إدريس الواغيش
الأمين جمال نصراوي، هذا هو اسمه الحقيقي، وليس لامين يامال كما
يُروّج له الإسبان وبعض مُناصري الفرنكوفونية في الداخل والخارج. أصبح اللاعب بين
عشيّة وضحاها حديث الساعة، وهذا أمرٌ طبيعي، لأنّ أغلب النجوم في العالم يعيشون
آخر مشاويرهم الكروية، بدءاً من رونالدو، ميسي، نايمار لوكا مودريتش وغيرهم، فيما مبابي
أبانَ في كثير من المحطات عن صومه التهديفي ومحدودية فاعليته، سواء مع الـ PSG أو مع “الديكة”، وفينيسيوس مع منتخب “السّامبا”
وبيلينجهام لم يظهر تميّزاً يُذكر مع المنتخب الإنجليزي، وبذلك أصبح الطريق
مُعبّداً أمام ظهور نجم جديد لمستقبل كرة القدم، ولكن الضرورة تقتضي أن لا يكون
مغربياً، لأن الحتمية الكروية تلزم أن يكون أوروبياً أو أمريكولاتينياً، وكان من
حظ الأمين جمال أن يكون هذا النجم.
المنطق لا عاطفة له، والغرب يقول بأن العقلية الأوروبية لن تسمح بظهور
موهبة كروية من خارج أراضيها، ولن تمهد الطريق أمامها إعلاميا للمرور إلى
العالمية، ولكن مادام جمال يحمل جنسية إسبانية، فلا ضير في ذلك، ولأنه يعلب كذلك
في نادي أوروبي عالمي مثل برشلونة، فالأمر وارد جدا ومسموح به، ولنا في ذلك زيدان
وبنزيمة نموذجا، ولم يكن ليحصل ذلك بكل تأكيد، لولا أنهما يحملان جنسية فرنسية.
هكذا تدار الكواليس في عالم كرة القدم، عالم الشهرة والمال والأعمال والبيزنس،
عالم تصرف فيه الملايير بسخاء ودون حساب.
في هذا العالم وحده، يمكن أن يمنح ملياردير خليجي ساعات سويسرية مطعمة
بالألماس للاعب مشهور مثل: نايمار رونالدو أو حتى حارسا شهيرا من حجم ياسين بونو،
أو سيارة مرسيديس ثمنها ملايين الدولارات لمجرد أن اللاعب سجل هدفا عاديا أو حارسا
تصدى لضربة جزاء سهلة في الدوريات الخليجية.
في البداية، كانت نية الأب منير نصراوي، وهو يدفع أوراق اعتماد جمال
للحصول على الجنسية إلى السلطات الإسبانية، تقتصر على أن يصبح الصبيّ إسبانيا،
بحكم ازدياده فوق أراضيها، وهذا هو الأهم في بداية الحدوثة. أما دون ذلك، فيبقى
“يامال” بالكتالانية أو “خامال” بالإسبانية مجرد أسامي جاءت لاحقا، والنية في
ثقافتنا المغربية أفضل من العمل، واللاحق يتبع السابق ويحتكم إليه. هكذا كتب القدر
منذ البداية، أن يكون الطفل المغربي جمال استثنائيا في كل شيء، ويخلق جدلا
استثنائيا في الميديا ووسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن يصبح لاعبا مشهورا في
المنتخب الإسباني، وهو لم يتجاوز الـ 17 سنة.
حين ننظر إلى وجه جمال بكل تجرّد، نجده مُفعمًا بالبراءة، عكس أبيه
منير، يحمل نضجا مبكرا يطفو على ملامح وجهه، نضج نسجته تجارب جدته القاسية فاطمة
المغربية مع مِحَن الهجرة، وربما تجربة أمه “شيلا” أيضا، هي التي قد تكون بدورها
في الغالب قد قطعت صحاري وبراري دول الساحل الإفريقي، قبل أن تصل إلى الأراضي
المغربية، وتطأ قدميها قوارب الموت، وتنجح كغيرها في عبور مياه البحر الأبيض
المتوسط المالحة ليلا، كما هو حال أغلب الإفريقيين العابرين من أراضي المغرب، كما
بعض مغاربة المهجر، وأغلبهم سواء مغاربة أو أفارقة عبروا زرقة البحر “حراكة” في
ظلمة الليل.
