recent
جديدنا

«إهانة غير ضرورية» لـ إياد عبد الرحمن

الصفحة الرئيسية

 

 

حسنًا، وقبل أن أبدأ، دعونا نفترض جدلًا أنّ جميع قصص حياتنا تبدأ على هذا النحو تقريبًا؛ طفلٌ يلهو في يوم العيد، حوله أقرباؤه البالغون، يقتربون منه واحدًا تلو الآخر، يلقون عليه التحيّة أولًا، ثم يستمعون إليه وهو يصف أحلامه التي يريد تحقيقها عندما يكبر. «خيالاتٌ جامحة»، يُفكّر في ذلك خالٌ عابرٌ وهو ي
صغي إلى أمنيات الطفل التي تجيء على نحو ساذج وبريء، لكنّ الخال، وعوضًا عن قول الحقيقة، يكتفي بطمأنة الطفل بأن أمنياته سوف تتحقق في المستقبل القريب، ولربما يأتي أحد أبناء العمومة الذي لم يره الطفل منذ فترة طويلة؛ كي يؤكّد، وبجدّية تامّة، أنّ هذا الكون يتسع لأحلام الجميع، فيكبر الطفل، وتكبر بداخله كل الأمنيات الجامحة، تُزهر الأشجار بانتظار أن تقتلعها فأس الحطَّاب الأخيرة. حتى إذا ما وصل الطفل إلى سن البلوغ بجدارة، توقَّف أقرباؤه عن وصف الممكن فجأة، وتحوّلوا فورًا إلى الحديث عن المستحيل. هكذا، دون تنويه مسبق، يخبرونه عن صعوبة تحقيق أحلامه، وعن ضرورة أن يتماشى مع ما سوف تأتي به الأيام، وعن خيبة الأمل التي سوف تطاله مثلما طالتْ الكثيرين من قبله.

 


لكن لا بأس لو جاء الأمر صادمًا بالنسبة إلى الطفل، لقد كان واجبًا عليه أن يعرف الحقيقة في نهاية المطاف، وأن يتفهَّم ضرورة العيش بواقعية داخل مسلسل كرتوني، إلا أن ثمة شيئًا ما يدفعني إلى الحيرة، وهو نفس الشيء الذي قد يحيركم أيضًا، ألم يكن من الأفضل أن يعرف الطفل نهاية العرض الهزلي هذا قبل أن يبدأ؟ لماذا يجب عليه أن يعيش طفولته مُغيَّـبَـًا بالرغم من كونه شخصية محورية في مشاهد تتكرّر بشكل دوري؟ «أحدهم يعبث بنا»، سيفيق كل الأطفال على هذه الحقيقة المفزعة، وسيدركون جميعًا أن الدافع من وراء خَلقهم لا يعدو كونه مجرَّد أمر ترفيهي.

 

بالنسبة إليَّ، لم أكن في حاجة إلى الكثير من الوقت حتى أستيقظ من خيالات طفولتي، وأجدني، وبمحض الصدفة، مخصيًّا ومحشورًا داخل نسيج غليظ من الخيش تحمله أمي. كنتُ في التاسعة من عمري لما حملتني على ظهرها المحدودب، بعيدًا عن كل الأحلام التي أعرفها، وسارت بي صوب السكَّة المسافرة شرق (الحبشة).

 

لم تشأ أمّي وقت ذاك أن تجعلني أصعد على ظهرها وأطوّق رقبتها بكلتا يديَّ مثلما يفعل الصِبية عادةً في لحظة طيش، إذ إنّ من شأن الأقدام المنفرجة، وكما أوضحتْ لي حينها، أن تزيد من تفتق جروحي؛ لذلك أرغمتني على التكوم داخل الخيشة ثم شدّتني إلى ظهرها كما يشدّ رجال القرية أكياس الشعير، وسلكت بي طريقًا ترابية غير مألوفة، يسبقها فيه فوجٌ من الرجال المسنين والنساء والأطفال.

 

أذكر هذه التفاصيل بوضوح كما لو أنها حدثت مساء البارحة، وكما لو أنني لستُ الآن في أواخر الستين من عمري. لقد سارت بي أمّي آنذاك دون أن تبدي اهتمامًا بالخرق البالية التي تضغط بقوة على فرجي، ولا حتى بخيوط الدم والبول التي تسيل بين فخذيَّ، وعبر الخيش؛ كي تصنع نهرًا على ظهرها. كانت تصب تركيزها على اللحاق برفاقها الذين تضجَّروا في بادئ الأمر من بكائي المتقطع، ثم أقسموا بعد ذلك على أن يتخلّوا عنها في حال إن لم تُعجِّل بالسير.

 

«كل هذا لأجلكَ يا الله»، كانت أمي تُصبّر نفسها، ولعلّها مع المناجاة تشيح ببصرها نحو الأعلى؛ كي تطمئن إلى قدرة الله على رؤيتها، فالسماء بعيدةٌ جدًّا، ومن المحتمل، أن تغيب هي عن أنظاره، أو أن يتخلّى هو عنها مثلما فعل أولئك المسافرون. نادته في كل لحظة باسم مختلف، بعض الأسماء لا صحّة لها، عرفتُ ذلك بعد أن كبرتُ طبعًا، لكنها لم تلجأ آنذاك إلى الله بدافع الخوف، أو رغبةً في الاحتماء به، وإنما كي تذكّرهُ بحجم التضحية التي كانت تقوم بها.

