداه في اللاشعور، واللاشعور هو الكيفيّة الوحيدة المهيمنة في الهو."[2]
التيار النفسي يُعتبر إحدى المدارس التي نادت بقراءة النص الأدبيّ قراءة عميقةً وباطنية، بعيداً عن السطحيّة أو ما يقدمه الكاتب بشكل علني. فالنص الأدبيّ عبارة عن انعكاسات لعالم المبدع اللاشعوري، وساحة لرغباته، وأفكاره، وقناعاته التي تُعتبر محرّمة وممنوعة من الظهور إلى العلن بشكل عفويّ أو وصريح.
فنحن عندما نكون أمام نصٍ أدبيّ أو قصيدة شعريّة، ونحاول أن نقوم بتحليلها
تحليلاً نفسياً فإنّ أول سؤال يتبادر إلى أذهاننا هو: «عندما يكتب الشاعر عن نفسه،
هل هو نفسه من يكتب، أم أن ذاتاً أخرى تتولّد أثناء كتابة قصيدة يقوم هو بعملية الكلام/الكتابة؟ ». فنرى الكثير من
الشعراء والكتّاب عندما يقومون بكتابة قصيدة ما والفراغ منها وبعد قراءتها مرّة
أخرى بعقلية القارئ وليس الكاتب، فإنهم أحياناً علناً وأحياناً ضمناً يقومون بطرح
هذا السؤال على أنفسهم: «هل أنا الذي كتب هذا النص؟».
فالتيار النفسي يُعتبر إحدى المدارس التي نادت بقراءة
النص الأدبيّ قراءة عميقةً وباطنية، بعيداً عن السطحيّة أو ما يقدمه الكاتب بشكل
علني. فالنص الأدبيّ عبارة عن انعكاسات لعالم المبدع اللاشعوري، وساحة لرغباته،
وأفكاره، وقناعاته التي تُعتبر محرّمة وممنوعة من الظهور إلى العلن بشكل عفويّ أو
وصريح. لذا فالنقد النفسي يدعو إلى قراءة ما وراء المتن، والبحث في نفسيّة النص،
والعمل على فهم عالم المبدع اللاشعوري من خلال فك شفرات الكلمات التي رتّبها على
شكل جمل. فاللغة والكلمة هي لغة اللاشعور مُشكّلة على شكل وحدات من الرموز يحاول اللاشعور
تمريرها إلى الشعور بعيداً عن رقابة الأنا الأعلى.
ولأن القصة نوع
أدبي، ونوع مميز بشكل خاص، لما تعتمد عليه من عناصر التركيز، والتكثيف، والاختزال،
وهي ساحة من الكنايات المتوالدة، ولأنها مختزلة وقصيرة فكان لابد من التوجه بشكل
مباشر نحو الهدف مع أول كلمة، ليتم تحقيق أعلى قدر من النجاح للقصة. بناءً على ذلك
كانت القصة ساحة غنية للتيار النفسي للقيام بتحليلها والعمل على فك التكثيف إلى
أفكار أقل كثافة وبساطة وبالتالي فهم لا شعور الكاتب أو لا شعور النص بشكل أكبر.
فالقصة هي عملية تصوير عالم البطل النفسي في وحدة معينة في زمان معين.
في هذا البحث تم العمل على تحليل قصة "المعطف"
لكاتبها قاسم توفيق وفق منهج التحليل النفسي، وستكون دراسة وصفية تحليلية تعمل على
قراءة ما وراء النص، والعمل على قراءة ما لم يسرده الكاتب، من خلال دراسة العلاقة
بين الأدب والنفس، وأيضاً البحث في لا شعورية اللغة وسيكولوجيتها، والقيام بإسقاط
المفاهيم والمصطلحات التي اعتمدتها مدرسة التحليل النفسي على نفسيّة بطل القصة،
والبحث في التجربة اللاشعورية للبطل وما يعتريها من صراعات نفسية. وتكمن قيمة
البحث في أنها الأولى من نوعها للكاتب، مع وجود أبحاث مشابهة مثل: "مقاربة
نفسية في المجموعة القصصية، لا تغن للفراشات" لإكرام بوباطة، وزينب بن صالح،
وهو بحث ماجستير، وأيضاً "اتجاه التحليل النفسي في قصص سعادت حسن منتو"
لحافظ عبد القدير، وهي مقالة أكاديمية. وهما دراستان تتناولان النص بشكل سطحي،
معتمدين على بعض المصطلحات النفسية مثل: الغيرة، الحب، والألم. على عكس البحث الذي
نحن بصدد كتابته، الذي يعتمد على دراسة بنيّة النص واللغة اللاشعورية، والعمل على
إظهار ما عمد الكاتب إلى إخفائه عن القارئ، ودسّه في ما بين السطور.
التحليل النفسي والفن:
العلاقة بين التحليل النفسي كمدرسة نفسيّة والفن، فهي علاقةٌ وثيقة ومتينة.
إن الحديث عن العلاقة بين التحليل النفسي والفنّ يحتّم
علينا أولاً النظر في العلاقة بين علم النفس، الذي يُعتبر التحليل النفسي أحد
مدارسه، والفن وما بين هذين المجالين من علاقة وفاق أو اختلاف. فعلم النفس ودراسة
العمل الفني صنوان وتوأمان لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الآخر، ولا يمكن لأي
منهما أن يبطل الآخر أو أن ينسخه.[3]
أي أنّ الأدب وعلم النفس عالمان شائكان منفصلان في جوانب ومتّحدان في جوانب أخرى؛
فالعلاقة بينهما متداخلة، وهذا التداخل يصل إلى حد الصراع والتنافس فيما يتعلق
بتفسيرات السلوك الإنساني، واكتشاف عوالم خفية وأسرار غير معلنة للبشر، فيأخذ كل
واحد منهما طابعاً إشكالياً حول أسبقية تنقيب جذور ودوافع هذه الأسرار، فهناك
أدباء وفلاسفة يرجّحون الكفة للأدب في اكتشاف أسرار النفس البشرية، وآخرون منهم
يرون أن علم النفس هو السبّاق في إيضاح تلك الأسرار.
أما العلاقة بين التحليل النفسي كمدرسة نفسيّة والفن،
فهي علاقةٌ وثيقة ومتينة. وقبل البحث في تلك العلاقة وُجد أنه من المهم التعريف
بمدرسة التحليل النفسي تعريفاً مختصراً. فقد ظهرت مدرسة التحليل النفسي على يد
الطبيب النفسي النمساوي "سيغموند فرويد" في أواخر القرن التاسع عشر، فهي
نظريّة حول تنظيم الشخصيّة وآليات تطورها التي تُوجّه العلاج التحليلي، فالتحليل
النفسي طريقةٌ علاجية تُستخدم في علاج الأمراض النفسية. وجديرٌ بالذّكر أنّ
"فرويد" ترك اختصاصه في مهنة الطب وتحوّل من التركيز على آلية عمل المخ
والخلايا العصبية إلى دراسة النفس البشرية وعقله الباطن التي تأسّس لشخصية
الإنسان.[4]
وهي نظرية تُقسّم النفس الإنسانية أو الجهاز النفسي إلى
ثلاث طبقات، ويبدأ من أعمق الطبقات "هو". إن "هو" عبارة عن
عالم من الموروثات أو الجبلة، لذا فهو عبارة عن الغرائز التي تخرج من التنظيم
البدني وتجد هذه الغرائز أولى تجلياتها وتعبيراتها عن نفسها في هذه المساحة،
وطبعاً تتجلّى في شتّى صور نجهلها تماماً، أي أنها "لا شعورية".[5]
ثم إن الضغط الذي يتعرض له "الهو" من العالم الخارجي يؤدي إلى تعديل أو
انحراف في شكل تجلّيه، وهذه الحالة الجديدة أو النسخة المعدلة من "الهو"
تأخذ شكل كيان مستقل يُطلق عليه "الأنا"، إن "الأنا" يعمل
وسيطاً بين "الهو" والعالم الخارجي "الأنا الأعلى" وهو الطبقة
الثالثة، حيث أنه يستقبل الاحتياجات ويسجّل الإدراكات الحسية من العالم الخارجي
ويخزّنها على شكل ذكريات، ويقوم بعملية حفظ لذاته من المطالب المبالغ فيها من
الطرفين عن طريق تخفيفها، لذا – بحسب "فرويد" – فإن "الأنا"
يخضع لمبدأ اللذة "المعدّل".[6]
إن التحليل النفسي يرُكّز على فكرة أنه لا يجب تمييز
الذات عن المعرفة، وينكر وجود ذاتٍ محددة وموضوع تفكير ليست بعدُ مسكونة وملتوية
بواسطة الحيل، ومبادرات، ورغبات التي تكون جزءاً من الذات. حيث نرى أنه في النظام
النفسي كل شيء مرتبطٌ ببعضه بمنطق السببيّة، فلا مكان فيه للصدفة والفوضى، إنه
مكانيزما متناهية الدّقة، وما علينا إلا أن نكون حذرين في محاولة فك هذه العقد
التي يتكوّنمنها هذا النظام. وإنّ محاولة قراءة الفن من خلال نظّارات التحليل
النفسي تجعلنا وجهاً لوجه أمام جملة "فرويد" المشهورة: "إن الشعراء
والروائيون هم أعزّ حلفائنا وينبغي أن نقدّر شهادتهم أحسن تقدير؛ لأنهم يعرفون
أشياء بين السماء والأرض لم تتمكن بعدُ حكمتنا المدرسيّة من الحلم بها، فهم في
معرفة النفس شيوخنا نحن الإنس العاديون؛ لأنهم يروون من منابع لم يتمكن العلم بعد من
بلوغها."[7]
لا شك أن المخزون الأدبيّ للكاتب يقدّم لنا لمحةً ومادة
خامة عن واقع الإنسان ومحيطه والكيفية أو الآلية التي يتجاوب بها، ويتأثر ويُؤثر
من خلال هذا التأثير المسلّط عليه على محيطه، فهذه الكتابات النصيّة عبارة عن
سلسلة تهدف إلى تصوير العالم، نابعة من وعي أو لا وعي فرد معين، وما يقوم به
التحليل النفسي أمر مشابه له، إنه عبارة عن مفاهيم محددة بها يتم إعادة تشكيل أو
تعريف العمق النفسي للكاتب. أي إن الأدب والتحليل النفسي يُعيدان قراءة الإنسان
وتشكّله التاريخي، وهدف الاثنين هو البحث عن الجانب الحقيقي/الخفي للإنسان من خلال
الإنسان نفسه، أي من خلاله وهو يتحدث ـ اللغة ـ.
