حاوره: إدريس سالم
إن مشكلة النشر تكمن في الوعي، فالناشر كالنبيّ؛ يحاول جاهداً إيصال رسالته، سواء بمعايير أخلاقيّة وفكريّة، أو بأعراس ثقافيّة، أو بغيرها من الوسائل والأدوات، لأن النشر بات مقتصراً على نوعين: إمّا علاقات المؤلّفين وأضواء شهرتهم، أو مالهم وجاههم، خاصّة في ظلّ دور وسائل الإعلام واهتمامها بالمظاهر والقشور، وتحويل الأدب عبر جوائز مؤدلجة إلى تجارة رابحة ومصالح تخدم مؤسّسات معيّنة ودول كثيرة، وإهمال دول أخرى غنيّة بمواردها وطاقاتها للثقافة والمثقّفين.
وللحديث أكثر عن عالم النشر والطباعة والكتاب، ودوره في حياة الشعوب، حاورت أسرة موقع «سبا» الثقافيّ، المؤلّف والناشر المصريّ، يوسف حسين، وكان لها معه الحوار التالي:
· بداية: الجدوى الحقيقية من حكاية النشر أصلاً؟
الناشر كالنبيّ أو المهرطق، لديه رسالة ما يريد إيصالها، لذلك يدعم كلّ ما تتوافق أفكاره مع عقيدته، وإن كانت تلك العقيدة قائمة على جمع المال فقط أو الشهرة.
· المعرض: أهو سوق، أم مهرجان، أو معرفة قرّاء جُدد وتعمّق معرفيّ فلسفيّ؟
هو عرس ثقافيّ، لمَن كان يهمّه الأدب الحقيقيّ، وهو مهرجان واستعراض لأصحاب المظاهر، الذين يرتدون عباءة الأدب، وهي عليهم ضيّقة.
· يوسف حسين مؤلّفاً وناشراً معاً:
أتشعر بمعاناة المؤلّفين والقرّاء؟ أين أنت من تلك المعاناة إن قارناها بأزمة النشر؟ وأين تجد نفسك شغوفاً أكثر: الكتابة أم في صناعة النشر؟
|
من أجل الكتابة دخلت عالم النشر، ومن أجل معاناة الكاتب أولاً أصبحت ناشرًا، فالقرّاء يا عزيزي أكثر حنكة وتصرّفاً من الكاتب، يعرفون طريقهم جيّداً ويجدون بكلّ سهولة ما تميل إليه أهواؤهم.
لقد أصبح النشر في عالمنا العربيّ يقتصر على نوعين فقط، إمّا شهرة الكاتب وعلاقاته، وإمّا أمواله، والذي يعاني حقيقة هو الكاتب، الذي لا يملك الأولى وبعيد كلّ البعد عن الثانية.
في بادئ الأمر كانتِ الكتابة هي شغلي الشاغل ومتعتي الحقيقية في رؤية قارئ لا يعرفني، في يده كتاب يحمل اسمي، أما الآن فقد اختلف الأمر كثيراً، لقد أصبحت متعتي في رؤية اللمعة، التي تقفز من أعين الكتاب عندما يمسكون عملاً لهم لأوّل مرّة، أشعر حينها أنني مؤلّف هذا الكتاب وليس ناشره.
· مَن هي اسكرايب؟ وما الرؤية الجديدة التي تقدّمها في مجال صناعة الكتاب وتطوير أدوات النشر؟
اسكرايب هي أسرة عصاميّة، بنَت نفسها بنفسها في سنوات قليلة، لديها هدف وحلم، فالهدف فهو تقديم رسالة سامية يحترمها العدوّ قبل الصديق، وأمّا الحلم فهو أن تصل إلى العالميّة، بدون الصعود على أكتاف المشهورين أو توصياتهم.
· يحتاج تسويق الكتاب الجيّد إلى مجهود جماعيّ؛ الناشر يحتاج كتاباً جيّداً، والموزّع يحتاج قارئاً نهِماً وناشراً ملتزماً، والقارئ ضالّة،الكلّ يبحث عنه.
في سوق الكتب الكثير من الأعمال التي تستحقّ الاقتناء والقراءة، ولكن وسائل الإعلام بنيت على المظاهر، فأصابت القارئ في مقتل، حيث أصبح يلهث هو الآخر خلف المشهورين دون النظر إلى المحتوى الذي يقدّمونه، وهذه آفة تقتات على أصالة الأدب.