في كل مرة أرى فيها جمال، أجده يحاول بهدوء أن يخفي نضجا مبكرا يعلو
تعابير وجهه، وهو في ذلك، كأيّ شاب مغربي صغير السن، يعيش على مشارف نهاية عقده
الثاني. والظاهر أن جمال لم يتخلص بعدُ من معالم طفولته، والدليل في ذلك، ابتسامته
العريضة التي تغيّر من جغرافية وجهه، وسحناته الإفريقية الواضحة أمام عدسات
الكاميرات. ولكن هناك سِرّ خفي وراء ذلك يلاحقه، وسؤال بريء يجب طرحه: من أين أتته
كل هذه الطمأنينة والسّكينة والثقة، مرّر كرات حاسمة وسجل هدفا خُرافيا، وهو يلعب
مع مشاهير اللعبة ولاعبين كبار من أمثال مودريتش ورونالدو بدون مركب نقص؟ ويخوض
مقابلة النصف ضد فرنسا بأريحية، ويضمن تأهلا ثمينا مع المنتخب الإسباني إلى
النهائي، ويفوز بالكأس منتصرا على المنتخب الإنجليزي بكل مشاهيره. مرت كل هذه
الأمور بيُسر وسلاسة في الملعب، إن تهديفا أو تمريرا، وهو الأصغر سنا في الفرق
التي لعب ضدها، وأمام أنظار الآلاف من المتفرجين المنبهرين في المدرجات بأدائه
الرجولي في الملعب، وملايين أخرى من العيون في الخارج تراقبه عبر شاشات تلفزيونات
العالم.
وسبحان الرّحمن مُبدّل الشأن والظنّ، نفس ما وقع للمغرب في “الكان
الإيفواري”، بعد خروجه المُبكر، عكس كل التوقعات، يتكرّر بشكل مختلف في “اليورو”
الألماني 2024، وأصبحت صحافة الغرب وكاميراتها وأقلامها تلوك بلدا اسمه المغرب،
حتى وهو في منأى عن “اليورو” وغير معنيّ به. وكثر الحديث بشكل زائد عن بلد اسمه
المغرب، أكثر من إسبانيا المتأهلة إلى النهائي والفائزة به، واختلفت التفاسير حول
أصل اسم جمال، وكيف تحوّل هذا الموهوب الصغير إلى يامال، وتحولت معها “الجيم” إلى
“خاء”، ثم إلى “ياء” في اللغة الإسبانية، وبدأت ألسن بعض السُّفهاء تقول أن المشكل
يعود إلى النطق في اللغة الكتالانية وليس في اللغة الإسبانية، ولكن الجميع متفق في
الصحافة الغربية، كما في نظيراتها العربية، على أن حامل اسم يامال هو مغربي الأصل،
حفيدُ امرأة مغربية أصيلة من شمال المغرب اسمها فاطمة، هاجرت مثل غيرها من
المغربيات، قبل أن يتبعها ابنها منير “الأب” في إطار تجمع عائلي وليس في “الفلوكة”
كما يدّعي البعض، وقبل أن يظهر جمال الحفيد إلى الوجود. أرأيتم كيف حضر المغرب
بجيناته وألوانه في بطولة أمم أوروبا “اليورو”، وهي أعتى بطولات العالم الكروية؟
هكذا أصبح جمال المغربي الأصل، الإسباني الجنسية حديث العالم، وسطع
نجمه في سماوات كبريات القنوات التلفزيونية، وعلى صفحات الجرائد المتخصّصة، مُحطما
بذلك كثير من أرقام النجوم السابقة، حتى أن رونالدو “المسكين”، وبيلينجهام
“الحائر” ومودريتش “الدرويش” ومبابي “التّائه” وغيرهم من نجوم العالم اكتفوا
بحصتهم البسيطة في الإعلام الرياضي العالمي، وانصرفوا إلى حال سبيلهم. وفي
المقابل، بقيت الماكينة الإعلامية تسلط أضوائها على الأمين جمال، وبقي الولد مغربي
القلب إفريقي الهوى، وهو ما آخذه عليه الإسبان، وحين حمل العلم المغربي، بعد
تسجيله هدفه الأسطوري في مرمى الفرنسيين نكاية في فرنسا، وفي المتربّصين به من
اليمين المتطرّف الإسباني، ازداد تطرّفهم وجنّ جُنونهم. وبسبب هذا السلوك طالب
المُتعصّبون في اليمين الإسباني بطرده من المنتخب، بدعوى أنه ليس إسبانيا “خالصا”،
ووصفه البعض منهم بكونه مجرد مغربي “مُرتزق” أغواه المال، واتهمه آخرون بخيانة
إسبانيا، وهو يرفع علم المغرب بلاده الأصلية، كما فعل زياش وبونو وسايس في قطر،
وكما فعلها قبلهم الزاكي والتيمومي وبودربالة في أول ظهور عالمي للجيل الذهبي، بعد
تأهل المغرب إلى دور ال 16 في كأس العالم بالمكسيك 1986.