وتتجلى
المقاربة النفسانية للأدب في اعتماد التحليل النفسي على اللغة مصدراً ومنبعاً
أساسياً للوصول إلى المعارف المتصلة بالنّفس البشرية، فالتحليل النفسي يعتبر الفن
نقطة الانطلاق للوصول إلى الحقيقة وللاستلاب داخل الروابط القائمة بين الإنسان
والآخرين، وبين الإنسان ونفسه، يقول
"فرويد": "إن العمل النفسي محفوف بالهشاشة والمعاناة، بحيث لا يمكن
استخدامه كما النظارة التي نلبسها عند القراءة ونخلعها عند الذهاب إلى
النزهة,"[8] لذا كان لابدّ لنا من الحذر
والدقة عندما نقرر أن نمشي في هذا الحقل المحفوف بالألغام، ونعتمد على الأدوات
والمناهج العلمية بقدر اعتمادنا على حدسنا أيضاً.
لقد كان مجهود فرويد والتحليل النفسي مركّزاً على الخوض
في خبايا النفس البشرية للتغلب على الأحكام المسبقة ولتحريره من الضغوطات
المجتمعية والأسرية في محاولة لمعالجة البشر من الكبت الموجود بداخلهم، ويتحقق ذلك
عن طريق الغوص في ثنايا أفكارنا ولغتنا. فالأدب من وجهة
نظر التحليل النفسي شيء غير اللغة اليومية المليئة بالقوالب الثابتة المتعارف
عليها والجمل البسيطة المستهلكة، فهو ليس مجموع خطابات بل هو خطاب متفرّد بذاته
وبمؤلِّفه، فهو يتجلى كفائدة في كونها تمتّعنا، وقيمته تكون في كونه غير قابل
للاستعمال اليومي بهدف الاستمرار في الحياة، وجوهره يكمن في كونه خطاباً زائفاً عن
الواقع ومن هنا يأتي سحره وجماله وفردانيته.
إن فهم المؤلَّفات التي تشكّل جزءاً من الأدب والتي
تتراكم شيئاً فشيئاً لتشكل صرحاً ضخماً، والبحث عن السبب الذي يجعل هذه المؤلفات
تتجاوز الكاتب الذي كتبه أو الزمان الذي كتب فيه والدائرة اللغوية التي كُتبت فيه
ليس بالأمر السهل، وإنّ تقييم عمل ما واعتباره قيّماً يتطلّب عملاً شاقاً. فكما إن
النتاج النفسي من أي عمل فنيّ لا يكون قطعة موحدة تحتوي على تدرجات وتوزيع
للاختصاصات فإن كتابة الروائع الأدبية لا يمكن إدماجها في نص واحد أو اختزالها في
موضوع معين، ذلك أن الكلمات المتداولة عندما تجتمع بطريقة معينة تكتسب سلطة
الإيحاء باللا متوقع والمجهول، ومن ثم فإن الكتّاب هم أناس عند الكتابة يتحدثون
بدون علمهم عن أشياء هم أنفسهم لا يعرفونها بدقة، إن القصيدة تعرف الشاعر أكثر من
الشاعر.
إن الأدب يعني بالمطلق نقصاناً في الوعي، والحدث الأدبيّ
لا يتحقّق إلا إذا انطوى في ذاته على شيء من انعدام الوعي، وبما أن الأدب يحتوي
علي شيء من اللاشعور في داخله فإننا سننجذب إلى التقريب بين الفن واللاشعور حد
المزج.[9]
إن هدف النتاجات الأدبية هو تقديم وجهة نظر معينة عن واقع الإنسان، كما يقدم
الطريقة التي يدرك بها الإنسان وسطه، والروابط التي يقيمها مع هذا الوسط. فالفن هو
تصوير للعالم من وجهة نظر الكاتب وتمنياته، وما يقوم به التحليل النفسي من تشييد
نماذج لفك الشيفرة الكامنة في نص أدبي ما. أي أنه جهاز
مفاهيميّ يُعيد تشكيل العمق النفسي للنص لاكتشاف اللاشعور الذي يمتلكه الكاتب
ويخفيه في النص.
لقد حقق التحليل النفسي نتائج كبيرة في تفاعله وتعاطيه
مع الأعمال الفنية والأدبية المتعلقة بالإنسان والطبيعة المحيطة به، فالإنسان هو
إنس ومؤانسة، والأدب طريقة يعبّر بها المبدع والفنّان عن ذاك الإنسان في جوانبه
المختلفة، وهذه النتائج شجعت الكثير من النقّاد على اعتمادهم ذلك كمنهج من مناهج
النقد الأدبيّ والفنيّ، فدرسوا الكثير من النظريات النفسية من أجل مقاربة النصوص
الأدبية، كنظرية الجهاز النفسي، واللاشعور، وعقدة أوديب، وحالة المرآة، وصدمة
الميلاد...، وقد أبدى التحليل النفسي في النقد الأدبي بلاءً حسناً في مقاربات
كثيرة لأعمال أدبية لكتّاب كبار، حيث وجد النقّاد في مفهوم النظريات النفسية
طريقاً للبحث في أعماق مناطق الهو والأنا والنحن.
لا شعور اللغة:
يؤكد "لاكان" أنّ اللغة تتكوّن في المرحلة
الجنينية، فالجنين عندما ينمو في رحم أمه فإنّه يتعرّض للأصوات الآتية من الخارج
ويقوم بتشكيل المخزون اللغوي بدءاً من تلك المرحلة، ولما
كانت اللغة موجودة بالأساس وخيالية فإن الإنسان في مراحل متقدّمة يقوم بشيء يشبه
«تهذيب اللغة الخيالية» الموجودة بالأساس بما يتناسب مع المحيط المعاش، ويتّحد
معها ليشكّل في المحصّلة اللغة الخاصة به كواقع نفسيّ واجتماعيّ معاش.[10]
إن آلية الإبداع الأدبي للغة تعمل بالطريقة عينها التي
تعمل بها العمليات الأولية الكامنة في اللاشعور. هي أشبه بالرحم التي تتحقق فيها
كل الرغبات المحرمة، وإحدى تجلياتها هي الشعر. فالبلاغة من استعارةٍ ومجازٍ وكناية
هي عمليات تحويل أو تحوير أو إبدال للصور الأصلية الكامنة في اللاشعور، والتلميح
والمبالغة والسخرية والتعويض الذي نجده في النص الشعري هو عبارة عن القدرة على نقل
موضوع من مكان محرّم إلى مكان مباح بشكل سري.[11]
البلاغة من استعارةٍ ومجازٍ وكناية هي عمليات تحويل أو تحوير أو إبدال للصور الأصلية الكامنة في اللاشعور، والتلميح والمبالغة والسخرية والتعويض، الذي نجده في النص الشعري هو عبارة عن القدرة على نقل موضوع من مكان محرّم إلى مكان مباح بشكل سري.
