يونان سعد
نحن الآن في القرن التاسع عشر بعد ثورة منكوبة حدثت عام 1848 حققت انتصاراً مبدئياً لكنها فشلت في تحقيق أهدافها، مع مسلسل انهيار لسلطة رجال الدين بدأ منذ ثلاثة قرون ونحن الآن في ذروته، انهارت سلطة الكنيسة لكن حاجة الناس إلى إله لم تنهار، ولم تكن صوفية كانط أو صوفية سبينوزا أو صوفية هيجل وصولاً لصوفية فيورباخ إلا فيوض فكرية هدفها ملأ هذا الفراغ الذي تركته المؤسسة الدينية، هذا الانهيار في البنية الموكل إليها الإجابة عن سؤال الوجود ومتمثلة في المؤسسة الدينية كان مصاحباً لانهيار آخر في البني المادية للمجتمع، التقنية تزداد يوماً بعد يوم، حصلنا على ماكينة بخارية وقطار سكة حديد عما قريب، انتشرت المصانع وقدم الفلاحون من كل مكان لتشغيل الماكينات الكبيرة التي جلبها اللوردات الكبار، وهكذا انتقل الأوربيون فجأة من نظام إقطاعية زراعية إلى نظام إقطاعية عمالية، نحن في خضم الثورة الصناعية الأولى. وأجواء الثورة الفرنسية لم تهدأ بعد والحركات المدنية سواء كانت قومية أو اشتراكية تنشأ وتتفكك لتنشأ من جديد. في خضم هذا الموج المتلاطم، كان فيورباخ شاباً لا توحي بنيته الجسدية المتينة بعقلية فلسفية لامعة، لكن ملامح وجهه كانت تعكسُ ما هو أبعد من ذلك بكثير.
مفهوم الإله
يميز فيورباخ بين مفهوم الإله وتصورات الإله، حيث مفهوم الإله في أي نظام ديني أو فكري شيء، والتصور النفسي الشخصي عن هذا الإله شيء آخر، هكذا يكون لدينا تصوران عن الإله، أحدهما مفهومي يتم اعتناقه بشكل واعٍ عن طريق الدين أو الفكر، والآخر شعوري كامن في طبقات عميقة من اللاوعي، وحيث يعيش التصوران المفهومي والنفسي في عالمٍ شعوري واحد فإن دراما التناقض أو الانسجام تبدأ في الظهور بين كلا التصورين.
على طريقة فيورباخ، فإن لدينا تصوراً حسياً عن آبائنا وأمهاتنا وأصدقائنا لأننا رأيناهم، أما الله فلأن أحداً لم يره فلا صورة حسية واحدة تصلح لأن تملأ المخيلة عنه، ولأن أذهاننا تحتاج إلى تصورٍ حسيٍ ما لتبدأ في العمل تجاه أي قضية أو أي موضوع أو أي شيء، فهي لا تستطيع سوى استدعاء صورة الكائن العاقل، حيث الله هو كائن عاقل بالضرورة في النموذج الإيماني، ولأننا لم نعاين في حيواتنا هذه كائنات عاقلة باستثناء البشر، فإن الذهن يعجز عن مخاطبته إلا بتصور إنساني، هذا الخلل التقني الذي يحدث في العقل البشري عند تصور الله هو نتاج لتصور آخر سنتعرض له بعد قليل، وكان فيورباخ هو أول من نبهنا إلى أننا نكرر هذه المغالطة التخييلية في كل مرة نتحدث فيها عن الله فنستحضر سمتاً بشرياً في أذهاننا.
إذا مددنا هذه الفكرة إلى آخرها فسنكون بصدد اكتشاف تصور شخصي عن الإله لكل فرد من أفراد الجنس البشري، حيث تصبح الصورة الإلهية التي تتراءى للذهن ما هي إلا تضخيم لصورة الذات في مرآة، إله العنيف عنيف وإله الجبان جبان.
هكذا يتشظى مفهوم الإله ويتشوه ويتلوث بكافة التصورات الشخصية عبر الجماعة البشرية في تاريخها الطويل.
لكن هذا العيب التقني في رأي فيورباخ له مصدرٌ آخر، وهو التصور المسبق عن الإله باعتباره خارج عن الوجود، هنا يظهر الإله باعتباره آخر يقطن في اللامكان واللازمن خارج الوجود المادي، وحيث أن الذهن غير قادر على استحضار صورة ما لهذا الآخر، فإنه يستحضر من مخزونه أية صورة تصلح لأن تسد هذا الفراغ، صورة الإنسان البشري العاقل في هذه الحالة، يخطيء الذهن بأنسنة الإله لأنه يتعامل معه باعتباره آخر غائب وغير مرئي ويحتاج إلى صورة مناسبة تملأ هذا الفراغ عن الآخر، وهكذا فإنه لا سبيل إلى إصلاح هذا التشوش إلا بتخيل الإله لا باعتباره آخر، أي بتصور إله غير متخارج عن الذات وغير متخارج عن الوجود.