 

إنني متأكد من أن هذا الشعور بالتضحية هو وحده ما منح أمّي القدرة على قطع المسافة الممتدة بين قريتنا البعيدة في شرق (الحبشة) وميناء (عَصَب)، وهو نفس السبب الذي جعلها تتجشّم أيضًا عبء حملي مسافة ثلاثة أسابيع كاملة دون أن تستسلم للتعب؛ إذ كانت تؤازر نفسها طوال مشوارنا باستحضار أهمّية القربان الذي تُقِلّه على ظهرها، أقصدني بالطبع، وتسوقني إلى ربها مثلما يُساق كَبش فداء إلى موته، دون أن يخفت في داخلها ألف يقين بأنها كانت تحاكي النبي الذي حمل ابنه إلى صخرة الذبح.

 

«كل هذا لأجلكَ يا الله»، تعود لتذكّر ربها، فأزداد يقينًا من مدى جدّية السفر الذي انطلقنا فيه دون استعداد مسبق؛ وذلك لأن أمّي ما كانت لتتباهى بأفضالها على أحدٍ إلا في حال إن كانت مقبلة على القيام بأمرٍ جِدي وحاسم، كأن تُذكّر أبي مثلًا بشبابها الذي أهدرته من أجله ثم تخرج بعد ذلك لتحرق العشَّة التي أقامها بمناسبة إقباله على الزواج بامرأة أخرى، أو أن تُذكّرني ذات يوم بحليب الشاة الذي تجلبه لي كل صباح ثم تدعو قابلة القرية كي تقوم بقطع خصيتيَّ بنصل سكّين مخادعة. أجل، لقد كُنّا مقبلين طوال سفرنا ذاك على منعطف حقيقي وحاسم، لكنّ أمي فضّلت التكتم على أيّة تفاصيل حتى نبلغ وجهتنا.

 

أنا في الحقيقة لا أذكر سوى القليل من الأساليب التي لجأت إليها أمي في تلك الرحلة كي تتغلّب على مخاوفها، لكنني، وبحدس طفل التاسعة الذي يرتدي جسدًا هزيلًا يليق بطفلٍ في الخامسة، فهمتُ أنّ لا شيء كان يقلقها آنذاك سوى حاجتها إلى شخص آخر يؤازرها طوال المشوار، لقد بدا لي في تلك الأثناء أنّ طريقنا كان سيغدو أقلّ وعورةً في حال إن سافرنا برفقة شخصٍ آخر نعرفه، فيتناوب معها على حملي، ويساعدها أيضًا على تقفّي أثر رفاقها المسافرين، أولئك الذين ساروا بطريقة عشوائية كما لو أنهم كانوا بالفعل يقصدون التخلّص منها.

 


لم تلتفت أمي طوال مشوارنا إلى الخلف حيث قريتنا؛ فالخلف خيانة، بل جعلتْ تقوّي صلتها بالسماء، وتفتّش في الأفق أيضًا عن أثر رفقائها. لكأنّي أراها الآن وهي تشدّني بحزمٍ إلى ظهرها، ثم تدفع مؤخرتها نحو الخلف، وتزيد قليلًا من انحناء قامتها، فترتفع كومة الخيش الراغبة في السقوط، وأزداد بدوري قُربًا إلى عظام ظهرها الناتئة. وما إن يستقيم بنا ذاك الطريق الذي شهد انحدارات شديدة، حتى تنصرف أمي إلى تزجية الوقت باستذكار تفاصيل النبوءة التي جعلتني أتورّط في هذا السفر معها.

 

تقول لي بصوت عالٍ إنها رأتني أثناء نومها وأنا أقف بجوار بعض الفتيان الذين يرتدون ثيابًا برّاقة ولامعة، وأنَّ وجهي كان يتألق من شدة اللمعان، وأنَّ شعري كان يخلو كذلك من تراكمات الغبار والأتربة، فيطول حديثها عنّي كثيرًا، لكنها تعود في نهاية الأمر لتؤكد لي، وبعد القَسَم عدّة مرات، أنّ ثلاثة رجال أشداء ذوي بشرة بيضاء قد جاءوا إليها في نهاية الحُلم، وقالوا لها إنني ولدٌ مبارك. «إنها إشارة الله لنا»، هكذا راحتْ تهتف أمي وهي تواصل وصف حُلمها، ثم أخذتْ تبرّر لي أن سفرنا هذا هو امتثالٌ لأمرٍ إلهي صريح وليس مجرّد مغامرة جامحة.

 

أذكر أمي بشكل ضبابي وهي تستعين ببعض العبارات المطوّلة كي تقنعني بأهمية سفرنا، مع العلم بأنني لم أكن أملك وقتها خيار البقاء في قريتنا أو الرحيل، ولم أكن لأتصرّف، أو حتى لأفكّر، إلا حسب ما تفرضهُ عليَّ بنفسها، إلا أنّ الكلام، وحسبما أظن، كان يدفعها إلى الشعور بالطمأنينة، وكان يعينها على التهدئة من روعي، خصوصًا وأنني لم أعرف منذ ولادتي أي مكان آخر سوى قريتنا الصغيرة.