في
أدبيات التحليل النفسي يُعدّ البلاغة فن تحريف الرغبات بواسطة الكلمات، فقد عرّف
"لاكان" المجاز "على أنّه بديل لرمز آخر[12]"، أي أن
هناك مقاومة داخلية للدلالة داخل اللغة، ويرمز لها "شوشر" بالشرطة، أي
أن المعنى المراد منه أثناء الكتابة والحديث لا يظهر بشكل مباشر وتلقائي؛ لذا يتم
إنتاج دلالة أخرى أكثر قبولاً من قِبل الأنا الأعلى، وهو ما يتم من خلال استخدام الكنايات
والمجازات[13]. وهذا وإن
دلنا على شيء فإنه يدلنا على أن اللا وعي مبني كاللغة، وهو عالم مرموز غير منطوق
يحتاج إلى بعض التحويرات، والالتواءات ككل تشكل نفسها في هيئة لغة معينة، وبما أن
لاوعي البشر مختلف ومتباين فإن اللغة تكون بالنتيجة متباينة وإن كانت الفكرة
واحدة. هنا لا يمكن إغفال حقيقة أن النص الشعري أو الأدبي بشكل عام فيه من
التعقيد، والتنظيم، والمنطقية، يصعب معه العثور على المعنى الكامن فيه بكل سهولة،
فالأنا هنا تمتلك ذكاء فائقاً في تقنيع – قناع – وإخفاء المراد تحت كم هائل من
الاستعارات، وهي بالتأكيد ليست كالكلمات والأحاديث اليومية الشائعة.
فالأديب يقوم بتفريغ ما يجول في جعبة خياله ولا وعيه
وتوجيهه إلى العالم الخارجي عن طريق اللغة بما تحتويها من مجازات، ولتأكيد وجهة
نظرنا سنقتبس هنا عبارة من "لابلانش" يقول
فيها: "إن الكتابة واللعب والاستيهام، إنجاز مشوه لرغبة مكبوتة، وكل رغبة لا
واعية تسعى إلى أن تتحقق باسترجاع العلامات المرتبطة بالتجارب الأولى للإشباع حسب
القوانين العملية الأولية."[14]
إن الكتابة إعادة صياغة رغبة غير مصاغة في جسد ما (الهو) في جسد آخر (الكتابة)،
فالمتعة اللا واعية الموجودة في الكتابة تتجاوز في إمكانيتها ما تقترحه علينا
الخيال التقي أو المتحضّر. فعملية الكتابة مرتبطة بحدّ
كبير باللذة المشتهاة وغير الموصول لها، فهي تهدّأ بعض توترات نفسيتنا العميقة على
حد تعبير "فرويد"، فالفعل الأدبي يمتاز بأنه خارج الإطار المعتاد، ولكي
يكون الفعل الأدبي ناجحاً وخالداً يجب عليه أن يكون عملاً خارج المألوف، ويمكن قول
العكس أيضاً كلما كان النص الأدبي خارج المألوف كلما كُتب له الخلود. إن اللغة
هي لا شعورنا الناطق، أو أن لا شعورنا الناطق يتحرر مما يكبته عن طريق اللغة.
اللغة هي الوجه الآخر للا شعور، وإن فرضية أن اللغة لا
شعورية يمكن أن ندعمها بالحجة التالية: لو أن اللغة لم تكن لا شعورية لأمكننا أن
نقول بأن باستطاعة شخصين من نفس البيئة الاجتماعية والثقافية أن يستخدما نفس
الكلمات والمفردات والجمل وأنهما سيتكلمان بنفس الأسلوب والصيغ عند الحديث في
موضوع معين، لكن ولأن اللغة هي اللاشعور ولأن اللاشعور الذي يملكه كل واحد منا
يختلف عن الآخر نتيجة الخبرات الفردية التي يعيشها، والتي تخالف من فرد إلى أخر،
فإن النتيجة الحتمية التي سنصل إليها هي أن كل شخص يعبر عن ذاته/ أناه بأسلوب
يختلف عن الآخر يعكس لا شعوره.
يستلهم "لاكان" نظريته في اللغة من نظرية
"فرويد" المشهورة في اللاشعور بفارق بسيط ومصيري وهو أنه يضفي على
التركيبة اللاشعورية طابعاً لغوياً ويطابق بين مفهومي اللغة واللاشعور عند الفرد.
فماهيّة اللغة لاشعورية واللغة تشكّل منطق اللاشعور وجوهره. إن قراءة صحيحة للغة المتكلم بإمكانها إعطاءنا بيانات
ومعلومات وافرة عن العالم اللاشعوري للفرد، وإنها بطاقة العبور للجانب الأخر من
الأنا اللا وعي للآخر.[15]
اللغة هي عبارة عن منظومة منسقة ودقيقة من الرموز، إن هذا النظام الرمزي يحمل على
عاتقه الدور الحاسم في بناء أنا الفرد.إن اللاشعور من وجهة نظر فرويد لديه قوانينه
الخاصة به وله عمليات دفاعية على أساسها يديم صيرورته ومنها التكثيف والتحويل،
ليقوم لاكان بالأخذ بناصية هذين المصطلحين ويعطيها بعداً علمياً لغوياً[16]،
ليأتي لنا في نهاية المطاف بنتيجة تؤكد أن الهيكلة اللاشعورية هيكلة لغوية بحتة.
المنهج النفسي في الأدب:
المنهج النفسي في التحليل قديم قدم الأدب، إلا أنه كان
على شكل ملاحظات نقدية دون أن يتحول إلى منهج تطبيقي، ويمكن ملاحظة ذلك
في الملاحظات التي أبدها أفلاطون حول الشعر، وبأنه انعكاس للعواطف الإنسانية، حيث
كان يرى أن الشعر له أضرار على المجتمع لذا طرد الشعراء من المدينة الفاضلة. كما
نرى أن أرسطو ربط بين نظرية التطهير والإبداع الأدبي، فهو يرى أن الأعمال الأدبية
تؤدي وظيفة نفسية هي التفريغ من خلال تفريغ مشاعر الخوف والشفقة من الشعور
الإنساني بعد أن يقرأ عملاً أدبياً.[17]
أما بشكل أكثر علمية، فقد ظهر المنهج النفسي في الأدب مع
ظهور وشيوع مدرسة التحليل النفسي واهتمامه بالأعمال الفنيّة أو المبدع والعمل على
تحليله من وجهة نظر نفسية.[18]
ولأن التحليل النفسي يعمل على الجانب اللاشعوري من النفس الإنسانيّة، فقد كانت
الأعمال الأدبية مساحة خصبة للتحليل، والتنقيب، وتطبيق المنهج النفسي عليها.
ومن المعروف أن المناهج لديها مبادئ تعتمد عليها. ولعل
أهم مبادئ المنهج النفسي تتلخص في اعتبار اللا وعي نقطة ارتكاز في تحليلها للنص أو
المبدع، أو البطل، واعتبار النص عملية تحليل نفسية تشبه عملية تحليل المعالَج
النفسي.[19]
كما يُضيف بعض النقاد مبادئ أخرى منها: اعتبار المبدع شخصاً عُصابيّاً وما النص
الإبداعي إلا عرض عصابي نفسي يقود الكاتب بالتسامي بها عن طريق الكتابة.[20]
إن نتاج الكاتب هو سيرة حياة مشفرة ومحوّلة إلى لغة،
والذي يعتبر اللاشعور الرمزي للكاتب، يحاول من خلاله الكاتب عن طريق الرمزية
اللغوية تمرير ما يُعتبر ممنوعاً. أي أنه بالإمكان قراءة عالم الكاتب وما يعيشه من
تجارب نفسية من خلال نصه وليس العكس] أي فهم النص من خلال الكاتب. فالنص يُعطينا
أكثر مما نتوقع ويتوقع الكاتب نفسه عن حياته. إن النص سيرة ذاتية سريّة وهاربة من
رقابة "الأنا العليا" للكاتب.
تطبيق المنهج النفسي في قصة «المعطف»:
بالإمكان تحليل القصة وفقاً لنظرية التحليل النفسي، وذلك
من خلال تركيزنا على العوامل النفسية للشخصيات والمواقف التي تظهر فيها. فبحسب
"سيغموند فرويد" إن التحليل النفسي يعتمد على تحليل المشاعر اللا واعية
التي تظهر من خلال الأفعال والأفكار والكلمات والتي تًشكّل، وتقود، وتؤثر في السلوك
البشري. فالقراءة النفسية "قراءةٌ تنطلق من جزئياته دون كلياته."[21]
أي هي قراءة تبدأ من جزئيات النص نحو فهم أوضح للنص كاملاً.
3.