وما عقد الأمور أكثر، هو حرص جمال على أن تكون جدته فاطمة حاضرة إلى
جانبه أثناء التقاطه الصوّر، أسوة بما فعله كل من حكيمي، زياش وبوفال في مونديال
قطر. وهو أمر طبيعي في ثقافتنا المغربية أولا، وثانيا لأنه قضى معظم طفولته مع
جدته لأبيه، فاطمة التي هاجرت من طنجة إلى إسبانيا، وهي من احتضنته في صغره، كما
تفعل أيّ جدة من الجدات المغربيات الأصيلات، بعد طلاق والده منير النصراوي وشيلا
إيبانا من غينيا الاستوائية. ولكن المسألة عند الإسبان ليست كذلك، فسّروها بما
يرضي أهواءهم، وبأن الجنسية الإسباني لا تعني شيئا عند الموهبة الصاعدة جمال، وأن
ارتباطه بوطنه الأم لم تنقطع، وهو الأصل عنده رغم كل شيء، أما الباقي فهو مُجرّد
تفاصيل صغيرة. هذا هو حال المغرب في المجال الكروي مع الكثير من دول أوروبا، هناك
دائما شدٌّ وجذب، وأصبح المغرب “معذبهم” بتعبير الواصف الرياضي عصام الشوالي.
وأنا كما يظهر لي، وقد يكون نظري قاصرا والله أعلم، أن المسألة أبعد
من تجنيس إسباني للاعب مغربي موهوب في كرة قدم، ولكنها أعمق وأكثر تعقيدا في
باطنها وامتدادها وأبعادها الخفية، عكس ما يبدو من بساطة في ظاهرها. المسألة غير
كروية على الإطلاق، بل يمكن اعتبارها حرب ناعمة بين المغرب وأوروبا، وإسبانيا
مُجرّد طرف وظيفي فيها. الحرب بيننا وبينهم سجال، نال المغرب منهم، فأخذ إبراهيم
دياز، وإبراهيم أعلى شأنا وأكثر موهبة من جمال، وسبق له أن سجّل أهدافا أسطورية مع
ريال مدريد، ولكن لأن جنسيته مغربية، لم يتطرق إليه الإعلام الإسباني والعالمي
بنفس الطريقة. وقبله مال زياش وبنصغير وآخرون إلى قلوبهم واختاروا المغرب، ولكنهم
نالوا مِنّا هذه المرة، فأخذوا لنا الأمين جمال. هذه الحرب الناعمة تخوضها الجارة
الشمالية بالوكالة عن دول أوروبا، وفي مقدمتها فرنسا وبلجيكا وهولندا، وكلها اكتوت
بما يشبه نار الأمين جمال. وقد سبق لنا أن انتزعنا منهم الجوهرة البيضاء بلال
الخنّوس، هو الذي ترك بلجيكا وانحاز إلى المغرب، بالرغم كل الإغراءات، وكذلك فعل
الزلزولي وشادي رياض مع إسبانيا، والفتى الذهبي بنصغير مع فرنسا التي كانت تلح على
ضمّه إلى منتخب الدّيكة، ونفس المسار اتخذه زياش، وسار على دربه إسماعيل صيباري مع
هولاندا. ولذلك، ترى الصحافة الأوروبية أن نجاح إسبانيا في ضم لامين يامال، هو
نجاح فيما فشل فيه الأوروبيون، ويرون في ذلك جميعهم انتصارا على المغرب، بعد
انضمام زياش، حكيمي، امرابط، بوفال، المزراوي والمحمدي وغيرهم في مرحلة أولى إلى
وطنهم الأم، وكلهم ولدوا مثل الأمين جمال في أوروبا، ثم جاءت الهجرة الثانية، تجلت
في قدوم الجيل الثاني المولود في أوروبا، متمثلا في: الزلزولي، بنصغير،
ريتشاردسون، شادي رياض، الخنوس، ابراهيم دياز وآخرون، وانضمامهم إلى المنتخب
الوطني المغربي شكل فشلا ذريعا في سياستهم الكروية، وانتصارا مُبهرا للجامعة
الملكية لكرة القدم.