 

لربما توقفتْ أمي عن المشي أثناء سفرنا مرّة أو مرّتين؛ وهذا كي تمنحني نظرة مطوّلة وتتأكد من أنني كنتُ أفهم كلامها، إلا أنها، وبعد كل توقف، كانت تواصل السير وهي تسألني بجدية مطلقة، «أنت تفهم ما أقول، أليس ذلك؟»، فأطأطئ رأسي موافقًا، وتعاود بدورها قطع المسافة الممتدة أمامها وهي تؤرجحني على ظهرها كمن تشعر بالزهو لأن الله لم يختَر من بين صِبيَة القرية طفلًا مباركًا سوى ابنها.

 

كنتُ أتأرجح على ظهر أمّي بالتوافق مع طريقتها في المشي، فتتأرجح في رأسي، وبشكلٍ متوقَّع طبعًا، صورة شيخ القرية وهو ينعطف لزيارتنا قبل السفر. كان الشيخ قد استجاب يومًا لدعوة أمّي حين أخبرته عن الحلم الذي رأته في منامها، فجاءنا برفقة رجلٍ غريب لم يبدُ أنه من أهالي القرية. ألقى الرجلان علينا التحيّة ثم أخذني الشيخ بمهل إليه ورفع القميص الطويل الذي كنت أرتديه.

 

دون تبرير مسبق، وبلا أيّ استئذان، وجدتُ نفسي أقف عاريًا داخل دائرة صنعتها أمّي برفقة الشيخ والرجل الغريب. لقد وقفتُ بينهم مثل شجرة عارية تحاول التصدّي بمفردها لجنود من الريح، ولم يكن في وسعي آنذاك، وهذا بالاستناد إلى النظرات الصارمة التي راحت تسددها أمي نحوي، أن أبدي أيّ اعتراض على ما كان يجري.

 

كان الشيخ يقبض على كتفي كي يجبرني على الاستدارة حول نفسي، وحتى يمنح كافة الحاضرين فرصة تأملي بدقة، أما الرجل الغريب، فقد صبّ جُل تركيزه على (ذلك الشيء) الذي يبرز أسفل بطني، أخذ يقلّبه بسبـّابته اليمنى قبل أن يتحوّل صوب أمي ليقول لها بما يشبه خيبة الأمل إن ذكوريتي واضحة، فكان تعليقه هذا كافيًا لأن تشدَّني أمي نحوها، ثم تهزّني بقوة مثلما لو أرادتْ توبيخي بسبب تصرّف غير لائق.

 

لقد اجتاحتها نوبة غضب عارمة لمَّا راحت تقلب (ذلك الشيء) بين يديها، وأخذت تكرّر باعتراض جملة واحدة ووحيدة، «ولكنّه صغير جدًّا»، إلا أنّ هذا لم يكن من شأنه أن يحمل الرجل الغريب على العدول عن رأيه أو أن يدفع أيًّا من الرجلين إلى البقاء في عشَّتنا فترة إضافية. لقد غادرا العشَّة على الفور ثم تبعتهم أمّي، فصرتُ وحدي عاريًا، لا شيء يرافقني سوى الهلع من تلك اللحظة التي تعود بها أمّي كي تعاقبني على (الشيء) الذي يتدلّى أسفل بطني.

 

تخيلتها تدلف إلى العشّة وهي تتَّقد غضبًا، فتلومني في البداية بسبب سوء نظافتي، ثم تخبرني أن (ذلك الشيء) هو ثؤلول قد ظهر بسبب قلة الاغتسال، وتضيف إلى توبيخها سيلًا من الشتائم لأنني تسبّبت لها بالحرج الشديد أمام ضيوفها، ولا ينتهي هذا الطقس من التقريع إلا حين تنهال عليَّ بالضرب المبرح حتى أتذكر في المرة القادمة ضرورة أن أصغي جيدًا إلى تعليماتها. إنها ارتجالية بطبيعة الحال، لن تهدر وقتها كي تبحث عن شيء تعاقبني به، ستجلب معها سعف نخلٍ من مكان قريبٍ كي تهوي به على ظهري ومؤخرتي، وستهتف بالتزامن مع صياحي الذي سيخترق صمت الهواء أنها قد فطنت، وبطريقة كونية ما، إلى أنني كنتُ أرى (ذاك الشيء) يزداد طولًا كل يوم دون أن أحاول دعكه أو إزالته ولو لمرّة واحدة.

 

كم تمنيتُ في تلك اللحظة، وأنا أنتظر بكل هلع عودة أمّي إلى العشة، لو أمكنني نزع (ذلك الشيء) مثلما أقشّر الدماء المتخثّرة على ساعدي وساقيَّ، أنزعه كما أنزع طبقات الدم الجاف من ناحية الطرف، فينزف جلدي قليلًا، ويعاود النمو بحجم أقل، ثم أنزعه مرّة أخرى حتى يزول تمامًا بعد محاولات كثيرة من النزع، وبعد أن يترك خلفه بُقعًا بُنية وداكنة، لكنّ سيل الأمنيات هذا يتوقف فجأة حين يدلف أبي بشكل غير متوقع ثم يسألني ببلهٍ عجيب عن سبب وقوفي عاريًا بإزارٍ أثبّته فوق بطني وبجسد يرتعش من شدة الترقب والرهبة.