1. سيرة القاص:
قاسم
توفيق روائي أردني من أصول فلسطينية. وُلد في مدينة جنين من عام 1954 في السابع
والعشرين من أيار. تخرج من الجامعة الأردنية من قسم الآدب سنة 1978. عمل في القطاع
المصري الذي فرض عليه السفر إلى بلدان أخرى تعرّف فيه عن قرب على ثقافتهم ونمط
تفكيرهم الذي عكس وأثّر في نضجه الأدبي. بعد التقاعد من البنك المركزي الأردني
تفرّغ توفيق للكتابة الأدبية "النثرية" وعقد مع الكلمات علاقة قوية. ومن
أهم النقاط في حياة توفيق التي وجب تسليط الضوء عليها، هي علاقة الكاتب المميزة
بأمه التي انعكست على كتاباته والتي اتسمت بالطابع الأنثوي نوعاً ما والتي يمكن
ملاحظتها بقوة في قصة "المعطف". كما يمتلك توفيق خزينة وفيرة على صعيد
الأعمال المنشورة، منها ثلاث عشرة رواية، وخمس مجموعات قصصية.[22]
3. 2. الحبكة الأدبية في قصة «المعطف»:
إن
الحبكة الأدبية في النص تعتمد على سرد بسيط وسهل والتي تتطور تدريجياً لتبني في
النهاية تجربة إنسانية تلامس الواقع اليومي المعاش للإنسان. فالنص يعتمد على حبكة
ذات صبغة بنائية تراكمية. حيث يعكس الصراع النفسي الاجتماعي بشكل تصاعدي ليصل ذاك
الصراع إلى ذروته في نهاية القصة.
البداية
/المقدمة:
نص
القصة بدأ بالوصف العام للبيئة والعناصر والعوامل المحيطة بالسارد، كالطقس البارد
والحياة الجامعية التي تعتبر نقطة انطلاق جديدة للسارد في حياته. فنرى كيف أن هذا
الوصف يضع القارئ في جو النص، ويندمج معه، ويُجهزه لفهم نوعية الصعوبات التي
يواجهها السارد، خاصة فكرة العيش في بيئة جديدة تتطلب التكيف مع الشروط الجديدة
التي تبدو غريبة عليه نوعاً ما.؟
الصراع/
الحدث الرئيسي:
يبدأ
الصراع أو الحدث بقرار البطل شراء معطف ثقيل يقيه برد الشتاء في جامعته.
هناك
يظهر أمامنا نوعان من الصراع:
أـ
خارجي: مع الطقس البارد والمتطلبات الاجتماعية التي تفرض عليه نوعاً معيناً من نمط
التصرف واللبس.
ب. داخلي: صراع نفسي متولد عن محاولته التوازن بين
الحاجات العملية والرغبة في ترك انطباع محدد على الآخرين.
العقدة/
الذروة:
ذروة
الحبكة تتجلى عندما تكتشف أم البطل أن المعطف الذي اشتراه هو "معطف
نسائي". هذه الحادثة المفاجئة أضافت على النص بُعدًا درامياً وساخراً، ليتحول
انتصار البطل الشخصي "شراء معطف أنيق" إلى لحظة إحراج، وخجل، وخيبة أمل.
التوتر
المتصاعد:
ردة
فعل الأم وضحكتها المدوية أضاف مسحة من السخرية؛ هذه الإضافة التي زادت من حدة
الصراع الداخلي لدى البطل. الصراع الذي ظهر جلياً من خلال مشاعر الإحراج والخجل
التي انتابته نتيجة رد فعلها العنيف والغير متوقع لتضاعف التوتر وتُبرز الصراع
النفسي بين رغبته في الاستقلال الشخصي والنفسي وحاجته للتقدير والقبول من الأم.
الحل/
الخاتمة:
ينتهي
النص بتعزيز فكرة أن البطل أصبح واعياً للأخطاء الصغيرة التي قد تواجهه في محاولته
للتأقلم مع الحياة الجديدة التي تنتظره. كمانرى ان الخاتمة لا تقدم حلاّ صريحاً
للصراع، لكنها تُظهر لنا أن البطل في مواجهات مع ذاته، مما يفسح المجال للتأمل
الشخصي في شخصية البطل وإضافة المعنى على النص وفق نظرة القارئ وتراكماته الفكرية
والثقافية.
مميزات
الحبكة الأدبية:
أـ
الطبيعة الواقعية: الحبكة تعتمد على حدث يومي واقعي تجعل القارئ يندمج مع تجربة
البطل وكأنها جزء من تجربته الخاصة.
ب
ـ عنصر المفاجأة: تحول المعطف إلى "معطف نسائي" وهو العنصر المفاجئ في
القصة الذي أضاف طبقة من السخرية والعمق للقصة.
جـ.
التدرج السردي: القصة تتطور تدريجيًا من وصف للبيئة والحاجات العملية إلى حالة من
مواجهة لحظة حرجة والتي تحمل معنى اجتماعياً ونفسياً.
دـ.
التوازن بين السرد والوصف: الحبكة تمزج بين وصف للبيئة الجامعية الجديدة وتجربة
البطل الشخصية، مما يعكس الخلفية النفسية والاجتماعية للبطل.
هـ.
التأثير النفسي: تُبرز الحبكة مشاعر البطل المتناقضة بين الفخر، والخجل، والإحراج،
والحب الأمومي، مما يجعل النص حافلاً بالمشاعر المختلطة والمكثّفة التي تترك
تأثيراً أقوى على القارئ.
وـ
خلاصة: حبكة النص الأدبي مبنية على صراع يبدو بسيطاً، لكنه في الواقع عميق يلامس
تحولات البطل النفسية والاجتماعية والتي يمر بها أي فرد أخر عند مواجهته لبيئة
جديدة عليه. أي إن قوة الحبكة تكمن في جمع الكاتب بين الواقعي والرمزي، مما يضفي
على النص مسحة إنسانية وعاطفية تجذب القارئ وتجعله في حالة تعاطف مع تجربة البطل.
اللاشعور هو كل ممنوع ومكبوت ومحرّم يحاول أن يتملّص من رقابة الأنا الأعلى التي تمثل العرف، والعادات، والتقاليد، وكل أنواع القيود المفروضة على اللاشعور.
3.
3. تحليل
القصة وفقاً لمنهج التحليل النفسي:
إن
البحث في قصة المعطف كأجزاء، ورموز، وأسرار، ودلالات نفسية بإمكانه إعطاءنا
معلومات مهمة عن الجانب النفسي من عالم النص أو عالم البطل الذي يحاول من خلال
اللغة/ الرمز أن يعبّر عن الباطن والمكبوت من لا شعوره. وما التحليل النفسي للنص
سوى محاولة لفك هذه الشيفرات، والعمل على قراءة النص قراءة نفسية من خلالها نصل
إلى المخفي الحقيقي تحت غطاء الاستعارة، وأيضاً محاولة قراءة ما لم يقله النص/
البطل؟. فالكاتب لا يقول كل شيء من خلال اللغة والاستعارات، بل يقول الكثير من
خلال الامتناع عن قول أشياء كان من المفترض البوح بها بما يتماشى مع متطلبات النص؛
فما لم يقله النص تقوله الفراغات، المتروكة عمداً أو بشكل لا شعوري، من قبل الكاتب
كي يقوم القارئ بملئها بما يتماشى مع بنية النص وإعادة هيكلتها في بنية مستمدة من
وعي القارئ ومن لا وعيه. وهو ما سنعمل عليه في الفقرات التالية.
3.
4.
قراءة في رمزية العنوان:
بتحليل البّعد النفسي ودلالاته الرمزية لعنوان قصة
"المعطف" تم مصادفة معان وأوضاع نفسية كثيرة للعنوان، وهي تتنوع بين
العلاقة الأمومية، والأنا المهمّشة الهشة، ودور الأب المُقصي قسراً من مساحة النص
الشعوري الذي يُخفي دوافع لا شعورية. وتظهر العلاقة الأمومية في رمزيّة المعطف
الذي يرمز بشكل واضح إلى الأم. فاختيار البطل "العفوي" والغير مقصود
ظاهرياً لمعطفٍ يكتشف فيما بعد أنّه نسائيّ هو دلالة على التصاق البطل الطفولي
بأمه، وهو يريد لا شعورياً أن يكون جزءاً منها عن طريق ارتداء معطف نسائي.
وهو نفسياً عملية إقصاء للأب من خلال التخلي عن المعطف
الرجالي وإسقاطه من حسابات عالمه الواقعي/ العقلي. "وقد تقوده توحداته إلى
إنكار جنسه والتلبس برداء الجنس الآخر، حيث يتوحد بقضيب يتوحد وراء الملابس
النسائية."[23] فالحالة هنا أيضاً يمكن
إعطاءها بُعداً فتيشياً، كما يمكن أن تحمل في صميمها مشاكل في الهوية الجنسانية.
