عصام الدين فتوح
أسبغ الله عليها جمالاً متميزًا، وصوتًا ملائكيًا، وموهبةً فريدة في العزف على الجيتار، وذوقًا رفيعًا يترنّم بأغانٍ تقليدية، يعود بعضها لمئات السنين، ووُهِبَت شهرة واسعة الآفاق، خلال سنوات معدودة، عرفتها خلالها نوادٍ وملاهٍ صغيرةً تقدّم الموسيقى التقليدية، حين امتدت شهرتها في أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا، كما تميزت بمعرفتها لعدة لغات، كالإسبانية والفرنسية، فصارت رمزًا وأيقونة عالميّة، يتبعها ويتابعها الملايين في كلّ أنحاء العالم. إلا أن أهمّ ما يميز جوان بياز فهو شجاعتها الأدبيّة منقطعة النظير، وإيمانها المطلق بحقوق الإنسان، وتصدّيها للعنصرية والعدوان والظلم بكل أشكاله، إذ رافقت المناضل الأسود الكبير مارتن لوثر كينج في احتجاجه السلمي على الممارسات العنصرية للمؤسسات الأمريكية التي كادت تفرّق ما بين الإنسان وأخيه الإنسان بسبب العرق واللون.
تعرّضت المطربة الكبيرة للنقد الذي وصل إلى حد الاضطهاد، فخاضت مرارة تجربة السجن، بل وعرّضت حياتها ذاتها للخطر، إذ سافرت إلى فيتنام، مساندةً ذلك الشعب البسيط والفقير الذي تصدّى بجسارة لأقوى قوة عسكرية على وجه الأرض، مُضحيًّا بكل ما يملك في سبيل تحقيق الاستقلال، ومجابهة القوة الغاشمة بإيمان لا يتزعزع في عدالة قضيته.
وشاركت جوان بياز العشرات من أبناء فيتنام بالمخابئ أثناء قصف السلاح الجوي الأمريكي للمدن والقرى بهمجية لا حدود لها، لا تفرّق بين رجل وامرأة، كهل أو طفل.
ولدت جوان شاندرز بياز عام 1941م، لأب مكسيكي وأم اسكتلندية الأصل، وتخصّص والد جوان في الطبيعة النووية، مما كان يؤهله لأرقى المناصب، وثراء لا حدّ له، إلا أن ضميره الحيّ دفعه لمعارضة التطبيقات العسكريّة والحربيّة للطاقة الذرية، ففضّل التنقّل بعائلته الصغيرة في أنحاء متفرقة من العالم، محتفظًا بنقاء مبادئه. أما والدة جوان، فكانت تنتمي إلى مذهب الكويكرز Quakers، وهو مذهبٌ مناهضٌ للعنف، ومعادٍ لتجنيد مواطنيه في الخدمة العسكرية منذ عشرات السنين.
تلقّت جوان في سن مبكرة آلة اليوكوليلي (آلة عزف روسية تشبه الجيتار)، وأتقنت العزف عليها منذ نعومة أظافرها، كما كانت تشارك أختيها الغناء، مع سماع الموسيقى الحديثة بجهاز راديو صغير من البلاستيك. أمّا في المدرسة الابتدائية، فكانت جوان تتعرض لمضايقات العديد من أقرانها وتنمرهم، فتأصّل في نفسها كراهيةٌ للعنصرية، وتعاطفٌ كاملٌ مع الأقليات العرقية والدينية.
ظهرت موهبة جوان الموسيقية بالمدرسة، إذ سرعان ما اكتشف زملاؤها وأساتذتها موهبتها الفذّة وصوتها الملائكي. كما مارست جوان الاحتجاج لأول مرة كطالبة، حين طُلِبَ من جميع طلاب المدرسة التوجه بنظام إلى مخابئ تحت الأرض، أُعدّت لحماية الأطفال من خطر أي هجوم ذرّي قد تقوم به روسيا. فسخرت جوان، وهي ابنة العالم النووي، ليقينها التام بأن أي هجوم نووي حقيقيّ قد يقضي على البلدة بكل من فيها وما فيها في ثوان معدودة، وأن الغرض من التمرين الدعاية الرخيصة لكراهية العدو المتمثل في الآخر والوطنية الزائفة.
لا نبالغ إن زعمنا أن نهضة الموسيقى الفولكلورية بالولايات المتحدة خلال الستينيات، والذي يُطلق عليه أحياناً موجة بوب ديلان الموسيقية، يعود أساسًا إلى تلك الفنانة الشابة، في عالم موسيقى سيطرت عليه موسيقى الروك الصاخبة منذ أواخر الخمسينيات، بتأثير من ألفيس بريسلي، وليتل ريتشارد، وآخرين، كان موجهًا أساسًا إلى المراهقين، ومصاحبًا للرقصات سريعة الإيقاع، الداعية للاحتفاء بالبهجة واللذة والاستمتاع بالحب والرقص والغناء، مفعمة بأملٍ في غد أفضل لجيل آمن برئيس أمريكا الشاب جون كينيدي، ومعادٍ للشيوعية تحت عناوين برّاقة مثل الديمقراطية وحقوق الفرد المقدسة.
