فارس صالح
قال أرسطو "الطبيعة تكره الفراغ"، والحياة أيضًا لا تحتمل
الفراغ ولا تأبه بالفارغين لأننا في سباق أزلي أبدي نحو النهاية المجهولة المشوقة
التي نفني أعمارنا في محاولة معرفتها ونفشل، الفراغ ذلك الشيطان الذي يغوي السنابل
الحمقاء ويغريها فترفع رؤوسها بصفاقة وتتراقص مع رياح العشوائية ثم إذا جاء وقت
الحصاد طرحت بعيدًا عن متن الحياة الذي لا يقبل إلا بأخواتها الممتلئات اللواتي لم
يقعن في كمين اللذة الزائلة واحتملن قسوة التركيز وشقوة الحياة من أجل هدف واضح
نبيل.
قبل أن أتحدث عن الفراغ دعوني أتحدث قليلًا عن العشوائية، فهي مرض
ملازم للفراغ ودليل دامغ على وجوده، العشوائية في التفكير والتصرف.. تجد المصاب
بها كما قال المتنبي "كريشةٍ في مهب الريح ساقطة.. لا تستقر على حال من
القلقِ" كل يوم يكون بحال وفكر وكثيرًا من الممكن جدا أن تراه وقد أصبح
ملحدًا بعد أن كان داعشيًا أو بالعكس فلا يستقر على شخصية وكيان مميز يعرف به،
العشوائية في العلاقات الاجتماعية.. تجد المبتلى بهذا النوع من العشوائية متخبطًا،
كل يوم مع صديق وكل ليلة مع حبيبة لكنه إذا انقلب ينقلب بعنف فيصبح الصديق عدوا
والحبيب مكروها، تجده يحادث عشرات الفتيات تحت مظلةٍ مهترئة باسم الحب دون أن يشعر
بالشعور اللذيذ الدافئ للحب الواحد الصادق، ولديه عشرات الأصدقاء المزيفين دون أن
يشعر بأن له صديقًا واحدًا صدوقًا يعينه على نوائب الدهر.
العشوائية طامة كبرى يفقد المريض بها الشعور بالحياة والذات.. وتحرمه
من أن يخلق لنفسه كيانا خاصًا محترمًا يقوم على معايير ثابتة ويتعامل على أساس
الجودة العالية وهنا وجب ذكر العشوائية التي تصيب القراء والكتاب والتي هي برأيي
من أهم أسباب تدني ذوق القارئ والكاتب على حد السواء ومن أهم الدوافع المنطقية لما
نراه من نفاق يعم الواقع الأدبي.
الروح والعقل ركنا كيان الإنسان إذا حدث فراغ في أي منهما فهذا يعني
أن خللًا جوهريًا سوف يحدث، برأيي إن للفراغ أنواعًا أستطيع تعريفه بها:
أولًا الفراغ الروحي:
هذا أخطر أنواع الفراغ لأنه يشبه تمامًا الاستعمار الفرنسي في الجزائر
إذ ركز على روح الإنسان الجزائري قبل أن يركز على بندقيته وثوراته المقدسة، الفراغ
الروحي كارثة بمعنى الكلمة يفقد الإنسان الإحساس الآدمي بالأشياء يحرمه من لذة
البكاء بحرقة والانتشاء بقبلة دافئة والفرحة البريئة بأبسط الأشياء الجميلة، فراغ
الروح يعني عدم التأثر حين تسمع قصة أسير سرق السجن سنوات عمره والكثير من الحب
الذي كان ينتظره في عيني أطفاله وزوجته وأحبائه، فراغ الروح يعني أن يكون عاديًا
عندك حين تخرج مقتولا من قصة عشق عنيفة أوحين تسير في جنازة جارك الذي نهش السرطان
جسده وهو ينتظر فتح معبر رفح البري لكي يتلقى العلاج العاجل في الخارج. الفراغ
الروحي يظهر جليًا في برود الملامح وتجمد الدموع وخفيا في تحجر القلب، لا أظن أنه
مرض وراثي أو موجود مع ولادة الإنسان.. بل هو مرض مكتسب نتيجة العشوائية
"التي تحدثنا عنها" تارة ونتيجة صدمات القدر تارة أخرى، الفارغ روحيًا
ضحية وليس جلادًا، قد يكون ضحية ذاته المتخبطة أو ضحية قدره المتوحش، وأظن أن شفاء
الثاني ممكن لكن شفاء الأول صعب جداً.