كما يمكن أن يكون "المعطف" رمزاً للتعويض عن
رحم الأم الذي أُخرج منه أثناء الولادة، تلك المرحلة الجنينية التي يكون فيها
الجنين بأمان ودفء. فيقوم بتعويضها في الحياة اللاحقة من خلال اختيار بديل مناسب
لها في الوظائفية، والذي كان المعطف النسائي بطبيعة بديلاً مناسباً لها بالنسبة
للبطل، بسبب الشبه بين المعطف والرحم في كونهما يمنحان الدفء والأمان.فحالة الغياب
"المرحلة الجنينية" تكون حاضرة في كل مرة يحاول الشخص أن يختار موضوعاً
بديلاً لها، لكي يؤكد للشخص أنه لا يمكن له بالرغم من كل شيء أن يحل محل الضائع.[24]
وما عملية التعويض إلا إشارة على استحالة التعويض. إذاً اختيارنا للبدائل
وخياراتنا الشخصية ما هي إلا رسائل لا شعورية مفادها "الضائع الذي تبحث عنه
سيظل ضائعاً ومفقوداً، وأكبر دليل على ذلك هو بحثك الدائم عن موضوع بديل له."
وربما تبادر إلى الذهن بأن الأمر وما فيه هو صدفة بحتة
لا يمكن أن نحملها أبعاداً نفسية. هكذا فرضية يفنّدها "فرويد" عندما
يقول باستحالة وجود الصدف في المجال النفسي الداخلي، وهو ما يتفق معه
"لاكان"، حيث يكرر الأخير بأنه ما من صدفة في النظام الرمزي، والتي
اللغة إحدى مكوناته.[25]
فليس من الصدفة أن صاحب المعطف لم ينتبه إلى حقيقة كون المعطف نسائياً، وليست صدفة
أن لا يلاحظ صاحب المتجر نفسه وهو الذي يتوجب عليه أن يعرف جيداً بضاعته أكثر من
أي كان، ليس صدفة ألّا ينبّه البطل بجنس المعطف! إن كل ذلك ما هو إلا تواطؤ لا
شعوري بين المبدع والنص كي يقوم بتمرير رغباته المكبوتة الممنوعة، وأيضاً تماشياً
مع روح النص الذي يكشف لنا في النهاية جنس المعطف.
ومن ناحية العلاقة الرمزية للمعطف بالأنا وجب أن نتطرق
إلى مفهوم "المرآة" لدى "لاكان"، فبحسب "لاكان"
ترمز مرحلة المرآة إلى تلك الحالة التي يعيشها الطفل بعد عمر الستة أشهر. فصورته
الخارجية في المرآة تخبره أنه ذو كيان موحّد متماسك ومتكامل وبالتالي كامل، مع ما
يخبره به عالمه الداخلي من عدم توازن وتشظي نتيجة عدم قدرته بعدُعلى السيطرة بشكل
كامل على أعضائه وعضلاته مما يجعله مهزوزاً وغير واثق من نفسه من الداخل.
ليقوم "المعطف" مرة أخرى، بما يحمل من رمزية
بحمايته من أعاصير وحروب تجتاح عالمه الداخلي، مما يعطيه ولو نسبياً نوعاً من
الثبات. الثبات الذي يظهر من خلال وصف البطل لحالة الانسجام الخارجي مع المحيط
الذي يمنحه المعطف، والذي يُخفي ويُغطي هشاشته وعقد النقص الذي يشعر به وهو مع
أشخاص أعلى منه مكانة. يقول الكاتب في ذلك: "قبل أن أصبح طالباً في الجامعة،
فقد كانت تكفيني ملابسي، ودفء أنفاس أمي. صار لزاماً عليّ أن أقتني معطفاً
ثقيلاً.... طوال طريق العودة كنت أحلم بهيئتي الفاتنة وأنا أدخل بوابة الجامعة،
وأرى نظرات الإعجاب التي سترمقني بها الصبايا الفاتنات".
المحيط الخارجي للبطل هو جميع الأعراف، والتقاليد، والأدوار المجتمعية المعينة التي يُنتظر من البطل أن يقوم بها على أكمل وجه.
البطل ومن خلال بنية النص الخارجية يظهر وكأنه شخص يبحث
عن الدفء والأمان من خلال الذهاب لاقتناء معطف له في السوق الشعبي. لكن ومن خلال
السؤال عن سبب المعطف دون القفاز الشتوي، أو قبعة صوفية؟ يظهر أمامنا رمزية
المعطف، والرغبة اللاشعورية التي دفعت بالبطل لاختياره المعطف بالذات الفرضية
النفسية، أو التحليل النفسي بشكل خاص تجعلنا نحلل المعطف ورمزيته. فالمعطف هو كل
مايغطي أو يخفي جزءاً من الجسد في مواجهة شيئاً آخر. ولو بحثنا في المصطلحات
النفسية عن بديل للمعطف ورمزيته لوجدنا أنه الأنا التي تحمي اللاشعور من هجمات
الأنا الأعلى.
3. 5. التجربة النفسية للأنا والأنا الأعلى واللاشعور:
اللاشعور هو كل ممنوع ومكبوت ومحرّم يحاول أن يتملّص من
رقابة الأنا الأعلى التي تمثل العرف، والعادات، والتقاليد، وكل أنواع القيود
المفروضة على اللاشعور. وإن كان بعض النقّاد يرون أنّ أي عمل أدبي هو نشاطٌ كامن
في باطن النفس الإنساني، وأن ذاك العالم الباطني رمز للرغبات المكبوتة في لا شعور
الكاتب أو المبدع، في ضوء هذا الفكرة يؤكدون على ضرورة تفسير العمل الأدبي من وجهة
نظر التحليل النفسي، أي أنهم يركزون على المكبوت في اللاشعور.
هذا الرأي وإن كان صحيحاً ومقبولاً إلا أنه يجب توضيح
فكرة مهمة، أو تسليط الضوء على مفهوم معين يُعتبر ضبابياً نوعاً ما، وهو مصطلح
الكبت. أما المقصود بالمكبوت أو المحرّم، من وجهة نظرنا، فليست بالضرورة أن تكون
الرغبات الجنسية التي لا يستطيع الشخص ممارستها بسهولة وعلى العلن، فالمكبوت ليس
بالضرورة تمثيلاً لرغبات جنسية وإن كان الجنسي من كل رغبة هو المكبوت بالضرورة،
وهي نقطة تُحسب على قرّاء "فرويد" ونظرية التحليل النفسي، الذين عمدوا
إلى اختزال كل نظرية "فرويد" في الكبت وربطه بالدافع الجنسي.
فالمكبوت هو كل محرّم سواء أكان عرفيّاً، أو مجتمعيّاً،
أو دينيّاً، أو طبقيّاً. وهو ما يؤدي بنا إلى بديهيّة أن مكبوت كل مجتمع يختلف عن
مكبوت مجتمع آخر، وعائلة أخرى، وأسرة أخرى، ليضيق النطاق أكثر من فرد إلى آخر ومن
جنس إلى آخر داخل الأسرة الواحدة. والذي ينعكس بطبيعة الحال على أعمال المبدعين،
أعمالهم التي يمكن ملاحظة الاختلافات التي
تمّت ذكرها من خلال فك الشيفرات، والرموز المتواجدة فيها. فالمكبوت المتواجد في لا
شعور أحد المبدعين يختلف عن مكبوت مبدع آخر نتيجة التجارب الطفولية التي عاشها
وعانها، بالتالي إنتاجه الأدبي مختلف. لذا لا يجب أن تُحلّل كل الأعمال الأدبية في
قالب واحد، ومحدد، ومجهّز مسبقاً، وفق أحكام مسبقة وقواعد محددة؛ بل يجب أن يكون
مرناً مناسباً ومتفهّماً لعالم المبدع اللاشعوري الذي يعكس على لغته وتجربته
الإبداعية بطبيعة الحال.
أما المعطف الذي هو الأنا، فهو الوسيط بين اللاشعور
والأنا الأعلى، إنه الجسر الذي يحاول أن يربط بين العالمين. إنه السمسار الذي
يحاول أن يمرّر رغبات اللاشعور إلى العلن لكن دون أن يثير غضب الأنا الأعلى أو
الرقيب في نفس الوقت، لذا يغطّي اللاشعور بغطاء خافٍ"المعطف"ويخفيه عن
الأعين لكي يحمي الفرد من اختلالات نفسية قد تؤدي به إلى عقد وأمراض نفسية. "المعطف"كرمزية الحامي الذي يحمي "الجسد "اللاشعور من
عنصر آخر يشكل له خطراً وجودياً "سلطة الأنا العليا".
لنرى كيف أن المعطف يتقمص رمزاً آخراً عندما تكتشف الأم
أنّه "معطف نسائي". إن جنسانية المعطف أو جنسيته
تؤدي بنا إلى البحث عن السبب الذي دفع البطل (الرجل) لاختيار معطف نسائي وهو
الرجل! والجواب كما تم ذكره سابقاً ربما
كامن في مشاكل في الهوية الجنسانية على صعيد "الأنا".