· كيف تنظرون إلى علاقة الناشر والموزّع والمكتبيّ؟ هل مشكلة نشر وازدهار الكتاب تكمن في القارئ، أم في تسويق الناشر له؟
مشكلة النشر تكمن في الوعي، في الدعم من الجهات المختصّة، في تقديم يد العون للناشرين؛ للارتقاء بما يقدّمونه، في الرقابة على المطبوعات، ومنع كلّ ما هو رديء من التداول.
· ما هي التقاطعات الفكريّة والإنسانيّة بين أهدافكم وأهداف مؤلّفيكم؟
نحن ومؤلّفونا ندور في حلقة واحدة، نبحث من خلالها عن ثغرة نبثّ منها مبادئ قد أكلتها الموضة، وطمسها ما تسمّى بالحرّيّة المطلقة.
· من خلال تجربتك في النشر، هل الدار ملتزمة بالمعايير الأخلاقيّة في التعامل مع زبائنها؟ وما المعايير التي تطرحونها، والتي لا بدّ أن تكون متوفّرة في المخطوطة المقدّمة/ المرسلة إليكم؟
من أهم المعايير التي نشدّد على توافرها في المخطوطة المقدّمة إلينا، هي احترام الأديان السماويّة وتقديم رسالة هادفة لقلب القارئ قبل عقله، وعدم الانحدار بالألفاظ البذيئة، التي أصبحت منتشرة في الأعمال الأدبيّة تحت مسمّى أدب وثقافة.
· مَن يحدّد نوعية الكتب المُختارة لديكم؟ وهل هناك تجارب سبق وأن رُفضت من قبلكم، مثلاً: هناك كاتب مخضرم مشهور، وله قُرّاء كُثر ومبيعات لا تُعد ولا تُحصى، وحصل وأن رفضت الدار كتاباً عرضه عليها بسبب خصوصية المعايير وقيّمتها وقيمها؟
كثيراً ما حدث ذلك؛ لتَعَالي الكاتب، أو للمشاهد الخارجة، التي دسّها في عمله بصورة فجّة.
· في دَور وفعالية خصوصيّة دُور النشر وتميّزها: أيّ خصوصيّة ترى أنها تميّزكم ضمن المشهد الثقافيّ العربيّ، طباعة وتوزيعاً ونشراً؟
نحن بفضل الله أوّل دار نشر منذ نشأتها تقدّم للكاتب تقييماً شاملاً لعمله، سواء قبلنا نشره أو رفضناه، نضع الكاتب بكلّ جرأة أمام نقاط ضعفه وإيجابيات عمله، كذلك لا نتجاهل الردّ كما يفعل الآخرون.
· لماذا انتشار الدار ومشاركاتها في المعارض محدودة، خاصّة أن ما يهمّ المؤلّف أولاً والناشر ثانياً هو وصوله إلى أكبر رقعة في الوطن العربيّ وأوروبا؟
الدار تشارك في أكثر من خمسة عشر معرضاً دوليّاً خلال العام الواحد، ولا أرى أن هذه المشاركات محدودة! ناهيك عن التكلفة الباهظة لكلّ معرض، وكاذب مَن قال لك أن هناك دعماً من أيّ جهة كانت.
· ألا يدلّ عدم ترشّح إصدارات الكثير من دُور النشر – واسكرايب واحدة منها – للجوائز العربيّة والعالميّة لضعف الجودة الفكريّة والبصريّة، وعدم وجود مشروع ترجمة آداب غير مشهورة عربيّاً كالأدب الكرديّ والفارسيّ والتركيّ...، أم أنها قضية تتعلّق بضرورة التوقيع مع كتّاب كبار، وبالتالي قضية دعم مادّيّ وإعلاميّ؟
يدلّ ذلك على عدم نزاهة القائمين على الجوائز الأدبيّة، الأمر أصبح تجارة ومصلحة، وبالوساطة تصل.
· الفيس بوك وتويتر وغيرهما من وسائل التواصل الاجتماعيّ صارت أهمّ من الكتاب، ما الذي قد يقدّمه الناشر ليعيد للكتاب وهجه وبريقه؟
عندما تحترم الدول الثقافة، وتضع صانعيها في المقدّمة، سينهض الكتاب.
· دَور دُور النشر في نشر الكتاب: الكاتب الذي لا يعمل على نشر كتابه بمجهوده الشخصيّ، فإن كتابه يبقى على الرفوف، إما تأكله الفئران، أو يتمزّق من الصدأ والغبار.
