خوان بيّورو (ترجمة: حسين جرود)
سأتحدث عن موضوع يتعلق جزئيًّا بالأدب، وجزئيًّا
بالسياق الذي يحدث فيه. في عصر يجري فيه تشويه الواقع أو تغييره بوساطة منصات
جديدة، وطرائق جديدة لتمثيل العالم، ما التحديات التي تواجه ممارسة الأدب والصحافة
اليوم؟ تعلمون جميعًا أنه في ثنائية آرثر شوبنهاور الشهيرة (العالم بوصفه إرادة
وبوصفه تصوُّرًا) حاول أن يعالج، مرة واحدة وإلى الأبد، موضوع الفعل البشري،
مقارنةً بالتصوُّر الإنساني عن الواقع وتطبيقه. وهذا يعني أن الوجود يحدث بالضرورة
بسرعتين مختلفتين: عالم الحقائق، وتصوُّر هذه الحقائق الموجود في وعي أولئك الذين
يشاركون فيها. يشكل الأدب جزءًا من هذا التصوُّر لعالم الحقائق، وبهذا المعنى، إنه
مثل مرآة له، ولكنه أيضًا يشكل حقيقة ثانية. من المهم أن ندرك أن المنتجات الأدبية
ليست بالضرورة منتجات تهرب من الواقع. على النقيض من ذلك، من طريق نظام الرموز
الذي يمثله الأدب، يمكننا فهم واقعنا بنحو أفضل ودمج منتجات كانت في السابق مجرد
خيال. من سيقول إن دون كيشوت لا ينتمي إلى الواقع؟ من سيقول إن شكسبير لم يغيّر
عالمنا؟
عندما كنت في جامعة ييل،
حضرتُ -لحسن حظي- ندوة درَّسها هارولد بلوم، المترجم الكبير لأدب شكسبير. كان
العنوان عبارة أجدها كاشفة جدًا، بل ومثيرة للاهتمام: «الأصالة في شكسبير».
الأطروحة الأساسية لهارولد بلوم هي أن عالم اليوم شكسبيريّ حتى أنه من الصعوبة
بمكان العودة إلى تلك اللحظة الأوليّة عندما لم يكن موجودًا، أي عندما كان شكسبير
جديدًا وغير معروف تمامًا. تتطلب العودة إلى لحظة الانفصال تلك الكثير من العمل،
لأنه اليوم، حتى الأشخاص الذين لم يقرؤوا شكسبير أبدًا يمكنهم القول إن شابَين في
حالة حب مثل روميو وجولييت، أو إن شخصًا ما يشعر بالغيرة مثل عطيل. بعبارة أخرى،
لقد غيرت ذخيرة الموضوعات الشكسبيرية واقعنا، لأن واقع الأدب له علاقة بعالم
الحقائق، بقدر ما يفسرها ويسألها ويحولها.
في الأدب، كنت مهتمًا
برعاية الأدب الخيالي والواقعي، وأعتقد أنه عندما نتحدث عن هذا الانقسام بين ما
نشهده وما نتخيله، فإننا لا نتحدث عن ثنائية بين الحقيقة والكذب. أعتقد أنه من
التبسيط غير الضروري القول إن الأدب ينتمي إلى الكذبة. أعتقد أن الأدب، كما قلت في
حالة شكسبير أو ثربانتس، ينتمي إلى واقعنا بقدر ما يشكل مفهوم العالم، وتصوُّره،
جزءًا من الواقع. الفرق بين الشهادة والخيال ليس الفرق بين الحقيقة والكذب، بل هو
-تحديدًا- الفرق بين ما يمكن التحقق منه وما لا يمكن التحقق منه. أي إن الخيال يجب
إثباته مقابل الواقع، لكن هذا لا يعني أنه ينسحب من الواقع أو يتوقف عن الانتماء
إليه. يشكل الخيال جزءًا من الواقع، حتى لو لم تكن له علاقة بمبدأ التحقق. يبدو لي
هذا الأمر أساسيًّا لفهم التوتر الذي يمكن أن يوجد بين الخيال والواقعية.