3. 6. الصراع النفسي للبطل:
يظهر في النص حالة من الصراع الداخلي المخفي أو الباطني،
يقول البطل: "صار لزاماً عليّ أن أقتدي بالأخرين". إنها حالة من الشعور
بالدّونية المخفيّة. وذلك بحديث البطل عن الحياة الجامعية، وكيفية إلغاء الطبقية،
والفروق المجتمعية الاجتماعية بين الطلاب الذين يكونون سواسية في تلك المقاعد، ولا
فرق بين ابن وزير أو ابن حمّال. ويبتعد البطل بشطحات خياله أبعد من ذلك، فنراه
يحاول أن يعطي انطباعاً بأن طرفي النقيض من الفئتين في حالة اندماج ووئام في
يوتوبيا لعل البطل لطالما حلم بها. كيف لا وهو الطرف الأضعف في تلك المعادلة التي
يجاهد فيها كي يكون طرفاها متساويين، هو الذي كان يرى الدينارين أو الثلاثة كنزاً،
فأصبح الآن معادلاً ومساوياً لمن ولد وفي فمه معلقة من الذهب.
عقدة النقص بادية أيضاً في طريقة اختياره أجمل معطف
وأكثره لفتاً للانتباه، يقول: "التقطت بين تلال الملابس معطفاً جميلاً
وثقيلاً.... كان دفء المعطف أنيقاً". إنها نرجسية البطل التي تحاول أن تتماسك
من خلال إعطاء طابع الصلابة الخارجية، في محاولة لإخفاء وتغطية تلك الدونية التي
تخلق ذاتاً مشوّهة ومتشظية من الداخل، أي الحقيقة المخفية خلف تلك النرجسية
المخفية والتي هي عدم الثقة بالنفس. وإذا علمنا أن النرجسية تحمل في صميمها بذرة عدم
الثقة بالنفس، بطُلَ جهلنا بسبب تزيين نفسه بالمعطف الأنيق. إنها معادلة الخارج
المتماسك مقابل الداخل المهزوز.
إن حالة التناقض التي يعيشها البطل بين أناه الخارجي/
المثالي التي شكلها من خلال لبس معطف أنيق وجميل يلفت نظر الجميع في الجامعة ويجعل
منه أحد الأشخاص الأغنياء، وأناه الداخلي الفقير المفكك غير الواثق بنفسه، وسبب
القول بأنه غير واثق بنفسه، هو انعكاس ذلك ضمنياً من خلال قول البطل نفسه بأن
المعطف الأنيق يجعل منه واحداً من أخيار الطبقة الراقية، وكون المعطف هو السبب في
ذلك، هو موافقة ضمنية على عكس الحالة التي يحاول البطل عرضها على العالم الخارجي.
إن هذا التشتت والتناقض هو رمز لمرحلة المرآة التي نادى بها لكان، وهي مرحلة
اللاثقة والتفكك من الداخل والتماسك من الخارج.
3. 7. علاقة البطل بالأم:
من الواضح أن هناك علاقة حميمية وخصوصية عالية بين البطل
وأمه، تظهر من خلال إلغاء البطل للأب وإسقاطه من الكثير من المواضع التي كان
بالإمكان تواجد الأب فيها، كتأمين النقود له، أو تنبيهه إلى ماهية جنس المعطف،
وأيضاً من المعلوم في عقدة أدويب أن الطفل يتقمص الأب في تصرفاته الشخصية، أي أنه
يتقمصه كي يقوم بإزاحته من عالم الأم وأخذ مكانه من خلال إظهار أنه هو الفالوس
الذي تبحث الأم عنه. لكن الواضح في النص أن عملية الانزياح تخطت التقمص لتنتهي
بالإقصاء والإلغاء الكلي للأب. ومن خلال استخدام مفردات مثل: "أنفاس
الأم"، "دفء الأم"، "ثقة الأم"، "استقبال
الأم". هي جميعاً مفاتيح تفتح باب عالم البطل الأوديني.
كما يمكن ملاحظة العشق الأمومي في النص عندما قام الكاتب
باستبدال دفء الأم الذي كان بحاجته والذي لم يعد بإمكانه الحصول عليه بعد الذهاب
إلى الجامعة، ب" لمس يد الحبيبة أو ضمها بالخفاء لكي تدفئ". إن استبدال
الأم في النص بالحبيبة ما هو إلا تعويض لرمز الأم في الوقت ذاته[26].
إن جدلية العلاقة الثلاثية بين الأم ـ الرجل ـ والحبيبة/ الزوجة دفع الكثير من
المحللين النفسيين والنقاد إلى البحث عنها ومحاولة تحليلها في النصوص الأدبية.
والجدلية مرتكزة على ماهية هذه الثلاثية وهل فعلاً حب الرجل للحبيبة ما هو إلا حب
طفولي لموضوع العشق الأول للطفل "الأم"؟. وهو ما يؤكّد عليه بالإيجاب
فرج أحمد فرج، عندما أعلن أنّ العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة غريبة، في ظاهرها
علاقة الطفل بالأم، وفي باطنها علاقة عشقية شهوية فائقة[27].
وهو ما يمكن تثبيته في قصة المعطف على شكل حنين نكوصي. ويكون النكوص على مستوى
الرمزي أكثر من كونه نكوصاً واقعياً[28].
أي في رغبة الطفل في العودة إلى المرحلة الطفولية المبكرة عندما كان يلجأ إلى أمه
بحثاً عن الحب والدفء يكون من خلال استبداله بالمعطف كرمزية للدفء الأمومي.
3. 8. غياب الأب:
إن قراءة سريعة وسطحية للقصة تعطي انطباعاً وروحاً
أنثويةً يمكن الاحساس بهما بسهولة. فالنص فيه الكثير من الدلالات التي تشير إلى
البُعد الأنثوي من المعطف، والحبيبة، والذكر المتكرر لكلمة "الأم". وهو
ما يؤدي بالمحلل إلى طرح سؤال بديهي حول سبب غياب عنصر "الأب" من النص.
فالأب الذي كان من المفروض أن يمنح النقود للبطل لشراء المعطف، وهو المتعارف عليه
في المجتمعات الشرقية من كون الأب هو رب البيت، وهو الصندوق الذي يقوم بنقد المال
للجميع وتأمين المستلزمات المادية لهم. إلا أننا في النص نرى استبدال العنصر
الأبوي بالعنصر الأمومي "الأنثوي". وهو ما يجعلنا نتساءل عن السبب الذي
دفع اللاشعور إلى اسقاطه من لغة الكاتب الشعورية!.
يفسر جورج طرابيشي ذلك باعتباره الأب وغيابه هو رمز
لغياب "الأنا الأعلى" وهو السلطة العليا المجتمعية ومجموعة من الممنوعات
والمحظورات.[29] أي أن السبب في غياب الأب
من نص المعطف يعود إلى الرغبة اللاشعورية لدى الكاتب بإلغاء/ قتل الأب وتعويضه
بالعنصر الأمومي، موضوع العشق الأولي للطفل. وهو انعكاس لعقدة أوديب التي فيها
يحاول الطفل قتل الأب ليحلّ محلّه ويستحوذ على حبه الأولي، ولأن الطفل في تلك
المرحلة يشعر بعجزه وعدم قدرته على مجابهة الأب الأكثر منه قوة ونفوذاً، يقوم
بالتماهي به وتقمص شخصيته. لكن الكاتب يعود هنا لينتقم لنفسه من ضعفه الطفولي
ويقوم بإتمام ما عجز عنه في الطفولة من خلال اللغة والمجاز!
كما يشير "لاكان" إلى الأهمية الكبرى لاسم
الأب في البنية النفسية، وأن أي خلل أو انحطاط في الاسم، والذي يكون على شكل غياب
اسم الأب، يؤدي إلى أشكال غريبة من اضطرابات نفسية.[30]
وهو ما قام به البطل عندما أقصى اسم الأب من النص والذي يعكس لا شعور المبدع
الرافض لفكرة وجود الأب.
وربما كان السبب الذي دفع بالكاتب لإسكات البائع في
السرد، وهو الذي كان بإمكانه أنه ينبهه إلى أن المعطف نسائي ويمنعه من شرائه، ربما
كان تواطأ مع البطل وحثّه على شراء المعطف النسائي في عملية تعويض عمّا فقده في
مرحلة الطفولة، موضوع عشقه الأولي. واحتمالية كون البائع هو نفسه "الأب"
قوية في معادلة لكسب الحرب الأزلية بين الأب والطفل على الأم. وكأن لسان حال الأب:
"خذ ما هو رمز/ بديل للأم التي سلبتها منك سابقاً". أو هو عملية انتقام
متأخرة من البطل، كما ذُكر سابقاً، عندما انتزع المعطف النسائي ـ الأم ـ من البائع
ـ الأب ـ. لما يرمز له من احتواء ودفء وسكون وعتمة وهي جميعها عناصر المرحلة الرحمية!
المعطف هو النيرفانا التي يشتهيها البطل، إنها صرخة في وجه أول صدمة عاشها البطل/
الإنسان؛ صدمة الولادة الأولى التي يريد العودة لما قبلها باختياره المعطف دون
قطعة أخرى.