تنتمي جوان، إذن، عن اختيار واعٍ للجيل الثاني من مطربي الأغاني الشعبية “الفولك” folk، المعادية تمامًا لاتجاهات الروك شكلاً وموضوعًا، والتي اهتمت بالكلمة كعنصر أساسي للأغنية، اليسارية المنحى سياسيًا، إذ ينصب اهتمامها على ضحايا الاستبداد، والقهر الاجتماعي، وتتغنى بأسلوب هادئ، أميل إلى الحزن، بضحايا الحب، ولوعة الفراق، انكسار الروح الثورية.
عاصرت جوان بياز مطرب الفولك الشهير بيت سيجر (1919م – 2014م)، الذي كان مرافقًا وصديقًا لوودي جاثري (1912م – 1967م)، مطرب الفقراء والمحرومين، اليساري الاشتراكي النزعة، والذي رأى في جيتاره سلاحًا يكافح به الرأسمالية والاستغلالية، ورأت فيه السلطات شيوعيًا ثوريًا قد يمثّل خطرًا على النظام بانتشاره السريع بين الطبقات الفقيرة.
تابعت جوان المغني بيت سيجر، ورأت فيه مثالاً للمطرب الملتزم بقضايا السلام والمساواة والبيئة الطبيعية. وكانت أول من اكتشف موهبة بوب ديلان الشعرية الفذة، التي نال عنها مؤخراً جائزة نوبل للأدب (2016م)، فتغنّت بأغانيه في الكثير من ألابيمها وشاركته الغناء في البعض الآخر، وكانت أول من قدمه لجمهور عريض تعلّم تدريجيًا الإنصات إلى كلماته الحكيمة، بغض النظر عن صوته الأجش.
لعبت جوان، إذن، دورًا أساسيًا في إعلاء شأن الكلمة الشعريّة كمكون أساسي في كل أغانيها، بدءًا من إحيائها للمواويل الشعرية الإنجليزية والأيرلندية الأصل، إلى الاحتفاء بشعراء معاصرين، من أمثال ليونارد كوهين، الكندي الأصل، وجوردون لايتفوت، والأعمال المتميزة لمعاصريها شعريًا، كفريق البيتلز، وسايمون وجارفنكل.
وأقدمت جوان على خطوة غير مسبوقة بإصدار ألبوم بعنوان “التعميد” Baptism، تضمن أعمالاً أدبية وشعرية للشعراء ويليام بليك، ووالت ويتمان، ولوركا، بالإضافة إلى مقتطفات نثرية للكاتب الأيرلندي الشهير جيمس جويس. كما أحيت جوان بياز أغنية “لسوف ننتصر”، التي صاحبت أكبر حركة احتجاج للجماهير الغفيرة من السود ضد التحيز العنصري السافر في الستينيات من القرن العشرين، فصارت رمزًا عالميًا للمقاومة السلمية، والحركات الاحتجاجية في العالم أجمع.
لطالما تفاخر الإعلام الأمريكي الرسمي بأن الحرب الأهلية الأمريكية (1861م – 1865م)، قد ألغت نهائيًا عبودية الرجل الأسود، إلا أنها أبدًا لم تقض على النظرة الدونية التي ينظر بها المواطن الأمريكي الأبيض إلى المواطن الأسود، بل وتجسدت نظرة الاستعلاء تلك فعلياً بالفصل التعسفي بين البيض والسود اجتماعيًا وقانونيًا في شتى مناحي الحياة، إلى أن انفجر غضب تلك الفئة المقهورة في ستينيات القرن العشرين، لتصل إلى ذروتها بظهور قيادة رشيدة، تمثلت في زعماء شعبيين من أمثال مارتن لوثر كينج ومالكوم اكس.
كان كينج، بخلفيته الدينية كواعظ، خطيبًا مفوهًا ذا حضور طاغٍ، وقدرة على كسب الآلاف بخطبه النارية. بالإضافة إلى جمهور كينج الواسع في الأوساط الأفرو-أمريكية، فقد أقنع كينج مجموعة منتقاة من كبار مطربي أمريكا من أمثال هاري بيلافونتي، والمطربة السمراء أوديتا، إلى جانب المطرب اليساري المخضرم بيت سيجر، على تأييده في تحقيق الحلم الأمريكي الأكبر بدولة عادلة، لا تفرق بين مواطنيها على أساس عرقي أو ديني.