في أية لحظة نجد أنفسنا
شغوفين بممارسة الرواية بأنواعها (الرواية، والقصة، والنوفيلا)، والشعر، والكتابة
غير الخيالية (المقال، والشهادة، والمادة الإخبارية، والسجل الزمني للأحداث) نعيش
لحظة رائعة كما أظن، ما تزال غير محددة بالنسبة إلى تصوّر العالم من طريق المنصات
الرقمية الجديدة، والشبكات الاجتماعية، والتحويل الافتراضي للواقع. نحن نشهد ولادة
الشفرات التواصلية التي لم نسيطر عليها بالكامل بعد. في الستينيات، تنبأ مارشال
ماكلوهان، عالم الاتصالات الكندي، بأنه ستأتي حقبة جديدة تهيمن عليها وسائل
الإعلام المرئية والمسموعة، وبناءً على هذه الرؤية حذر من أن العلاقات بين الناس
ستتغير وسيظهر ما أسماه انتقام الأنواع، إذ ستغدو الشفرات المرئية أكثر أهمية من
الشفرات المكتوبة. ومن المفارقات في نظرياته أنه ألف كتابًا استثنائيًا للحديث عن
نهاية الكتب. يسمى هذا الكتاب «مجرة جوتنبرج».
يتحدث فيه عن نهاية العمليات المكتوبة والمجتمعات التي تأسست على الحروف، مما يؤدي
إلى مرحلة جديدة تتواصل فيها قبائل المستقبل من طريق وسائل الإعلام المرئية
والمسموعة. كانت تلك اللحظة العظيمة للتلفزيون التجاري واجتماع العائلات حوله، مثل
اجتماع القبيلة حول النار. وقال إن هذا التصوُّر الجماعي للبرامج يقود إلى موقف
قبلي جديد: رؤية رسالة جماعية. وتوجد رسائل مهمة جدًا لم يجرِ التعبير عنها ليس
فقط عما شاهدته العائلة، ولكن أيضًا عما شاهده الكوكب بأسره. مثلًا، فكِّر في وصول
الإنسان إلى القمر؛ شيء شهده الكوكب بأسره بوئام. هذا الوضع لا يمكن تكراره اليوم،
لأنه في ذلك الوقت كان من المهم جدًا مراعاة إمكانية ما أطلق عليه ماكلوهان أيضًا
«القرية العالمية»: الكوكب موحَّد حول رسالة واحدة. ما طرحه ماكلوهان لم يتحقق كما
توقع، لأن التجديد التكنولوجي العظيم التالي جاء مع الكمبيوتر الشخصي. أدى ذلك إلى
عودة ثقافة محو الأمية، التي كان يعتقد أنها ستصبح قديمة، بقوة متجددة، من طريق
الأجهزة التي تتغذى على الحروف، وتُسمى أجهزة الكمبيوتر، التي ما زلنا نستخدمها
حتى اليوم.
الآن، في الوقت الحاضر،
بات التحدي الأكبر هو الواقع الافتراضي. إنها حقيقة فرضية تستغرق الكثير من وقتنا؛
عملية مستحدثة وعصرية حتى أني أجرؤ على القول إننا برابرة حضارة جديدة. لقد بدأنا
توًا بتعلم شفرات هذا الواقع الجديد. قال جون لينون في أغنية شهيرة: «الحياة هي ما
يحدث لك عندما تكون مشغولًا في وضع خطط أخرى». وهذا يعني أن جوهر الحياة يفلت منا؛
نحن لا نلتقط جوهرها لأننا مشتتو الذهن بفعل شيء آخر. ونفهمه بنحو أفضل عندما
نتذكره على أنه الماضي، أو المستقبل عندما نتوق إليه، لكننا بالكاد نستطيع التقاط
اللحظة بكل شدتها. هذه الجملة، التي صدرت قبل الواقع الافتراضي، أصبحت اليوم أكثر
تعقيدًا وإلحاحًا، إذ نقضي جزءًا كبيرًا من وقتنا في تمثيل أنفسنا في مساحات
افتراضية ولدينا رقم تعريف شخصي للوصول إلى حساب ما، ولدينا كلمة مرور، وغالبًا ما
يكون لدينا اسم مستعار، اسم مستعار للدخول إلى تويتر، وغيره. قدرة الإنسان على عيش
وجوده في عالم الحقائق، وفي الوقت نفسه، تمثيل نفسه طيفيًا، في محاكاة للهوية
المبنية على المنصات الرقمية، ظاهرة جديدة لم تكن موجودة من قبل، وتضع خطاب الكلمة
المكتوبة موضع تساؤل. كيف نتفاعل مع هذا العالم؟ كيف يرتبط الافتراضي بالواقع؟
ظهرت ظواهر مهمة: في اليابان نسمع عن ظاهرة الهيكوكوموري، وفيها يُصاب الشخص
بالتوحد الإلكتروني، ويقضي الكثير من وقته أمام الشاشة حتى يفقد القدرة على العودة
إلى عالم الواقع. لقد عانينا أيضًا من فقدان مجالنا الخاص، إذ تُباع بياناتنا
الشخصية في بنوك البيانات إلى الشركات التي تقدم لنا منتجات عبر الإنترنت. تجمع
شركة ياهو، مثلًا، 2500 جزءًا من البيانات عن كل مستخدم شهريًا، من 250 مليون
مستخدم لديها، وترسلها إلى الشركات التي تريد الوصول إلى هذه المعلومات الشخصية.