الفراغ الذي نقصده هو اللا شيء، هو أن تقضي عمرك دون أن تسعى إلى شيء ودون أن تحس بشيء، حينها ستكون عرضة لكل مشاكل الدنيا، وستكون أبعد ما تكون عن نفسك ودورك في الحياة.
ثانيًا الفراغ العقلي:
هذا النوع من الفراغ ليس خطيرًا بقدر خطورة النوع الأول، ليس مطلوبًا
من كل الناس أن يكونوا ممتلئ العقول، الحياة مُخرج عبقري يوزع الأدوار على
أساس الإمكانيات وبلا مجاملة. أغلب الناس طيبون بسيطون وهذا صحي ومنطقي جدًا،
فلا يجب أن يكون الجميع فلاسفة وشعراء وعلماء ومثقفين لأنهم حينها لن يجدوا من
يزرع ويصنع ويصلح ويصمم ويبني، أغلب الناس يفكرون بتوفير الخبز لعائلاتهم دون أن
يبدو أي أهمية لأفكار أفلاطون أو أطروحات ميكافيلي، أغلب الناس يطمحون بزوجة ومنزل
وعمل وراتب جيد، ولا يعيرون المجد والخلود أي أهمية، أغلب الناس يشعرون بالسعادة
عند طلاء البيت أكثر من سعادتهم وهم يقرأون "لاعب النرد" لدرويش
العبقري، لذلك فالامتلاء العقلي "من وعي وثقافة" نصيب الفئة التي تشقى
في النعيم بعقلها كما قال المتنبي، وهنا يجب أن نؤكد مجددا أن هذا النوع من الفراغ
"العقلي" ليس خطيرًا بعكس خطورة الفراغ الروحي، لأن النوع الثاني
"العقلي" لا يضيف فائدة نعم لكنه أيضًا لا يضر، لكن النوع الأول
"الروحي" يقتل الحياة ويفقد صاحبه قيمة ذاته.
تحدثنا عن الفراغ الذي يأتي من داخل الإنسان لكن هناك نوع يأتي من
خارجه يفرضه عامل الزمن "الوقت".. في البداية يجب أن نقول أن اللحظات
التي نقضيها في الترفيه واستخلاص عطر السعادة من شجرة الحياة ليس وقتًا ضائعًا،
وهنا تحضرني مقولة برتراند راسل "الوقت الذي تستمع فيه ليس وقتًا
ضائعًا"، لكن الفراغ الذي نقصده هو اللاشيء، هو أن تقضي عمرك دون أن تفعل
شيئا ودون أن تسعى إلى شيء ودون أن تحس بشيء، حينها ستكون عرضة لكل مشاكل الدنيا،
وستكون أبعد ما تكون عن نفسك ودورك في الحياة، ستخوض مع الخائضين في أي شيء وبلا
هدف وستهتف للقائد الفلاني لأن الآخرين يفعلون، ستضيع عمرك هدرًا بلا أي فائدة
وستكون وقودًا مشتعلًا للأشرار ويسهل تجنيدك في خطط الشر التي من أكثرها شيوعًا
هذه الأيام جماعات الإرهاب التي تستهدف بشكل أساسي شريحة الشباب الفارغين روحيا
وعقليا والذين لا يجدون شيئا نافعًا يقومون به ويقضون أوقاتهم عبثًا .
في النهاية، لقد خلقنا الله وأعطانا الحرية المطلقة، حرية كافية لدرجة الكفر به وبنعمه، لذلك فالحرية سوف تشمل طريقة كل واحد منا في قضاء وقته ورؤيته لنفسه وللحياة، نحن أحرار في وضع أهدافنا وأحرار في تشكيل الصورة التي نود أن يرانا بها الآخرون، لنا الحرية في أن نكون هوامشًا أو متنًا.. أن نتلاشى أو أن نكون خالدين.