 

يعاونني أبي على معاودة ترتيب ملابسي، تنضمّ إلينا أمي بعد برهة بسيطة، فأفهم من الحديث القائم بينهما أنّ أبي قد استوقف كلا الرجلين على أعتاب عشَّتنا، وأنه قد سألهما عن الغاية من مجيئهما، فأخبراهُ بأنَّهما كانا يبحثان عن طفلٍ لا يملك أيّ (شيء) أسفل بطنه كي يذهب معهم للعمل في خدمة بيت الله. ونظرًا إلى أنني لم أستوفِ الشروط، لم يكن في وسعهم اختياري للخروج برفقتهم.

 

لقد غادرنا الشيخ ذلك اليوم بصحبة رفيقه الغريب، فغادرتْ معهما كل آمال أمّي بأن يكون لحُلمها ثمة معنى، لكنّ أمّي ظلّت بعد تلك الزيارة مؤمنة بأنّ ما رأته في المنام لا يحتمل سوى أن يكون نبوءة صرفة، وجعلت تجابه الأيام بقدرة عجيبة على التمسك برأيها، أنّ ابنها الأسمر الهزيل هو طفلٌ مبارك، وأن الأقدار سوف تُرغم شيخ القرية على العدول عن رأيه وستجعله يعود إليها مرّة أخرى.

 

والحق يقال، لم تشعر أمّي بالذهول لمَّا عاد الرجل الغريب لزيارتنا بعد فترة وجيزة. أذكره لما جاء بمفرده دون شيخ القرية. كُنت ألهو خارج العشة لما طلب منّي أن أرشده إلى أمّي، فسرتُ به نحوها كي يتعهّد لها بتدبير أمور سفري وعملي في بيت الله، ولكن شريطة أن تزيل (ذلك الشيء)، فأبدت أمّي موافقتها على طلبه دون تردّد.

 

«اخصيه ولا تجُبّيه»، هكذا قال لها ثم انصرف دون أن يوضح لي، أو أن تقوم هي بشرح ما كان يرمي إليه. ولعلّ الأمر لم يكن ليشكّل أيّ فارقٍ بالنسبة إليَّ وقتها، أقصد أن أكون مخصيًّا أو مجبوبًا، إذ يصعب على طفلٍ في التاسعة من عمره استيعاب الفارق بين خسارة الخصيتين فقط أو خسارتهما مع العضو المتدلّي فوقهما، ففقدان أيّ عضوٍ بالنسبة إليه يشبه خسارة سِنّ متورّمة تُدقّ بحجرٍ، لتسقط من فمه وتنمو مكانها سِنٌّ ثانية. لكن لن يصعب على هذا الطفل، أو على أيّ طفل آخر، أن يشعر بنصل السكّين حين ينفذ عميقًا في رقّة اللحم، وحين يُصب الزيت المغلي أسفل بطنه كي تتخثر جروحه الغائرة.

 

ذلك الإخصاء يفوق حُرقة رشّ الملح على سنٍ متورّمة، ويفوق شعور الحرمان من التسكَّع مع صِبيَة القرية المجاورة. إنّه صرخة تنطلق بعد ألف تعهّدٍ بأن «تكون ابنًا مُطيعًا»، بينما ثلاث نساء سوداوات يقبضن على ذراعيك وساقيك كي يُرددن: «لا شيء إلا ما شاء الله.. لا شيء إلا ما شاء الله». حتى وإن خفَّفت الحناء المسحوقة وطأة عذاباتك، حتى إن عَبَرتْ يد امرأة غريبة لتُجفّف دموعك، من سيمحو من ذاكرتكَ صورة جبين القابلة الذي ينضح بالعرق؟ ومن سيدفع عنك نظرات أطفال القرية وهم يعبرون أمامك كي يشاهدوا والدتك وهي تدفن النصف السفلي من جسدك بجوار عُشَّتكم؟

 

بعد أن قامت قابلة القرية بقطع خصيتيَّ، وضعتني أمي لثلاثة أيام في حفرة صغيرة بجوار عشتنا، وهذا حتى تلتئم جروحي سريعًا، ولم تأذن لي بالخروج من الحفرة إلا مرة أو مرتين؛ وذلك حين شعرتُ برغبة شديدة في قضاء حاجتي.

 

لقد تحتّم عليَّ البقاء في الحفرة ثلاثة أيام رفقة الكثير من نظرات العابرين المستنكرة. في البداية، كان المارة يعبرون من جوارنا كي يراقبونني أنا وأمّي التي تحرسني من رغبتي الملحة في النهوض، فيستنكرون ما يجري ثم يمضون في حال سبيلهم، إلا أنهم، وبعد يومٍ واحد فقط، تحولوا إلى زيارتي للتبرّك وطلب الشفاعة. لقد فطنوا بطريقة ما إلى أنّ الله قد اختارني تحديدًا لخدمته، فطفقوا يحضرون لي اللّبن والفاكهة بينما أنا نصف مغروسٍ أمامهم، وغارق في وحل من التساؤلات، كيف تبدَّل حالي بهذه السرعة الفائقة؟

 

بطريقة غير متوقعة أصبحتُ محط اهتمام القرية، فجعلتْ أمّي تنهر المارقين كلما أطالوا التبرّك أمامي، وتتصرّف بغلظة مع من حاول ملامستي، لكنها لم تفطن مطلقًا، ورغم القرابين التي تحيط بي، إلى أنّ هؤلاء العابرين هم وحدهم من أطعموا وسقوا ابنها. لقد جعلتْ تصب اهتمامها بشكل حصري على محاولة تفريقهم وافتعال المناوشات معهم، دون أن تلتفتْ إلى حاجة ابنها إلى التواري عن نظرات الغرباء، فانقضت ثلاثة أيامٍ ونحن غارقون في نزاعات تتطوّر أحيانًا لتبلغ التشابك بالأيدي، بينما أقاوم أنا خجلي بمحاولة تصنّع النوم كلما عبر من جواري أحد الأطفال الذين اعتدتُ اللعب معهم.