أصبح التجسس أيضًا أمرًا
ثابتًا. منذ قضية سنودن، نعلم أن مراكز الاستخبارات الرئيسية لا تراقب التهديدات
الخارجية، بل تراقب الحياة اليومية. وهذا يعني أن أي مواطن قد يخضع للمراقبة
والتحقيق وما إلى ذلك. لقد فقدنا بطريقة ما مجال الخصوصية، ما يحول الأدب إلى آخر
مستودعات الحياة الخاصة المتوفرة. كتابة قصة عن العلاقة الحميمة لشخص ما هي بطريقة
ما فعل مقاومة في عالم تضيع فيه الحميمية.
تاريخ الأدب هو تاريخ
الغزو التدريجي للحميمية. كُتبت العديد من النصوص لتصديقها، وعُدَّتْ مخطوطات
موجودة. في مواجهة سؤال: «من يتكلم هنا؟»، قد يقول أحدهم: «لقد وجدت هذا النص في
مكان ما». هذه هي حالة دون كيشوت الشهيرة، وهو ليس نصًا كتبه ثربانتس بوضوح. من
الناحية النظرية، كتبه مؤلف عربي، ولم يكن ثربانتس والده، بل زوج أمه. إنه الشخص
الذي يتبنى النص، وبناءً على هذا التبني، يمنحه شرعية أكبر لأنه يعاني من صعوبات
في العثور عليه بنفسه. يقول لنا: «لقد أرسلتُ الرواية لترجمتها، ولم أحصل على
الترجمة في الوقت المحدد. في غضون ذلك، سأقدم لك رواية للترفيه عنك حتى أحصل على
الترجمة». لذا، فهو يلعب بمخطوطته الخاصة بنصية فوقية. إنه يتلقاها، ويعترف بها،
وبهذا المعنى يجعلها ذات مصداقية لأنه يعطينا المصدر والأصل، ويعلمنا كيف وصل
إليه. هذا شيء نادرًا ما يظهر في كتاب، بل إنه يذهب أبعد من ذلك ليذكر الأماكن
التي يمكن أن يجد فيها المؤلف قصصًا مكتوبة باللغة العربية. وهكذا، كان للأدب
دائمًا أصل حاولنا شرحه بهذه الطريقة، وهكذا نرى كل الأدب بصيغة الغائب؛ الراوي
كلي المعرفة نوع من الآلهة يعرف كل ما يحدث في أذهان الجميع. تبدأ الشخصيات والأدب
تدريجيًا بتبني سلوك الفرد ورؤيته، وحتى وعيه. بعبارة أخرى، يبدأ الأدب بغزو منطقة
أعمق تدريجيًا، ونرى أن بعض الروايات الكبرى في القرن العشرين لها علاقة
بالمونولوج الداخلي، بتيار الوعي الشهير. لهذا السبب، إذا كان الأدب له علاقة بغزو
تدريجي للحميمية، وتتطلب الحياة التي نعيشها اليوم -بطريقة أو بأخرى- العلاقة
الحميمة لتكون وظيفية، لأننا أهداف للمراقبة والتلاعب ببياناتنا الشخصية، أعتقد أن
الأدب يأخذ على عاتقه -نظرًا إلى أهميتها الاجتماعية والثقافية- وزنًا هائلًا،
لأنها بمثابة خزان غير عادي للأُلفة. إننا نواجه إمكانية الاتصال بوعي، حتى في
حالة كتب مثل «يوليسيس»، في مونولوجها النهائي الشهير، أو أدب فيرجينيا وولف، أو
العديد من المؤلفين الآخرين، ما يجعلنا على اتصال بالأفكار التي لم تُصاغ بعد، أي
الترابط الحر لأفكار الشخصية التي تختبر تيار الوعي.