ما الحلّ/ الآلية أو المشروع برأيك حتى لا يُظلم الكتاب، حتى لا يُهان الكاتب، ويبقى الناشر عادلاً مرتاحاً بينهما ومنهما؟
في ظلّ هذه الظروف، فإن الكتاب كالابن، يجب مراعاته من كلا الأبوين: الناشر والكاتب؛ إن أهمل أحد الطرفين واجبه أصاب الابن بعض العلل.
· أفصحت لي إحدى الكاتبات في حوار عميق حول النشر والمبيعات بحرقة وألم:
«لقد مرّ على عقد كتابي مع دار (...) سنة ونصف، وكلّما أطالبها بتقرير عن مبيعات روايتي، يتحجّج ناشرها بأمور وهميّة أخجل من الإفصاح عنها، حتى تدخّل كاتب صديق بيننا، فأخبره – أيّ الناشر – أنهم طبعوا الرواية إشفاقاً عليّ، وأن روايتي لم تكن لتستحقّ النشر، وأنت تعلم أن الرواية موجودة الآن ورقيّاً في مكتبتكم بطبعتها الرابعة، مع ناشر آخر».
هنا أسألك أستاذ يوسف: أتتعاملون بمصداقيّة مع الكاتب، وتخبرونه عن مبيعات كتابه وعدد النسخ المطبوعة؟ وهل تراجعون العمل وتقبلونه على جودته، أم على ما تتفقون عليه من شروط مادّية أو معنويّة؟
هذه هي الشفافيّة التي نتحدّث عنها، لا بدّ أن تكون هناك ثقة بين الكاتب والناشر؛ لتتضحّ الأمور، ونحن لا ننشر كتاباً إلا بعد أن نقتنع به فكرياً وأدبياً، أمّا يا عزيزي ما ذكرته الكاتبة عن ذلك الناشر فهو ليس ناشراً وإنما تاجراً، وهناك فرق شاسع بين الاثنين.
· صناعة النشر تُخضع لمتطلّبات السوق، من عرض وطلب وآليات تسويقيّة وحاجات متبادلة بين الناشر والسوق. والسؤال: صناعة النشر تجارة أم قضية؟ وأنت ماذا تعتبر نفسك: تاجراً أم ناشراً؟
في الآونة الأخيرة أصبحت تجارة للأسف، ولذلك فهي في انحدار دائم، ولكني ما زلت متمسّكاً بالمعايير التي وضعناها للدار، وإن لم أستطع الحفاظ عليها تركتها، ولجأت إلى تجارة أكثر ربحاً وراحة نفسيّة.
· أخيراً: كيف تقرؤون المشهد الثقافيّ الكرديّ؟ وهل من تواصل/ تفاعل مع المثقّف والناشر الكرديّ؟
لدينا مؤلّفون كثر من الكرد، وكذلك ملاحم كرديّة عظيمة نشرت من خلالنا باللغة الكرديّة والعربيّة، ونذكر منها «سيامند وخَجي» و«هولير حبيبتي»، والكثير الكثير. نحن نهتمّ بالأدب الكرديّ؛ لأنه يحمل قضية واضحة تستحقّ المساندة.
*يوسف حسين – كاتب وناشر مصريّ. مدير دار اسكرايب للنشر والتوزيع.
حاصل على بكالوريوس تجارة من الجامعات المصريّة، نشر له العديد من الأعمال الأدبيّة، التي جُمعت بين القصّة القصيرة والرواية، وقد حازت بعض أعماله على جوائز عربيّة، من بينها رواية «كيد الرجال» و«أديرا»، من أبرز أعماله:
- صاحبة القصاص
- الدرغل
- إرم العهد الحديث
- الأربعون الثانية
- الورقة الخضراء
- بيادق ونيشان
*إدريس سالم – شاعر وكاتب كرديّ – سوريّ، مقيم في تركيا. مواليد (19 آذار، 1986م). وُلد بقرية «بُورَاز»، التابعة لمدينة «كوباني» الكرديّة.
عمل مدرّساً في اللغة العربيّة، إلى جانب هوايته كمحرّر لعدد من الصحف والمواقع الإلكترونيّة.
محرّر في موقع وجريدة «سبا» الثقافيّة.
«جحيم حيّ»، هو أول عمل أدبيّ له في الشعر، صدرتِ الطبعة الأولى عن دار فضاءات للنشر والتوزيع عام 2020 م، والطبعة الثانية عن دار الدراويش للنشر والترجمة عام 2022م.