 

لقد استلزمنا الأمر كثيرًا من الصبر حتى نجابه كل الذين جاءوا ليدينوا أمّي بمحاولة الانفراد بهبة الربّ. كانت أمي تستنكر ادعاءاتهم، بأن الله قد أذن لهم أن يتبركوا بي، وفي بعض الأحيان تُفضّل الالتزام بصمت مطوّل، لكن فتيل المناوشات بينها وبينهم لم يخمد إلا حين مالتْ قابلة الحي لزيارتنا وأخرجتني من الحفرة بشكل نهائي.

 


بعد ثلاثة أيام من إخصائي، قادتني القابلة رفقة أمّي إلى عُشَّتنا؛ وذلك حتى تطبب المنطقة المكوية بين فخذيَّ وتدهنها بعجينة من الطين والزيت، فوضعتني على أحد جنبيَّ، ثم أمرتني أن أرفع بكل مهلٍ ساقًا فوق أخرى، لتصبح تلك هي المرّة الأولى التي ترى فيها نتاج صنعها. أذكرها لما أخذتْ تُطالعني بما ظهر أنّه تعاطفٌ مصحوبٌ بندم أبدي، لكنّها عوضًا عن التحسّر راحتْ تعالج المساحة الصغيرة بين فخذيَّ وهي تسأل الله أن يبارك عملها، وما إن فرغتْ من دهن الطين والزيت، حتى أخذتْ تلف خرقًا طويلة بين فخذيَّ وتثبّتها على خصري، ثم أمرتني أن أواظب على الاستلقاء على جنبي الأيمن إلى أن يحين موعد سفرنا.

 

بعد بضعة أيام أفقتُ على صوت أمي وهي تحثني على التأهب للالتحاق بالفوج المسافر نحو الشرق، لكن أقدامي المرتجفة ما كانت تدل على أنني أستطيع السير بمفردي، لهذا لجأت أمّي إلى نسيج الخيش الذي كان يستخدمه أبي لنقل الشعير، وضعتني فيه، ثم شدّتني إلى ظهرها وغادرتْ عشتنا.

 

دون تردد سارت بنا أمّي وهي تختزل في ذاكرتها وعد الرجل الغريب بأن يتكفّل بترتيبات سفرنا فور وصولنا إلى ميناء (عَصَب). راحت تذرع المسافات دون أن تشعر بأي ندم على رفضها اقتراح القابلة بأن تطلب المساعدة من أبي. أعتقد أن أمّي فعلتْ ذلك لأنها ما كانت ترغب في العودة بجناح مكسور إلى نفس الزوج الذي طلبتْ منه الرحيل حين استبدل بها امرأة أخرى، أو لعلها كانت تريد أن تبدو أكثر صلابة في نظر أهالي القرية الذين لطالما أشفقوا عليها بسبب كونها مجرّدة من الأهل والأقرباء، لستُ متأكدًا، لكن ما أعرفه هو أن أمّي لم تجد صعوبة في إقناع المسافرين الذين خرجتْ معهم بأنّني لن أتسبب لهم بالمتاعب، فأنا، وفي بادئ الأمر، طفلٌ مبارك، كما أنه سيصبح في وسعي السير على قدميّ بعد أيام قليلة.

 

«لولا أنّه طفلٌ مبارك لما قبلنا أن تجلبيه معنا»، هكذا اعتادتْ أن تقول المرأة التي قادت فوج المسافرين وهي تُعاتب أمّي كلما تأخرت في السير. تلومها بسبب تباطئها، لكنـّها ورغم الحنق تمدّنا بالماء، أو ببعض القطع الصغيرة من اللحم المجفف الذي تخبئه في جلود عتيقة، ثم تهرع لتتلقفني حين تبدو على أمي آثار التعب.

 

(مونا) أو (خالة أمّونة) كما أُطلق عليها لاحقًا، وهو تصغير لاسم (آمنة)، هي واحدة من نساء كثيرات عقدن العزم على أن يمنحن (الحبشة) ظهورهن ويغادرنها هربًا من العوز والفاقة، فتخلّت عن زوجها العقيم والشاة الهزيلة التي تملكها؛ كي تنضمّ بمعيّة شقيقتها إلى فوج من المسافرين المـُعدمين، والذين لا يملكون سوى أقدامهم وسيلة للنقل.