ما يزال الأدب يحتفظ بهذا
الشرط الخاص للحفاظ على الفرد، وأعتقد أن هذا جزء عظيم من إرثه. يتعلق هذا المفهوم
للوعي الفردي بالخيال (الرواية، والقصة القصيرة)، ولكنه يتعلق أيضًا بالكتابة غير
الخيالية (الشهادة، والسجل الزمني للأحداث)، لأن الكتابة الواقعية تعتمد إلى حد
كبير على جهد لالتقاط أفكار الشهود الحقيقيين لحدث ما من أجل نقل هذه الأفكار عبر
التأريخ. عندما كتب غابرييل غارسيا ماركيز «حكاية بحار غريق»، كتبها بضمير
المتكلم، متوغلًا في جلد بطل القصة. نُشر هذا النص في الأصل على دفعات في جريدة
«إل إسبكتاتور» في بوغوتا، كأن البحار الغارق قد كتبه بنفسه، دون ارتباط باسم غارسيا
ماركيز. فقط بعد أن أصبح كاتبًا مشهورًا، أعيد نشر الكتاب باسمه، وقد فُهم من تلك
اللفتة أن المؤلف المشارك هو البحار الغريق بنفسه، ما يعطي حقوق المؤلف للبحار.
يجب أن نأخذ في الاعتبار، طبعًا، أن غارسيا ماركيز لم يعد بحاجة إلى المزيد من
حقوق المؤلف، لأنه اشتهر بالفعل بمئة عام من العزلة. لذلك، من الواضح أن إمكانية
الدخول في وعي أجنبي تتعلق أيضًا بالشهادة. أحد أغنى جوانب السجل الزمني للأحداث
هو تحديدًا أنه يجمع بين موارد تقارير الشهادات وموارد الأدب التي تسمح لنا
بالتحقيق، والخوض في الحياة الداخلية لأولئك الذين يصنعون قصة أو أولئك الذين
شهدوها. الوعي يخضع أيضًا للتقرير، وأعتقد أن هذا أحد أكثر الأشياء إثارة للاهتمام
حول التاريخ المعاصر. مثلًا، يؤيد ريتشارد كابوسينسكي، أحد أساتذة التأريخ في
القرن العشرين -بوصفه أحد مبادئه الأساسية- الحاجة إلى اعتبار أن لكل شخص الحق في
أن يكون عصابيًا، ولكل شخص الحق في أن يغضب، وأن يعطي معلومات غير صحيحة، وقد
يزعجك هذا. لذلك، فإن الكثير من وقائعه -وليس بالضرورة سجلات الأشخاص الذين قد
يربطهم المرء بمزاج عاصف، ولكن ببساطة السجلات التي تدور أحداثها في إفريقيا بين
عامة الناس- تمكنت من إيصال ليس فقط كيف يعيش الشخص ويؤدي دوره، ولكن أيضًا كيف
يشعر ويفكر ويحلم. يوجد استبطان للعالم الداخلي في التقارير، وأعتقد أن هذا يجعلها
ذات أهمية خاصة.