3. 9. رمزية المحيط الخارجي:
إن العالم الخارجي هو رمز للسلطة العليا أو الأنا الأعلى
في التحليل النفسي. المحيط الخارجي للبطل هو جميع الأعراف، والتقاليد، والأدوار
المجتمعية المعينة التي يُنتظر من البطل أن يقوم بها على أكمل وجه. وهو يعرف جيداً
مجبوريته في هذا الأمر. لذا نراه يقول بوضوح بعيداً عن استخدام الرمزية اللغوية
بأنه يجب أن "يتماهى بالآخرين"، والتماهي من آليات الدفاع النفسية التي
يلجأ إليه الفرد "الأنا" لكي يستطيع أن يتكيف مع المحيط الخارجي دون أن
يعيش معها صدامات وصراعات تؤثر على توازنه النفسي. والتماهي أو التقمص، هو
الانحلال في الآخر قلباً وقالباً. ومن أكثر أشكال التماهي تطرفاً هو عدم قدرة
الآخرين أو الفرد نفسه على فصل رغباته وأفكاره الحقيقية عن التي تم التماهي بها
وتقمصها.
وعلى صعيد التكيف مع المحيط الخارجي تم ملاحظة إعلاء
الأنا المثالية من خلال محاولة جعلها متساوية مع أنا الأخر الأكثر رفعة ومكانة
اجتماعياً. إن أنا البطل الهامشية التي تحاول جاهدة جعلها متساوية للمركز، هي
محاولة لتعويض الفقد الذي يعيشه البطل، الفقد الواقعي لمكانة كان يجب أن يكون هو
في مركزها. فالبطل يعرف جيداً أنه "مخصيٌ" رمزياً عن مكانة يطمح أن يكون
فيها، فيقوم بتعويضها بأن يتخيل المحيط الاجتماعي في الجامعة حيث الكل سواسية ولا
مركز أو هامش هنا في هذا الفضاء:
"قطعة من "عمان" ألغت فوارق الطبقات،
وصنعت فسحة لطلابها القادمين من قاع المدينة، أو منالقرى والبادية خلتهم مؤهلين
للجلوس في قاعة المحاضرات لصقاً بابن أحد بشوات الأردن، أو ابنواحد من أغنيائها،
وحتى لأن يتبادل كراسة محاضرات مع ابن وزير، أو من هو أعلى شأناً".
إذاً فالمكان في هذا النص هو نوع من أنواع التعويض كما
ذُكر، أو كما يُسمّى بـ"رأب الصدع" في العملية الإبداعية، وهي عملية بين
المبدع والواقع الذي يعيشه لرأب الصدع، وهي نتيجة للعصاب الذي يكون محفّزاً لعملية
الإبداع والخلق الأدبي.[31]
خاتمة:
ربما بالإمكان اعتبار العمل الأدبي نوعاً من أنواع
التداعي الحر. ففي النص الأدبي يمكن مصادفة الكثير من الأمور المهمة وغير المهمة،
كما يمكن مصادفة التفكك واللا ارتباط بين الأفكار، وهو بالضبط ألية عمل التداعي
الحر، الذي يقوم المريض على أساسه بسرد كل شيء مهم وغير مهم من تفاصيل حياته،
لتكون مهمة المعالج هنا انتخاب المهم من غير المهم وإعطائه أبعاد نفسيّة فيما بعد،
وعرضه بالشكل الذي يحاول اللاشعور إظهاره للخارج. وهو ما يقوم به المتلقي/ القارئ
عندما يتناول النص الأدبي، فيقوم بوضع نظارة فرويد وقراءة تداعيات المبدع والعمل
على تنقيحها وإظهار ما يريد المبدع قوله بعيداً عن سلطة الشعور، عاكساً لا شعوره.
يمكن اعتبار النص حالة من التعبير عن العُقد والصراعات
النفسية التي تمزج بين رغبات البطل تجاه أمه كحالة عشق طفولي لم يستطع البطل
تجاوزها حتى في مرحلة النضج، عندما يقوم بتشبيه حالة العشق والدفء الذي يعيشه مع
المحبوبة، بحالة الحب والدفء التي يبحث عنها في الأم. ومن خلال تبديل العشق
الأمومي الذي يُعتبر الإفصاح عنه شيئاً معيباً ومرفوضاً اجتماعياً لذا يقوم
بتبديلها برمزية أخرى هي "المعطف".
كما نشاهد الصراع بين أنا البطل الفرداني وتطلعاته وحالة
من اللا انسجام الواضح مع المحيط الاجتاماعي الذي يعيش فيه والذي يحاول أن يعوضها
بالتماهي وتقمص بأنا الآخر الأكثر قبولاً، عن طريق التصرّف والظهور يشكل خارجي
يشبههم، ليقوم بالتالي بعملية إزاحة للأنا المثالية من الهامش إلى المركز. والقصة
تعكس أيضاً مرحلة تشكّل اللا وعي الفردي والمعاناة والصراعات التي يعيشها والتي
تكون مخفية ومشفّرة في لا وعي النص والذي يعكس بطبيعة الحال لا وعي كاتبها. إذ ليس
من العسير بالنسبة لمحلل نفسي أن يتتبع دروب الكاتب وعقده النفسية من خلال ما كتبه
هو، دون أن يدري هو أن ما كتبه يعكس عوالمه الداخلية في بعض الأحيان. وتكشف أيضاً
كيف أن خبرات الفرد الطفولية، والمحيط الاجتماعي الذي تتكوّن فيه أنا الفرد تلعب
الدور الأكبر في تشكّل المشاعر، والذاكرة، واللغة اللا وعية لديه. مما يعكس على
طريقة تكلّمه وتكوين قناعات وتصورات، وأيضاً تحدد نمطاً معيّناً من الأحاسيس التي
تكوّن كلّه، الكلّ الذي يحتاج الانسلاخ عنه إلى وعي بنقاطه المظلمة وقدرته على
التعامل معها بحكمة.
المصادر والمراجع
أيفانز، ديلان أيفان. قاموس لاكان التمهيدي في
التحليل النفسي. تر. محمد محمود خطاب. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ب ت.
بودري، جان لوي بودري.فرويد والإبداع الأدبي. تر:
موريس أبو ناصر. بيروت: مجلة الفكر العربي المعاصر، 1983.
السمري، عبد العزيز السمري.اتجاهات النقد الأدبي في
القرن العشرين. القاهرة: دار الآفاق، 2011.
طرابيشي، جورج طرابيشي.الأدب من الداخل. بيروت:
دار الطليعة، 1978.
عيسى، محمد عيسى. "القراءة النفسية للنص الأدبي
العربي".مجلة جامعة دمشق. 2003، 19/ 2.
فرج، فرج أحمد فرج. "التحليل النفسي للأدب، دراسة
لمحتوى قصة ليلى والذئب".مجلة فصول: 2/ 1 1982.
فرويد، سيغموند فرويد.الطوطم والحرام. تر جورج
طرابيشي. بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2008.
فرويد، سيغموند فرويد.الموجز في التحليل النفسي.
تر سامي محمود علي وعبد السلام القفاش. مصر: مهرجان القراءة للجميع، 2000.
فرويد، سيغموند فرويد.الهذيان والأحلام. بيروت:
دار الطليعة، 1978.
فرويد، سيغموند فرويد.محاضرات تمهيدية جديدة في
التحليل النفسي. تر. عزت راجح. مصر: دار مصر للطباعة، 1971.
القشاعلة، بديع القشاعلة.مدارس علم النفس.
فلسطين: مركز السيكولوجي للنشر والطباعة، 2021.
كافي، مراد كافي.النموذج الذكوري في روايات قاسم
توفيق. وان: جامعة يوزونجييل، رسالة دكتوراه غير منشورة، 2021.
لابلانش، وبونتاليس، جان لابلانش وجان برتراند بونتاليس.معجم
مصطلحات التحليل النفسي. تر. مصطفى حجازي. بيروت: المنظمة العربية للترجمة،
2011.
مرتاض، عبد المالك مرتاض. في نظرية النقد.
الجزائر: دار هومة للنشر والتوزيع، 2010.
ملال، إيمان ملال. «جاك لاكان وبنية اللاوعي». مجلة
التراث، العدد 25. 44 – 53.
نويل، جان بيلمان نويل.التحليل النفسي والأدب. تر
حسن المودن. مصر: المجلس الأعلى للثقافة، 1997.
الهويدي، صالح الهويدي.النقد الأدبي الحديث: قضاياه
ومناهجه. منشورات 7 أبريل، 1426.
وطفة، علي أسعد وطفة. "البنية اللاشعورية للغة عند
جان لاكان". مجلة نقد وتنوير، فبراير2015.
وغليسي، يوسف وغليسي.مناهج النقد الأدبي.
الجزائر: دار جسور للنشر والتوزيع، 2007.