 

لقد حسمتْ (مونا) قرارها بالرحيل إلى (اليمن) وهي تتأبّط رغبة مُـلحّة في العثور على زوج آخر تنجب منه بعض الأطفال، فلم تجد سوايَ وسيلة تقربها إلى بعض أحلامها، إذ وبمجرد أن انتصفنا المسافة المؤدية إلى (عَصَب)، راحت تحملني على ظهرها نيابة عن أمّي، وذلك بعد أن عهدتْ إلى شقيقتها مهمة حمل أواني الفخّار التي تثبتها على خصرها المكتنز باللحم.

 

ربما كانت (مونا) تدّعي اهتمامها بالمرأة السوداء الهزيلة وابنها المبارك لأنها متديّنة وخيّرة، ولأنها كانت تريد حث الجماعة على المسارعة في السير، لكن احتياجها إلى الشعور بالأمومة كان سببًا آخر يدفعها إلى القيام بكل هذا. لقد دأبتْ تتعامل معي بحميمية تفوق تلك التي عهدتها في أمّي، ولأكثر من مرّة شعرتُ بأنها كانت تود الالتفات صوب شقيقتها كي تقول لها، «انظري.. لقد رزقني الله بطفلٍ أخيرًا»، لكنها آثرتْ أن تواري مشاعرها المـوغلة في الأنانية خلف قلقها على الجماعة، واكتفتْ فقط بالاعتراف بأنها باتت تشعر بنهاية المسافة المؤدية إلى (اليمن).

 

ربطتني (مونا) في ملاءة قماشية عوضًا عن الخيش، وذلك بعد أن قامت بتنظيف المساحة المحروقة بين فخذيَّ وتخفيف ضغط الخرق المربوطة، ثم سارتْ بي بثبات دون أن تخضخضني أو أن تزيد من أوجاعي، وعلاوة على هذا، كانت تبادر إلى سؤال أهالي القرى التي نعبر بها، نيابة عنّي وعن أمّي؛ كي يمنحونا القليل من الماء والطعام، ولا تتوانى عن إبعاد شبهة الملل عنّي بترديد الأهازيج القديمة، أو بتلقيني بعض الكلمات الأمهرية، بحكم أننا لا نتحدث سوى الأورومية في قريتنا. إنها فعلتْ كل ما في وسعها كي تخففّ عليَّ وطأة السفر، وكي تمنحني شعورًا، ولو مؤقتًا، بالألفة والمودة.

 

أنا أيضًا شعرتُ بالمودة إزاء (مونا)، وكنتُ أهنأ بحميمية الاستناد إلى ظهرها المكتنز باللحم، فهو لا يشبه شيئًا من ظهر أمي ذي العظام الناتئة. كانت تحملني أشواطًا طويلة دون أن يختلّ توازنها، ودون أن تتوقّف برهة كي تنقلني من كتف ضامرة إلى أخرى، فأغدو متيقنًا من أن ظهرها الرخو هو وحده ما جعل علاقتي بها تزداد حميمية، وهو الذي جعلني أزداد قربًا منها رغم أنها كانت المرأة التي اقترحتْ على أمي أن تجتزّ ما تبقى من ذكوريتي، وذلك لما تفحّصتني ذات مرّة لتستعلم عن السبب الذي يجعل الدماء تنزف من بين فخذيَّ، فاكتشفتْ أن عملية إخصائي لم تكن كاملة.

 

«قابلة القرية قد خرجت في هذا السفر معنا». بهذه العبارة البسيطة استفتحت (مونا) حديثها مع أمّي. قالت لها إن مواصلة النزيف ستجعلني عرضةً للموت، وأن عليها أن تقطع (ذلك الشيء) المتدلي أسفل بطني مثلما قطعتْ خصيتيّ، ثم تكوي المنطقة التي بين فخذيّ مجددًا حتى تلتئم جروحي بشكل نهائي، فما كان لأمّي إلا أن تُسلّمني دون تفكير للقابلة بمجرد بلوغنا (عَصَب)، ثم تطلب منها إحالتي إلى صبي يسير بلا عضو ذكري، ويتبول عبر فتحة أمامية.

 

«كل هذا لأجلك يا الله»، هتفتْ أمي وهي تراني أتمدد على الأرض مرّة أخرى.. راقبتني وأنا أتأهب للتحول من مخصي إلى مجبوب، ثم كررتْ هتافها حين ثبتتْ (مونا) كتفيَّ بيديها القويتين، وحين ثبّتتْ شقيقة (مونا) ركبتيّ على الأرض كي تجتزّ القابلة كل ما تبقى من ذكوريتي.

 

ربما لم أخبركم بأنني كنتُ أفكر طوال سفرنا بأن الله لم يكن يستجيب لدعوات أمي لأنها كانت تدعوه بصوتٍ منخفض، لكنني أقسم لكم بأنَّ الله قد سمع صراخي حين غرستْ القابلة سكينها في جسدي للمرة الثانية، أقسم لكم إنه قد سمعني حين توسّلتُ إلى أمّي أن تطلب من القابلة إيقاف سكّينها، فالنصل لم يكن حادًّا، إذ، وبخلاف المرة السابقة، أخذ يروح ويجيء مرّات كثيرة قبل أن يتوقف عن الحركة، لكنّ توسلاتي ذهبت تِباعًا أدراج الريح، ولم يبقَ من بعدها سوى الوجع الذي بدَّد بعنفوانه كل الوعود التي قطعتُها لأمي، ولـ (مونا) أيضًا، بألا أتبرّم داخل نسيج الخيش مجددًا، وألا أرغم المسافرين على التباطؤ في السير، وألا أسأل أحدًا عن السبب الذي يجعلنا نتخلّى عن قريتنا الصغيرة كي نزور الله في بيته البعيد.