في السياق الذي نعيش فيه
الآن، يبدو وجود صراع معقد -وأعتقد أن الأدب يجب أن يشارك فيه حتمًا- بين التصوُّر
المتجانس إلى حد ما عن العالم الذي نراه على جميع الشاشات المختلفة التي نراها
(التلفاز والحاسوب والهاتف الخلوي) والتصوُّر المعروض في الأدب. وقد أدى هذا إلى
خطابات تتعارض بعضها مع بعض: الحالات الشهيرة «للأخبار الكاذبة» التي نوقشت بشدة
خلال حملة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وطبعًا في حملات سياسية أخرى، وتشويه
الواقع الذي يمكن أن يحدث على العديد من المنصات دون وجود مرشِّح، ومحكمة الرأي
العام التي تعتقد أن هذا الادعاء صحيح أو ذاك... كل هذا ينبهنا إلى وجود تشويه
متزايد للواقع، حتى أن قاموس أكسفورد (الذي يختار كلمة لتعريف اللحظة كل عام)
اختار عام 2016 كلمة «ما بعد الحقيقة»، للإشارة إلى أن ذلك العام جرى فيه التلاعب
بالمعلومات. لا يمكن استيعاب مفهوم ما بعد الحقيقة تمامًا في مفهوم الكذب، لأن
مفهوم ما بعد الحقيقة هو تشويه للواقع بدوافع خفية. إنه تلاعب متعمد بالحقيقة،
غالبًا لأغراض سياسية. بهذا المعنى، توجد كذبة بالفعل، لكن بقصد أيديولوجي. هذا هو
السبب في أن المفهوم قد اكتسب مثل هذا الوزن، رغم الوجود المسبق لكلمة مثل
«الكذب». في اللحظة التي يجري فيها تشويه الواقع بهذه الطريقة، وأكثر مستخدمي
تويتر تأثيرًا على هذا الكوكب هو دونالد ترامب، الذي قال أشياء عن بلدي تتطلب
بوضوح خطابًا معارضًا؛ توجد حاجة إلى مساحات يمكن فيها للحقيقة أن تكتسب إمكانية
أخرى لتطبيقها. وهذا هو المكان الذي أصبح فيه للسجل الزمني للأحداث اليوم أهمية
خاصة كما أظن. أعتقد أننا في لحظة جرى فيها تشويه استخدام الحقيقة تمامًا لدرجة
أننا بحاجة إلى العودة إلى الخطابات والسرديات التي تقترب من علاقة أكثر دقة مع
الواقع. يبدو، إذا نظرنا إلى أجواء وسائل التواصل الاجتماعي، أن عالم الحقائق بدأ
يتلاشى شيئًا فشيئًا، وأنه من الصعب بنحو متزايد الوصول إلى هذا العالم، لأنه
يتعين علينا المرور عبر العديد من المرشِّحات للوصول إلى هناك. في مواجهة ظاهرة
الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي والتداول المبالغ فيه للأخبار التي لا تكون
صحيحة بالضرورة على مثل هذه الشبكات، يتساءل المرء: أين ذهبت الحقيقة؟ ربما اختفت؟
ونتيجة هذا الوضع، أعتقد أنه من الملح أكثر من أي وقت مضى استعادة الواقع من طريق
الكتابة.
هذه ليست مهمة سهلة، لأن
أحد الآثار الثانوية للإنترنت كانت نهاية صناعة الموسيقى. لم تعد تسميات التسجيلات
منطقية من الناحية التجارية، وحاليًا أوقف الإنترنت الصحافة عن كونها نموذجًا
للشركات المستقلة أيضًا. من المستحيل عمليًا أن تعيش الصحيفة على ربحها الخاص فقط.
هذا وضع خطير جدًا يواجه بقاء الصحف اليوم، فلم يعد المعلنون يلجؤون إلى الصفحات
المطبوعة بقدر ما يعتمدون على حرية الوصول إلى الأخبار على الإنترنت. في هذا
السياق، لا يمكن للصحيفة أن تمضي قدمًا إلا إذا كانت تشكل جزءًا من تكتل تجاري، أي
إذا كان لديها مصالح اقتصادية أخرى لدعمها. اعتاد الصحفي والروائي الإسباني مانويل
فاسكيز مونتالبان أن يقول، «الدرس الأول الذي يجب أن يتعلمه الصحفي هو من يملك
جريدته»، لأن هذا هو مصدر المصالح التي يجب الدفاع عنها، وهنا تكمن حدود حريته في
التعبير. كل الحرية نسبية، والحرية كلها مسورة، وحرية الصحفي مرتبطة طبعًا
بالمساحة التي يمارس فيها مهنته. على أية حال، فإن غالبية الصحف اليوم -تلك التي
ما تزال قادرة على البقاء- تتطلب أعمالًا موازية من أجل ذلك. لهذا يغدو التصرف بنحو
مستقل تمامًا أكثر صعوبة، لوجود مصالح خاصة وحركة مرور ضرورية للتأثيرات من أجل
ضمان بقاء جميع هذه الأعمال. إنه موقف معقد لأننا إذا أردنا تغطية إخبارية مستقلة
حقًا، فلن نحصل عليها بالضرورة من وسيط له اهتمامات أخرى غير البحث عن الحقيقة.