يونغ، كارل غوستاف يونغ. "علم النفس والأدب".
تر. سمير حمارنة.مجلة نوافذ، العدد 36، 5/1 2007.
Kaynakça:
Beaudry, Jean-Louis, Freud vel İbdau’lEdebi, (Çev: Maurice Abu Nasser), Beyrut:
Faraj, Ahmed Faraj, “et Tahlilu’n-Nefsili’l –Edeb: Dirase li
MuhtevaKıssati Leyle ve’z-Zi’b ”, MecelletüFusul:
2/1 1982.
Freud, Sigmund.el- Hezeyanve’l-Ehlam.Beyrut:
Darül-Talia, 1978.
Freud, Sigmund.el-MucezFi’t-Tahlili’n-Nefsi,
(Çev: Sami Mahmud Ali ve Abduselam el-Kaffaş). Mısır:Mihricanu’l-Kıraali’l Camia, 2000.
Freud, Sigmund. et-Totem ve’l-
Haram, (Çev: GeorgeTarabişi),
Beyrut: Darül-Talia li’l.Tibaetive’n-Neşr, 2008.
Freud, Sigmund.MuhadaratTemhidiyyeCedidefi’t-Tahlili’n-Nefs,
(Çev. Ezzat Rajeh), Mısır: DarüMısr lit-Tibae, 1971.
Ğuleysi, Yusuf.Menahicu’n-Nakdu’l-Edebi,
Cezayir: DaruCusurli Neşri ve’tevzi’, 2007.
el-Huveydi, Salih. en-Nakdu’l-Edebiyyu’l-Hadis: Kadayahu ve Menahicuhu.
Kahire: Menşuratu 7 İbril. 1426
Jung, Carl Gustav. “İlmu’n-Nefs ve’l-Edeb”, (Çeviri: Samir Hamarneh), MecelletNavvafiz, Sayı 36, 5/1/2007.
İsmail, İzeddin.et-Tefsiru’n-Nefsili’l-Edeb.Mısır:
Dar al-Maarif, 1963.
İsa, Muhammad.
“el-Kiraetü’n-Nefsiyyeli’n-Nassi’l-Edebiyyi’l-Arabî”, MecelletüCamiatiDimaşk, 2003, 19/2
el-Kaşaile, Bedi’.Medârisuİlmi’n-Nefs.Filistin: Merkezü’s-Seykolojili’n-Neşrive’t-Tiba’e, 2021.
Kafi, Murad Kafi, KasımTevfik’inRomanlarındaErkeklikOlgusu. Van:
YüzüncüYılÜniversitesi. YayınlanmamışDoktoraTezi, 2021.
Laplanche vePontalis, Jean Laplanche ve Jean-Bertrand Pontalis,
Mu’cemuMustalahati’t-Tahlili’n-Nefsi , (Çeviri Mustafa Hegazy), Beyrut: el-Munazamatü’l-Arabiyetüli’l-Terceme,
2011.
Mellal, İman. “Jacques Lacan veBunyetu’l-Levai’i”, Mecelletü’t-Turas, 25/44 2017.
Murtad, Abdulmelik, fi
Nazariyeti’n-Nakd, Cezayir: Daru Huma li’n-NeşriTavzi’, 2010.
Noel, Jean-Belman.et-Tahlilu’n-Nefsi
ve’l-Edeb, (Çev.: Hassan Almoden), Mısır: el-Meclisü’l-A’lali’s-Sekafe,
1997.
es-Samri, Abdulaziz. İtticâhâtu’n-Nakdi’l-Edebi fi’l-Karni’-‘Âşir. Mısır: Darul-Afâk, 2011.
Tarabişi, George.El- Edeb Mine’l-Dahil,
Beyrut: Darül-Tali'ah, 1978.
Vatfa, Ali Esed. “el-Bunyetu’l-Laşuuriyetu li-Luğeti inde Jean Lacan,” MecelletNakdve’t-Tenvir, Şubat 2015.
سلمى
أحمد جمّو – شاعرة وكاتبة كوردية سورية. من مواليد مدينة كوباني (25 آذار، 1992م).
متخصّصة
في الإرشاد النفسي من جامعة مرسين. حاصلة على ماجستير دراسات عليا في البلاغة العربية
من جامعة وَان. متخرّجة من كلّية الشريعة بجامعة أناضول. تدرس دكتوراه في اللغة العربية
وبلاغتها في جامعة وَان.
تجيد
اللغات الكوردية والعربية والتركية.
مدوّنة
عن قضايا الأدب والفكر وعلم النفس والدين، في العديد من المجلّات والصحف والمواقع
الكوردية والعربية والتركية.
من
مؤلّفاتها:
1. ديوان
«لأنك استثناء»، مصر، القاهرة، دار ببلومانيا للنشر والتوزيع، 2021م، (98 ص).
2. ديوان
«هو في العشق المجازيّ»، الأردن، عمّان، دار الآن ناشرون وموزّعون، 2024م، (86).
3. كتاب
بحث «سيكولوجية الطفل في شعر أحمد شوقي»، هولندا، زوانينبيرج، دار نوس هاوس للنشر
والترجمة والأدب، (158 ص).
[1] سيغموند فرويد، الطوطم
والحرام، تر جورج طرابيشي، (بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 2008)، 106.
[2] سيغموند
فرويد، الموجز في التحليل النفسي، تر سامي محمود علي وعبد السلام القفاش،
(مصر، مهرجان القراءة للجميع، 2000)، 48 ـ 49.
[3] كارل غوستاف يونغ،
"علم النفس والأدب"، تر سمير حمارنة، مجلة نوافذ، العدد 36، 5/1
(2007).
[4] بديع
القشاعلة، مدارس علم النفس، (فلسطين: مركز السيكولوجي للنشر والطباعة،
2021)، 41.
[5] القشاعلة،
مدارس علم النفس، 50.
[6] فرويد، الموجز
في التحليل النفسي.
[7] سيغموند
فرويد، الهذيان والأحلام، (بيروت: دار الطليعة، 1978، ط1)، 14.
[8] سيغموند
فرويد، محاضرات تمهيدية جديدة في التحليل النفسي، تر عزت راجح، (مصر: دار
مصر للطباعة، 1971)، 201.
[9] جان
بيلمان نويل، التحليل النفسي والأدب، تر حسن المودن، (مصر: المجلس الأعلى
للثقافة، 1997)، 9.
[10] إيمان
ملال، «جاك لاكان وبنية اللاوعي»، مجلة التراث، العدد 25. 44 – 53.
[11] نويل،
التحليل النفسي والأدب، 28.
[12] ديلان
أيفانز، قاموس لاكان التمهيدي في التحليل النفسي، تر. محمد محمود خطاب،
(القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، د ت)، 250.
[13] أيفانز،
قاموس لاكان، 251.
[14] جان
لابلانش وجان برتراند بونتاليس، معجم مصطلحات التحليل النفسي، تر مصطفى
حجازي، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011) 120.
[15]علي
أسعد وطفة، "البنية اللاشعورية للغة عند جان لاكان"، مجلة نقد وتنوير،
فبراير (2015).
[16] أيفانز،
قاموس لاكان، 250.
[17] صالح
الهويدي، النقد الأدبي الحديث: قضاياه ومناهجه، (منشورات 7 أبريل، 1426)،
80.
[18] عبد
العزيز السمري، اتجاهات النقد الأدبي في القرن العشرين، (القاهرة: دار
الآفاق، 2011)، 88.
[19] عبد
المالك مرتاض، في نظرية النقد، (الجزائر: دار هومة للنشر والتوزيع، 2010)،
140.
[20] يوسف
وغليسي، مناهج النقد الأدبي، (الجزائر: دار جسور للنشر والتوزيع، 2007)،
22ـ23.
[22] مراد
كافي، النموذج الذكوري في روايات قاسم توفيق، (وان: جامعة يوزونجييل، رسالة
دكتوراه غير منشورة، 2021)، 29.
[23] أيفانز،
قاموس لاكان التمهيدي في التحليل النفسي، 43.
[24] أيفانز،
قاموس لاكان، 53.
[25] أيفانز،
قاموس لاكان، 120.
[26] عز
الدين إسماعيل، التفسير النفسي للأدب، (مصر: دار المعارف، 1963)، 264.
[27] فرج
أحمد فرج، "التحليل النفسي للأدب، دراسة لمحتوى قصة ليلى والذئب"، مجلة
فصول: 2/ 1 1982، 176.
[28] أيفانز،
قاموس لاكان، 321.
[29] جورج
طرابيشي، الأدب من الداخل، (بيروت: دار الطليعة، 1978)، 166.
[30] أيفانز،
قاموس لاكان، 173.
[31] جان
لوي بودري، فرويد والإبداع الأدبي، تر: موريس أبو ناصر، (بيروت: مجلة الفكر
العربي المعاصر، 1983)، 132.