 

مجددًا، وجدتُ النصف السفلي من جسدي مدفونًا داخل حفرة تمتد عميقًا في جوف الأرض، وإلى جواري أكوامٌ من التُراب تنمّ عن حجم الفجوة التي حُشر فيها جسدي، لكنّ الأمر جاء أشدّ كارثية هذه المرّة، وأكثر إيلامًا، إذ وبخلاف وجع السكين، وحُرقة الزيت المغلي الذي صبوه بين فخذيّ، لقد غرسوني في مواجهة البحر كي أراقب أطفال قريتنا وهم يلهون مع الموج الثائر قبالة سواحل (عَصَب).

 

كان في وسعي آنذاك ادّعاء القدرة على مغالبة عذابات البتر، لكنني لم أفلح في مراقبة أجساد الأطفال النحيلة السمراء وهي تنغمس بشغبٍ في زُرقة البحر دون أن تنتابني الحسرة لقاء سوء حظّي. ليت الكبار قد أدركوا وقتها أنّ لا شيء يفوق خسارة الرجولة سوى مجاورة البحر دون لمسه، وليتهم بدّلوا أيضًا مكان دفني قبل أن يتركوني أمانة في عهدة (مونا)، وقبل أن يقصدوا أزقة المدينة بغية التزود بمتاع السفر.

 

غابتْ أمّي طوال النهار بعد أن أسندتْ إلى (مونا) مهمّة رعايتي، فأولتني هذه الأخيرة قدرًا كبيرًا من العناية والاهتمام، أخذتْ تمشّط شعري، وتحرق عشبًا عطريًّا أتطيّب به، ثم غسلتْ آثار السفر العالقة بثوبي وثوبها. وما إن فرغتْ (مونا) من تهذيب مظهري، حتى جعلتْ تُبدّد أوجاعي باستحضار القصص والأغنيات الشعبية التي تعرفها، تحكي لي أساطيرًا عن شخصيات عاشت وراء البحار، وتغنّي أهازيجًا كانت تحفظها عن جدتها، لكنني سرعان ما غبتُ عن الوعي، ولم أستيقظ إلا حين جاء صوت أمّي مرّة أخرى.

 

أفقتُ في اليوم التالي على رغبة مُلحة في التبوّل، فوجَّهتُ سيلًا متواصلًا من التوسلات إلى أمّي كي تخرجني من مكاني، لكنها عارضتْ كل مطالبي بحجّة تخوفها من عدم التئام جروحي، ولولا تدخّل (مونا) التي كانت تتصنّع التسكّع على مقربة منّا لما خرجتُ من تلك الحفرة مطلقًا، ولما وجدتُ نفسي بجوار البحر، أكشف عن جروح لم يسترها الإزار الذي جلبته (مونا) كي تواري به جسدي.

 

«لا تدفع ما بداخلك مرّة واحدة»، قالت لي (مونا) وهي تحفر حفرة صغيرة قرب شاطئ البحر كي أتبوّل فيها، ثم ألزمتني جلوس القرفصاء وقبضتْ على إحدى أليتَيَّ؛ ظنًّا منها أن ذلك سيمنحها السيطرة على منسوب البول الذي أخذ يُهدّد بالهرب من فتحتي الأمامية، لكنني أطلقتُ ما بداخلي دفعة واحدة، فعلتُ ذلك عنوة رغم كل الوجع، فارتدَّ قدرٌ كبيرٌ من الدم والبول على جسدي، وأصاب أيضًا طرف قميصها المغسول حديثًا.

 

لقد كان صنيعي ذاك كفيلًا بأن يحرّض (مونا) على التراجع قليلًا نحو الوراء، وضامنًا لأن تعود إليَّ مجددًا كي توبخني، لكنـّها آثرتْ أن تكظم غيظها، وابتلعتْ الحنق كمن تبلع قيئًا مُرًّا، فأنا طفلٌ مبارك، كيف في وسعها أن توبّخني؟

 

قالتْ لي أن غياب (ذلك الشيء) يزيد من صعوبة تصويب البول، لكنها طالبتني بضرورة التأقلم مع الطبيعة الجديدة لجسدي، ولم تفطن مطلقًا إلى أنني كنتُ قد تصرَّفتُ على ذلك النحو عمدًا بهدف إغاظتها. نهضتُ من موضعي كي أراقبها وهي تردم الحفرة التي تبولت فيها ببطن قدمها، ثم حملتني وسارتْ بي صوب البحر كي أغتسل معها.

 

حين وضعتني (مونا) على أعتاب الموجة الأولى، أدركتُ أخيرًا ما معنى أن يثور الماء كي يجري سريعًا ويرتطم بساقيّ. مثل سكّين القابلة، كان الأزرق الأشهب يغادرني حتى يعود إليَّ مجددًا، لكنه، وبخلاف السكين، لم يكن يترك أيّ عذابات من بعده، بل على العكس تمامًا، كان يطبب شيئًا ما بداخلي، ويدفعني إلى صرف النظر عن كل ما لحقني من محاولات أمي المستمرّة لاقتلاع أعضائي واحدًا تلو الآخر. أتحسّس برودته، فيخفف وطأة الموقف عليَّ، ويحملني على الجزم بأنه بات صديقًا مخلصًا لي، على الأقل في هذه المرحلة من رحلتي.