لهذا السبب أعتقد وجود إلحاح اجتماعي للعثور على مصادر معتمدة تبحث عن الحقيقة
وتدافع عنها، تمامًا كما توجد حاجة اجتماعية إلى التوجه نحو خطابات الحميمية التي
يمكن للأدب أن يضمنها. هذا التوتر الذي نعيشه اليوم يبدو لي -من ناحية- رائعًا،
ومن ناحية أخرى، مقلقًا جدًا. قد نقول إنه يوجد عجز في الفرد وعجز في الحقيقة في
مجتمعنا. أعتقد أن الصحافة والأدب هما وسيلتان للدفاع عن الفرد والحقيقة في يومنا
هذا.
أود أن أتوقف لحظة لأتحدث
عن النوع الذي أعتقد أنه مهم بصفة خاصة: السجل الزمني للأحداث. نوع أدبي، كما قلت
قبل لحظات قليلة، يستفيد من مصادر الشهادات، ولكن أيضًا من الموارد الأدبية
البارزة. ربما جرت كتابة تاريخ جيد منذ وقت طويل، ولا نقرؤه بالضرورة لمعرفة
المزيد عن الأخبار؛ يمكننا قراءته عبر الزمن لمعرفة كيف حدث شيء ما في الوقت
الحالي وكيف أثر على أشخاص معينين. من وجهة نظر ثقافية، أعتقد أن السجل الزمني
للأحداث هو النوع الذي يربط بنحو أفضل بين العام والخاص. نقرأ أحيانًا خبرًا يؤثر
فينا إحصائيًّا؛ نتعلم أن مئتي شخص ماتوا في كارثة تسونامي، لكنها لا تؤثر فينا
عاطفيًا لأننا لا نعرف الكثير عن كيفية حدوثها. الحقيقة قوية، ولكن من أجل فهم ما
حدث حقًا، نحتاج إلى قصة تربط الحياة الفردية لهؤلاء الأشخاص بالحدث العام الذي
نقرأ عنه. أعتقد أن هذا الرابط بين العام والخاص يمكن تشكيله تشكيلًا جيدًا جدًا
من طريق نوع السجل الزمني للأحداث، الذي يسعى إلى نقل الحياة الخاصة للحقائق
إلينا؛ وهذا مهم جدًا، الحياة الخاصة للمعلومات، وهي ليست مجرد إحصائية. توجد
أمثلة رائعة لكيفية تأثرنا بشيء فردي، نعيشه في المفتاح الحميم الذي ينتمي إلى حدث
جماعي. مثلًا، أعتقد أنه جرى تمثيل نموذج سردي مهم جدًا في متحف هيروشيما المخصص
للقنبلة الذرية. في هذا المتحف، نرى الأشياء التي دمرها الانفجار، وكل شيء يحمل
لافتة صغيرة تحكي قصة خاصة: من كان صاحب ساعة اليد هذه، ومن كان الصبي الصغير الذي
ركب هذه الدراجة ثلاثية العجلات، ومن كانت المرأة التي ترتدي هذا الكيمونو. بهذه
الطريقة، الأشياء التي نراها مجرد حقائق، أحرقتها النيران الذرية، تأخذ سيرةً
فريدة، ويصبح هذا مهمًا لأننا نشعر بالتعاطف، ويمكننا التماثل مع الأحداث. أعتقد
أن أحد أهم موارد السجل الزمني للأحداث هو تحديدًا القدرة على توليد التعاطف مع
القارئ، وجعل بعض الأحداث البعيدة، وبعض الأخبار العشوائية، يتحول إلى شيء يمكن أن
يمس القارئ عاطفيًا، وأعتقد أن هذا هو المكان الذي تلعب فيه الأحداث أوراقها
الأخلاقية، بمعنى أنه عندما نتعرف على الواقع، مهما كان مختلفًا أو بعيدًا، نشعر
أنه من الضروري أن يحدث هذا بطريقة أخرى، أو أنه لا ينبغي أن يكون كذلك، أي: يوجد
تعاطف ضروري. ربما تكون قد شاهدت فيلم Spotlight،