هناك مفارقات كثيرة في ملف الأمين جمال: عرب يؤيدون المغرب وعجم
يدعمون إسبانيا، غرب مسيحي في مقابل شرق مسلم، الهجرة إلى الشمال في مقابل العودة
إلى الجنوب..إلخ. هكذا ينظر الغرب إلى انضمام الأمين جمال لمنتخب “لاروخا”،
والصحافة الغربية بمختلف مستوياتها تجمع على أن نجاح إسبانيا في ضمّ جمال هو
انتصار للغرب الأوروبي، وقد يفتح الأبواب أمام كثير من اللاعبين الموهوبين
المتردّدين في الاختيار بين بلدان النشأة وبلدهم الأصلي المغرب، كما رأى كثير من
المغاربة أن إقصاء فرنسا من النصف، كان انتقاما لنا من هزيمتنا “المُفبرَكة”
أمامها، وردٌّ على المؤامرة الكروية التي حيكت حول إقصائنا في مونديال قطر بتلك
الطريقة. ويبقى هناك سؤال مهم، لماذا لم يحضر السيد ماكرون إلى نصف النهاية لكي
يشجع فرنسا ضد إسبانيا، كما فعل مع المغرب في قطر؟ هل لأنه كان منشغلا بانتخابات
فرنسا؟ أم لأن أوروبا لا تسمح له باللعب تحت الطاولة في ملاعبها، وأن قانون اللعبة
في “يورو” ألمانيا لا يسمح بما جرى في كواليس قطر. أرأيتم كم هي الأمور مُعقدة،
وليست متعلقة بلاعب مغربي تجنّس في إسبانيا، وخلق الحدث في يورو 2024.
ولكن تبقى مسألة أخرى قد يعاني منها الأمين جمال مستقبلا على الضفتين،
بعض المغاربة يرون في تمثيله منتخب إسبانيا على حساب المغرب خيانة، ورفع العلم
المغربي لن يسقط عنه تهمة ثقيلة مثل هذه، وأن إسبانيا لم تعطه شيئا، لأن الله يهب
لمن يشاء، وأعطى للأمين جمال موهبة ربّانية استثنائية لا تتوفر في غيره، ولو كانت
إسبانيا أعطته الموهبة، عندها ما يناهز الخمسين مليون نسمة، لماذا لم تصنع منهم
عشر مواهب على الأقل مثل جمال؟ فيما يرى آخرون أن اختياره اللعب لإسبانيا حق
مشروع، وجمال أحسن الاختيار، ولم يكن في ذلك خائنا، وأن الخَونة الحقيقيون هم من
يسرقون وينهبون الصناديق المغربية “بالعلّالي”، ويكدّسون أموال الشعب المغربي في
بنوك سويسرا وبَنَمَا، إضافة إلى أن هناك خوَنة مسكوتٌ عنهم، وهي الأدمغة المهاجرة
إلى أوروبا وأمريكا، ومنهم العلماء الأطباء والمهندسون، صرفت عليهم الدولة المغربية
أموالا طائلة، وحين أصبحوا جاهزين، هاجروا المغرب كي يقدموا خدماتهم إلى شعوب تدفع
لهم أكثر. الخونة الحقيقيون للمغرب موجودون في المُقاطعات، الجماعات، المستشفيات
والمؤسسات العمومية الكبرى. ويبقى الأمين جمال الحلقة الأضعف في كل ذلك، ولا يغدو
أن يكون طفلا ولد في إسبانيا، احتضنته مع عائلته، وفيها تم تدريبه وصقل موهبته في
أحسن المدارس الكروية إلى أن أصبح نجما مكتملا قبل الأوان، ولم يفعل سوى أن بادل
إحسانا بإحسان، وأن اختياره اللعب لإسبانيا لن يغير من حبّه للمغرب شيئا، وقد عبّر
جمال عن ذلك بشكل عفوي، وهو يحمل العلم المغربي بعد التأهل إلى النهائي، ويرفعه
بعد حفل التتويج، وقد حصل ذلك أمام الجمهور الإسباني والأوروبي والعالمي، فهل
يُسقط عنه ذلك تهمة الخيانة؟