recent
جديدنا

مسرح العَمَى: الإنسان بين البصر والبصيرة

الصفحة الرئيسية



إدريس سالم

 

جوزيه ساراماغو والعَمَى:

قبل أن أقرأ هذه الرواية، المتعلّقة بعالم العُميان ورؤيتهم وتفاعلهم مع الحياة، عدت مجدّداً إلى عالم الروائي البرتغالي، جوزيه ساراماغو، لأقرأ رائعته «العَمَى»، للمرّة الرابعة في حياتي كقارئ، هذه الفانتازيا الغريبة والتحفة الفنّية، التي تسرد حكاية وباء غامض يصيب إحدى المدن، حيث يُصاب أهلها بالعَمَى بشكل مفاجئ، ممّا يخلق موجة من الذعر والفوضى العارمة بين الناس؛ هو وباء غير مفهوم، ينتقل إلى الآخر بمجرّد النظر، فلا تفسير له ولا علاج، الأمر الذي يؤدّي إلى تدخّل السلطات المستبدّة؛ من أجل السيطرة على الأوضاع.

كتب ساراماغو هذه الرواية، ليس بهدف تشويه سمعة العُميان، بل لإظهار هشاشة الإنسان والمجتمع والسلطة الحاكمة، واستخدام المجاز لإثبات أن الأخلاق الإنسانية هي في نظره على الأقل وهم وسراب، وأنها سوف تتلاشى إلى حدّ كبير إذا انهار الإنسان أمام أيّ ظرف، كبيراً كان أو صغيراً.

 

أحمد خميس ومَسرَح العَمَى:

تسلّط رواية «مسرح العمى»، للروائي السوري، أحمد خميس، الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر، عام 2022، والتي تقع في مائة واثنتين وتسعين صفحة، الضوء على عالم العُميان وعوالمهم الداخلية المطعّمة بالمرارة والأمل والإنسانية، والمرتبطة بقدرات الإنسان الكبيرة في الاستمرار في هذه الحياة، وذلك من خلال أبطال منسجمين ودودين، انقسموا في ثلاث حكايات منفصلة في بداية الرواية ومتّصلة في نهايتها، أيّ هي رواية تقبع داخل رواية أخرى، وحملتِ الاسم ذاته.

 

تتناوب أحداث الرواية بين منطقتين جغرافيتين أجنبيتين، الأولى في حيّ كوينز، التابع لولاية نيويورك في الولايات المتّحدة الأمريكية، والثانية في العاصمة أوسلو بالنرويج، لتصل تفاصيل منها لاحقاً إلى البرازيل وتنتهي بمدينتي شانلي أورفة (رُها) الكردية التركية وكَان الفرنسية، فتغلق آخر صفحات «مسرح العَمَى»، هذه الرواية التي تتناول مضموناً إنسانياً بحتاً، وهو العَمَى، أو إن جاز القول تتناول قصصاً إنسانية متعدّدة، أهونها وأسهلها العَمَى بمعناه الصريح، حيث وزّعت حكاياتها الثلاث بناء على الأمكنة والأزمنة التي أراد لها كاتبها.

 

ثلاث روايات داخل رواية:

فالحكاية الأولى، هي الحكاية الأساسية في العمل، عن مجموعة أصدقاء من أصول عربية، كلّ واحد منهم ينتمي إلى دولة مختلفة، يقيمون في أمريكا، يعشقون المسرح، جمعتهم فكرة تأليف مخطوط أدبي بعنوان «مسرح العَمَى»، وكانوا يطمحون لتقديمه على خشبة مسرح «برودواي»، تجمعهم الصداقة والمحبّة وتحدّيات حياة نفسية متعبة يعانون منها.

فالشابّة الأردنية (سارة شاكرجي)، تعاني مشاكل مع والدها الطيّار، أما (غازي الرزّ)، السوداني المصاب بداء السكري، والذي فَقَد على إثرها قدماً له استبدلها بساق صناعية، والقارئ السوري الفذّ (عطا الدرّاب)، والذي حرمه والده من ذاكرة جميلة؛ إذ أخفى عليه سرّ وفاة والدته (جُهينة).

يعتبر عطا الشخصية الرئيسية في العمل؛ فخيوط الأحداث والقصص المتفرّقة في البداية تجتمع عنده في النهاية، وأيضاً ابن يوحنا (بطرس وهبي) اللبناني، الهارب مع والده من الحرب الأهلية، والذي علّمه أن الوطن الحقيقي مسلوب من قذارة السياسيين، وصانعي الحروب، وأخيراً المصري (نوح رمضان) أو (آبل) كما يسمّونه، القابع دائماً في شاشة هاتفه.