أما جوان بياز فكانت في مقدمة المؤيدين لكينج، ولم تتردد في الاستجابة لدعوته لإلغاء التمييز بين الأطفال البيض والسود في المدارس الابتدائية. فظهرت على شاشات التلفزيون، مصطحبة طفلة سوداء إلى المدرسة، مما أدى إلى تراجع مثيري الشغب من البيض عن التعرّض لهما أمام الكاميرات لشهرة المطربة الكبيرة.
وقد صاحبت بياز كينج في زحفه التاريخي عام 1963م على واشنطن، في مشهد مهيب، تغنّت خلاله الآلاف، خلف قيادة بياز، بأغنية “لسوف ننتصر”. لم تساهم تلك المظاهرة التاريخية على إجبار الولايات المتحدة على التخلي عن قوانين العنصرية البغيضة فحسب، بل وأدت إلى قيام جيسي جاكسون ذاته –أحد المشاركين في ذلك الحدث– إلى ترشيح نفسه للرئاسة الأمريكية بعد عقدين من الزمان، بل وتولي باراك أوباما الرئاسة الأمريكية عام 2009م تتويجًا لنضال العشرات من السنوات، وجهود رواد من أمثال مارتن لوثر كينج وجوان بياز. وقد استقبل أوباما بالفعل جوان بياز إلى البيت الأبيض يوم 9 فبراير 2010م، لتتغنى بأغانيها الملهمة في مشهد لم تكن الفنانة الكبيرة أو الرئيس الأمريكي ليحلم بتحقيق ذلك اليوم الموعود.
وقد شهدت الستينيات أيضًا تصاعد العمليات العسكرية ضد فييتنام، تمثلت في إرسال جحافل من الشباب الأمريكيّ إلى حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فتضاعفت الغارات الجوية، التي فاقت آثار تدميرها قنبلة هيروشيما الذرية، دُمّرت خلالها الآلاف من الأفدنة الزراعية، وتم خلالها القضاء على قرى فييتنامية بالكامل. فكانت بياز من أوائل المعارضين والمحتجين على تلك المجازر، بل وصاحبت في زيارة إلى هانوي بفييتنام الشمالية عام 1972م وفدًا أمريكيًا على مسؤوليتهم الخاصة، وقد تعرض الوفد لغارات متتالية من القصف أطلق عليها قصف عيد الميلاد Christmas Bombings، في تجربة فريدة سجلتها جوان بياز فيما بعد في سيرتها الذاتية.
أما في الولايات المتحدة ذاتها، فقد قادت جوان بياز، بالاشتراك مع ديفيد هاريس، حملة دعائية لم يسبق لها مثيل، ضد المجهود الحربيّ الأمريكيّ، وطالبت الشباب بعدم الامتثال للتجنيد، ورفض الخدمة العسكرية في فييتنام. ثم تزوجت بياز من هاريس الذي حُكِم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات لرفضه التجنيد، وقد أمضت جوان بياز نفسها شهرًا بالسجن، علذقت عليه ساخرة بقولها: “لقد حكم عليّ بالسجن للإخلال بالسلم الاجتماعي، وما كنت إلا داعية سلام، ولم أحارب سوى الحرب ذاتها”.
وأصرّت جوان بياز عام 1969م على الاشتراك في أكبر تجمّع موسيقي في تاريخ أمريكا، الذي أطلق عليه وودستوك، حيث أبلغت جوان بياز الجمهور الذي بلغ نصف المليون مشاهد، بأنها تنتظر طفلها الأول من زوجها الغائب بالسجون، لموقفه الأخلاقي الرافض للحرب في فييتنام.
تعدى مفهوم الوطنية عند جوان بياز الحدود الأمريكية، فصارت الإنسانية جمعاء وطنها الأكبر، ومنحت صوتها الملائكي لحقوق الإنسان أينما وجد، ودافعت عن المظلومين والمحرومين في جميع القارات، ووقفت إلى جانب القس ديسموند توتو مطالبة بحرية القائد نيلسون مانديلا، وتغنت في شوارع سراييفو، وساندت الطلاب الجامعيين بميدان تيانانمن في الصين، وغنّت لضحايا المجاعات بأفغانستان وكامبوديا، وشاركت في الوقفات الاحتجاجية ضد عقوبة الإعدام.
كانت بياز أول فنانة تنضم إلى منظمة العفو الدولية بعد عقد من تأسيسها عام 1961م، التي أنشأت جائزة عالمية باسمها، واحتفى بها زملاؤها من الموسيقيين في أمريكا عام 2017م، واليوم وقد تخطت مشارف الثمانين، أصبحت تلك الفنانة الأسطورية أيقونة، مثلها مثل غاندي والأم تيريزا، وتعد من أهم مصادر الإلهام في عالم ملئ بالصراعات، ينقصه الإيمان بالمساواة والعدالة والجمال.