الذي يتحدث عن تحقيق في الاعتداء الجنسي الذي ارتكبه قساوسة كاثوليك في بوسطن، من
إنتاج Boston
Globe. يُظهر المشهد الأخير من
الفيلم رد فعل القراء في لحظة نشر هذه المعلومات. المعلومات مقنعة جدًا حتى أن
منسق التقارير -في هذه اللحظة- يكون وحده في غرفة الأخبار، وفجأة يسمع رنين
الهواتف بمكالمات القراء الذين يتعاطفون مع التقرير ويريدون توجيه اتهاماتهم
الخاصة. لذا فإن التعرف على الواقع وفهمه، وجعله ملكًا للفرد، وإبرام ميثاق
التعاطف أمر ضروري لكي يكون للشهادة تداعيات أخلاقية؛ هذا أحد الأشياء التي يمكن
تحقيقها. في عالم يعاني من نقص في استخدام الحقيقة، من المهم جدًا البحث عن
الوقائع الصحيحة، ولكن في الوقت نفسه، إنشاء روايات ليست واقعية أو ممتعة للقارئ
فحسب، بل أيضًا قادرة على لمسه عاطفيًا. هذا هو المكان الذي تتطلب فيه الأحداث
موارد أدبية معينة للدخول في الحياة الفردية للشهود، وإيصال عواطفهم ومشاعرهم،
وربطها بالقارئ عاطفيًا.
يبدو لي هذا الاستفسار عن
الحياة الحميمة مركزيًا تمامًا في السجل الزمني للأحداث، كما أنه يمثل قيمة
اجتماعية في عالم يفقد فيه مجال الفرد ومجال الحميمية وزنه. الأدب، بعد كل شيء،
احتياطي من المواقف الفردية، لكنني أعتقد أيضًا أننا يجب أن نرى فيه فعل مقاومة
فيما يتعلق باستخدام الوقت. نحن نعيش اليوم في الحاضر، لحظيًا، في هذا الحاضر الذي
يهرب منا، الذي لا نعرف فيه حقًا إلى أين ذهب الواقع. يقترح الأدب إدارة مختلفة
للوقت، لأنه يعتمد -في بنيته ذاتها- على العمليات الزمنية. إن كتاب مارسيل بروست
«البحث عن الزمن المفقود» هو، طبعًا، استعادة لماضٍ واسع النطاق، وهو أمر يصعب
علينا تحقيقه اليوم. إذا فهمنا أن الإنسان يعمل باستخدام المفاهيم الأساسية للمكان
والزمان، يمكننا أن نفهم أن الفضاء -بطريقة ما- له معنى أكبر من الوقت اليوم، إذ
يمكننا الدخول إلى صفحة ويب، والدخول إلى غوغل، وولوج مساحة تتشكل فيها كل اللحظات
الآن. لذلك، إذا أردنا أخبار أية حقبة، فهذا الخبر يحضر في هذه اللحظة بالذات،
وإذا أردنا نقله، سننقله فورًا. نحن نعيش في الحاضر، وعلاقتنا بالعمليات الثقافية
تتعلق بالمكان أكثر من ارتباطها بعملية زمنية معقدة. حتى أشكال الاتصال مثل واتس
آب أو البريد الإلكتروني سريعة جدًا لدرجة أنني أعتقد أنها تنتمي بدرجة أقل إلى
التواصل، وأكثر إلى علم الأعصاب. فور أن تفكر في إرسال شيء ما، تكون قد أرسلته
بالفعل؛ إنها عملية لحظية. فكر في الرسائل والرسائل المكتوبة. غالبًا ما يستغرق
تلقي الرد بعض الوقت، وغالبًا ما يعتز الناس برسائلهم، وينامون معها تحت وسادتهم،
ويعيدون قراءتها عدة مرات قبل الرد عليها. هذه العملية الزمنية في الكتابة غير
متوفرة على الشبكات الاجتماعية في العالم الرقمي، وأعتقد أن احتياطيها الكبير
موجود في الأدب نفسه. الأدب الذي ما يزال يتطلب استخدام الوقت.