 

والحكاية الثانية، ، فهي قصّة يونس وخاطرة في «مسرح العَمَى»، فيونس شابّ مكفوف، يعيش مع والديه في مزرعة ريفية, تجمعه الصدفة بخاطرة، الفتاة التي مات والدها وتخلّت عنها والدتها وتركتها وحيدة في هذه الأرض المقطوعة, فيتعاطف معها أبو يونس ويدعوها للعيش معهم, فتوافق على ذلك, ومع مرور الأيّام تعيش قصّة حبّ بريئة ومجنونة مع يونس, والذي يتزوّجها بعد وفاة والدته، حيث يقوم والده بطلب يدها عروساً له, فتنتهي قصّتهما في ليلة العرس, إذ يمتطيان الحصان أدهم، ويطيران في فضاء الغابة الرحب.

 

أما الحكاية الثالثة، هي قصّة المكفوف (حسن غالي)، المقيم في النرويج، والمتخصّص في علوم اللغة العربية، يعمل مدقّقاً ومحرّراً لغوياً، في دار جُهينة للنشر والتوزيع، يرى أن «العَمَى نافذةٌ إلى عالمٍ مختلفٍ عن هذا العالمِ المليءِ بالضجيج, إنه صمتٌ صاخبٌ وصخبٌ صامتٌ وتجديفٌ أبديٌّ في بحرٍ داكنٍ». هو رجل مثقّف ذو معرفة عالية، يحظى بإعجاب موظّفي الدار، وخاصة (ماري)، التي تحبّه وتتزوّج به في النهاية, فهي لشدّة اندهاشها بقوّته وبراعته في إدارة ظروفه وشؤونه, تقول له: «لولا أني متأكّدةٌ أنك أعمى، لقلْتُ إنك تبصرُ أكثرَ مني». وبحكم قدرات الروائي اللغوية وحبكته الدرامية المحكمة، تصل رواية أو مسرحية أولئك الفتية إليه، الرواية التي تأثّر بها، فسافر في أول طائرة إلى نيويورك، ليتعرّف على كتّابها ويشكرهم وجهاً لوجه، ويتعاون معهم على إكمال مشروعهم.

 

بين عُميان جوزيه ساراماغو، الذين عانوا العَمَى الحسّي، وعُميان أحمد خميس، الذين عانوا العَمَى المعنوي، يكشف العَمَى حقيقة انهيار الإنسان أمام المصاعب والتحدّيات والانكسارات الداخلية، وانهيار منظومة الحياة الأخلاقية والنفسية والتربوية والاجتماعية، وفساد وعنف المؤسّسات الحكومية وغير الحكومية. كما يمكننا القول، أن كلا الروائيين تطرّقا إلى العَمَى الحسّي والمعنوي معاً، إلا أن الفارق بينهما، يكمن في أن ساراماغو طرح فكرة العَمَى الفكري لدى الإنسان, بسبب هشاشة الأخلاق أمام حاجاته ورغباته, فيقول: «لا أعتقد أننا عُمينا، بل أعتقد أننا عُميان، عُميان يرون، بشر عُميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون»، فيما خميس تناول العَمى الذاتي، الذي عانى منه كلّ شخصيات حكاياته الثلاث، حيث يقول في الصفحة السادسة والخمسين على لسان عطا: «العَمَى هو أن لا تعرف مَن أنت، أن لا تبصر داخلك وتغور عميقاً في نفسك».

 

«مسرح العَمَى»، هي رواية عن المكفوفين، بطلها الرئيسي مكفوف، وأبطالها الآخرون مكفوفون. مكفوفون يقودون مكفوفين آخرين، ومكفوفون يمنحون الحياة لمكفوفين فقدوا شغفها، (يانس كلوفر) غير المكفوف يقود فتيان مكفوفين، (حسن غالي) المكفوف يقود دار نشر مكفوفة، والشاب الصغير المكفوف (يونس) يركل حياة مكفوفة برمّتها، بصحبة فتاة يتيمة (خاطرة) مكفوفة، كلّ ذلك في سبيل حياة كريمة مسالمة وآمنة، تقودهم جميعاً نحو شيء جميل وغريب ومبصر، حيث يقول الكاتب في روايته: «العَمَى هو ألا تعرفَ مَن أنت، أن لا تبصرَ داخلَك وتغورَ عميقاً في نفسِك»، ويقول في الصفحة السادسة والستين: «العَمَى مقاومةُ الحياةِ بصوتٍ مرتفعٍ»، ويكمل في صفحات أخرى: «العَمَى نافذةٌ إلى عالمٍ مختلفٍ عن هذا العالمِ المليءِ بالضجيج، إنه صمتٌ صاخبٌ وصخبٌ صامتٌ وتجديفلإ أبديٌّ في بحرٍ داكنٍ».

 

رواية «مسرح العَمَى»، هو أن تدرك أن البصيرة أفضل من البصر، هو أن تصنع لحظات من العَمَى وتعيشها لفترة قصيرة، وستتمكّن من رؤية تفاصيل دقيقة من حياتك بشكل أفضل، تساعدك في التعايش مع نقائصك الذاتية وعاهاتك وعيوبك الجسدية بشكل مسالم وآمن.

 


google-playkhamsatmostaqltradent