 

من مسافة قريبة، أرى (مونا) وهي تنشغل بغسل الطرف السفلي من قميصها، تزيل بقع البول الذي تقاسمناه مناصفةً، ولكنها لا تزيح أنظارها عنّي مطلقًا، فهي تخشى على جروحي أن يصيبها شيء من ملوحة البحر. كانت تنهرني بصوتٍ عالٍ كلما قطعتُ خطوة إضافية نحو الموج، ولم تشعر بالراحة إلا حين فرغتْ تمامًا من غسل قميصها، وحين جاءتْ تهرول صوبي لتشدّني بساعدي كي تعود بي إلى أمّي.

 

عدتُ إلى أمّي بعد غياب مقتضب لتخبرني بأنها تعتزم الخروج مجددًا للبحث عن الرجل الغريب، إذ إنّه تعهّد لها بالوفاء بأجرة ركوبنا البحر فور وصولنا مدينة (عَصَب)، فقادتني أمي إلى الحفرة بنفسها قبل أن تسند إلى (مونا)، ولمرّة ثانية، مهمّة حراستي من أيما رغبة طارئة بالخروج من الحفرة واللعب مع الموج. قفلتْ أمّي عائدة إلى ضواحي المدينة، ولا أعرف لماذا لم تعد من ذلك المشوار يومها، أو ما الذي قد جعلها تغيب إلى الأبد، إذ وجدتُ نفسي في اليوم التالي مضطرًّا إلى ركوب السنبوك دونها.

 

كنتُ لا أزال أناكف الركاب كي لا يشغلوا الفراغ الذي تركته من أجلها حين دفع ثلاثة شُبّان بالسنبوك كي يطفو على سطح البحر، فكان الوقت ملائمًا بالنسبة إلى (مونا) حتى تنزلق بجواري وتقول لي إنّ أمي لن تسافر معنا، وأنّ ما يحدث هو قَدَر الله، لقد خلقني لكي أكون مباركًا، وينبغي عليَّ أن أنطلق في هذا السفر بمفردي.

 

«إنه تشريفٌ يفوق كل شيء»، قالت لي (مونا) وهي تخبرني بأنّ كل إنسانٍ قد خُلق لسبب ما، أنا مثلًا خُلقتُ كي أذهب إلى (مكّة)، وأمي قد خُلقت حتى تعود مجددًا إلى قريتنا. ربما كانت (مونا) تتصرّف معي بلطف بليغ وقتها حتى تخفي حقيقة الأمر، أن دور أمّي، ومنذ البدء، كان يقتصر على إحضاري إلى مدينة (عَصَب) كي أركب البحر بمفردي، وأنّ أمّي قد تعمَّدتْ عدم توديعي حتى لا أصبح متعنتًا وأرفض ركوب البحر، لكنني عرفتُ هذه الحقيقة بعد سنوات طويلة، وعرفتُ أيضًا أنّ (مونا) هي من تطوعتْ لرعايتي لأن الرجل الذي جاء عشتنا قد تكفل بأجرة ركوبي السنبوك لكنه لم ينطلق في ذلك السفر معنا.

 

كان حجم السنبوك المخادع لا يعكس قدرته على حمل كل تلك الأجساد السوداء بمختلف أوزانها، إلا أن الربّان وضَّح لنا أن السنبوك آمنٌ وشديد التحمل، وأنّه كان يُستخدم سابقًا لنقل العبيد إلى السفن الكبيرة.

 

في ذلك السنبوك، اعتاد تجّار الرقيق أن يطوقوا أيادي الرجال والنساء إلى النواصِي الخشبية البارزة والتي تمتد عرضًا وتستند إلى قواعد السنبوك الخشبية. أما مقاعد الخشب التي جلسنا عليها، والتي لم تكن مريحة بطبيعة الحال، فهي أشبه بمصاطب خشبية لا ترتفع كثيرًا عن باطن المركب، وأعتقد أنها قد صُنعت على ذاك النحو حتى تسمح لقائد السنبوك أن يرى كل الجالسين من فوق منصته بنظرة خاطفة.

 

لقد لزمني الأمر سنوات عديدة من بعد تلك الرحلة كي أكتشف أن أرض (الحبشة) قد قطعها الكثير من الأطفال المخصيين والخائفين مثلي. جميعهم كانوا يُشحنون وفق رغبات أهاليهم، بعيدًا عن الجوع والفقر والفاقة، كي يعبروا البحر إلى (اليمن)، ومن بعد ذلك إلى مكة، فيستيقظون من خيالات طفولتهم، وبفعل التهابات فروجهم؛ كي يتساءلوا ببله عجيب، ما الذي فعلناهُ كي نفقد أعضاءنا. ولعل بعض هؤلاء الأطفال، أو ربما أنا وحدي من رفع رأسه إلى الأعلى، بعيدًا عن دهشة البحر الأزرق، وبعيدًا عن وجع الإخصاء؛ كي أتساءل بسذاجة مفرطة: لماذا ينظر الكبار إلى السماء حين يخاطبون الله مع أنّ بيته يقع في (مكّة)؟

google-playkhamsatmostaqltradent