الآن، هل سيتمكن الأدب من
البقاء في عالم من السرعات والشدة وما إلى ذلك؟ أعتقد ذلك، أعتقد أن الفعل الذي
لدينا هنا هو فعل حضور، وأعتقد أن كل أعمال الوجود اليوم هي أعمال مقاومة. إن
حقيقة كونك في اتصال مباشر، مثل المسرح والمحادثات عن الفن... هي أشكال طقسية من
الوجود المكرس. بهذا المعنى، أعتقد أن الأكاديمية ما يزال لديها الكثير لتقوله
فيما يتعلق بفعل الحضور. وأعتقد أيضًا أن الكتب التي يمكننا نقلها من يد إلى أخرى،
والكتب على الورق، لها وظيفة ثقافية مهمة جدًا تتمثل في المقاومة. يجري الدفاع عن
المجال الفردي أيضًا من طريق الكتب، وخاصة الكتب الورقية. أعتقد أن أفضل ما في
الكتب الورقية هي الأيادي التي تمررها، التي تخلق أخوة في القراءة. كتاب مثل «مئة
عام من العزلة» يحمل في اسمه فكرة الاستخدام غير المحدود والواسع النطاق للوقت.
أعتقد أن الأدب يتطلب ذلك بالضرورة. وسأختتم بما يلي: الدفاع عن الفردية والدفاع
عن استخدام الوقت -وهما عمليتان أساسيتان للتأريخ والخيال معًا- يمثلان أيضًا
شيئًا حاسمًا جدًا. في رأيي: الدفاع عن الذاكرة.
تنبأ علماء الأعصاب بأن البشر في المستقبل سيكونون مختلفين، يملكون أصابع أكثر نحافة، ربما من أجل التلاعب بأنواع جديدة من المنصات، وعيونًا حادة جدًا، وعقولًا متطورة، ولكنهم أيضًا يعانون فقدان الذاكرة، لأن المزيد من الأطراف الاصطناعية تحل محل ذاكرتنا. لذا فإن الأدب هو احتياطي للذاكرة أيضًا، ليس فقط بسبب ما هو مكتوب فيه، ولكن أيضًا لأن فعل القراءة نفسه ينشط الذاكرة. يحتاج أي شخص يقرأ رواية من 400 صفحة إلى تذكر الكثير حتى يتمكن من الاستمرار. لا يمكننا قراءة رواية لـ دوستويفسكي، فنحن لا نتعلم أسماء وألقاب الشخصيات. لذلك، تأخذ الذاكرة موضع الانعكاس في عملية القراءة. وماذا نقول عن الشعر؟ الشعر أداة استذكار. الوزن والقافية عمليات تسمح لنا بتعلم الأشياء من طريق الذاكرة. الحقيقة البسيطة المتمثلة بمعرفة الأشياء بوساطة الذاكرة تبدو لي عملًا شعريًا بحد ذاتها. ادعى الكاتب المكسيكي غونزالو سيلوريو أن قول «ثلاثة ست مرات يساوي ثمانية عشر»، أو التصريفات اللاتينية، روزا روزي، روزا روزا، أو الصلاة «السلام عليك يا مريم يا ممتلئةً نعمة...»، هي أعمال شعرية بحد ذاتها. مثل تلاوة كلمات رامون لوبيث بيلاردي: «كانت لدي صديقة فقيرة في الداخل، عيونها الزرقاء غير عادية». يمارس الشعر الذاكرة، ويجبر القارئ على تفعيلها، تمامًا كما يطلب الأدب -بديناميته الخاصة- تمرين للذاكرة.
شكرًا جزيلًا لكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ضم النص السابق
مقتطفات من حديث أجرِي في نورمان، أوكلاهوما، في 26 من أكتوبر 2018، جزءًا من
مؤتمر تيرا تينتا الرابع عشر، الذي نظمه طلاب الدراسات العليا للأدب الأمريكي
اللاتيني في قسم اللغات الحديثة والآداب واللغويات في جامعة أوكلاهوما. وبهذه
المناسبة، دُعي خوان بيورو للمشاركة بوصفه متحدثًا رئيسيًا.
عن
موقع تكوين