إذا كان ذلك كذلك، فكل الطرق تؤدي إلى وحدة الوجود، حيث وحيث فقط، لا يمكن التخلص من تلوث صورة الإله بصورة الكائن البشري في مخيلتنا، إلا بتخيل الإله قائماً في الذات التي تتأمله، في كل الذوات التي تتأمله، وفي الموجودات التي لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم لكنها قائمة في وحدة الإله الكبير الواحد، تصور الإله باعتباره وحدة الوجود كله هو التصور الوحيد غير الشخصي عن الإله، هذا ما ينتهي إليه فيورباخ بهذا الصدد.
وحدة الوجود
أسس فيورباخ نظريةً في وحدة الوجود هي قمة ما توصل إليه سبينوزا وهيجل معاً.
ظل هيجل متعلقاً بعالم الروح وسبينوزا بعالم الطبيعة، وهكذا بدا إله هيجل روحاً مطلقاً يتحرك في الزمن، أما إله سبينوزا فقد بدا كقانونٍ طبيعي مستقر، وكان فيورباخ يحتاج إلى مبدأ سبينوزا ليغذي روحه العلمية وإلى مبدأ هيجل ليغذي رغبته الجمالية في المطلق والعدالة، وهكذا بدت وحدة الوجود عند فيورباخ طبيعية تماماً (نسبةً لقانون الطبيعة) وميتافيزيقية تماماً (لأنها حافظت على فكرة الروح).
الله هو المنطق الكلي، وهو مبدأ استقاه فيورباخ من هيجل، وهو مطلق في زمنيته وامتداده وعلمه المسبق وعقلانيته وحبه، وهي المبادئ التي استقاها فيورباخ عن الإله من علم الإلهيات التقليدي، وهي نفسها صورة الإله في الدين عبر تاريخه الطويل، أما عن فيورباخ فقد قدم تفصيلاً واعترافاً واضحاً بهذه السمات في السطور الأولي من كتابه (مبادئ فلسفة المستقبل)، لكنه يجادل في أن هذه الإطلاقيات التي تتسم بها شخصية الإله لا يمكن أن تظل متسقة مع بعضها البعض إلا بمبدأ وحدة الوجود، حيث كل التصورات الأخرى عن الإله باعتباره متخارجاً عن الذات المتأملة وعن الوجود تدفع إلى تجسيده. أي جعله متعيناً في الزمان والمكان، والتعين هنا هو التحديد أي نفي الاطلاقية.
المادة والفكرة
يبدأ فيورباخ من المادة ليصل إلى التجريد، وهو الطريق العكسي لذلك الطريق الذي قطعه أستاذه هيجل، حيث بدأ هيجل من الله لينتهي بالمادة، فجعل عالم المواد تجليات عابرة للعقل الكلي، أما بالنسبة لفيورباخ فالموجودات ما هي إلا أفكار العقل الكلي، والعقل الكلي ما هو إلا محتوى موجوداته، بهذه الطريقة تصبح المادة فكرة والفكرة مادة.
لنتوقف عند استخدام فيورباخ هذا المركب الذي يجمع بين المادة والفكرة، المادة باعتبارها وجود والفكرة باعتبارها تصور، المادة روح والروح مادة، المادة جوهر والجوهر مادة، حيث عالم الأفكار حال في عالم المواد وعالم المواد حال في عالم الأفكار بشكل لا يمكن فصله، ألا تذكرنا هذه الأحجية بأحاجي الطبيعة المزدوجة للجسيمات تحت الذرية في فلسفة ألبرت آينشتاين العلمية، حيث الجسيم طاقة والطاقة جسيم في الوقت نفسه؟
لقد أسس فيورباخ لنظرية في وحدة الوجود سبقت تصورات كلٍ من هيجل وسبينوزا بخطوةٍ إضافية، وفتح الطريق أمام كارل ماركس ليستكمل نظريته في التحليل المادي للتاريخ، لكنه مع ذلك -أي فيورباخ- كان أنثروبولوجياً بارعاً، ونجح في تحليل تاريخ الدين مرةً كأنثروبولوجي ومرة كفيلسوف، واتسمت كتاباته بالذكاء والوضوح والبساطة، وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل ما السبب في سقوط فلسفته تحت ستار كثيف من التشويش وسوء الفهم.