جان بابير
هناك، حيث للعشب سيقان فضية، والقبرات
تنقر أرض طفولتي بأصوات أشبه بصوت الأجراس. في ليالي الصيف المقمرة، التي ينحر
هدوءها صوت الجنادب والضفادع القادمة من جهة ساقية الماء، تلك الأوقات كانت تنصب
لي الفخاخ لتصطاد قبرات لوعتي. ما بقي من عمري وُضع في مقلاع، لوّحوا بي طويلاً ثم
رموني دون أن أصيب الهدف.
نهداها الرعويان كانا أشهى وألذّ من كل
البطيخ الذي سرقناه من بستان حم جولق؛ نهداها كانا كشمامين من بستانه البعل. الآن،
تنهض في ذاكرتي كل تلك الأوقات التي مرّت وتركت سياط سنينها على الجسد. تستيقظ كل
الشهوات فيّ عندما أسير في خيالي خلفاً إلى السطر الأول أمسك بيديها وأقبّلها، في
السطر الثاني أعانق الخاتمة فيها، وأودعني في ذلك الوقت قبل أن تغار منا جارتنا
السمينة هدلو، تلك التي كانت لها نهدان متدليان حتى الخصر.
تلك القرى البعيدة لم تكن تعرف
السوتيان. أما هي، فقد كانت تخرج من بين نهديها الشمام، تمنحني إياه لأكثر من شهر.
كنت أشمه في الليل وفي النهار، أفتح كيس الطحين وأضعه تحته هناك. إلى أن عثر عليه
أخي، وأمام عيني، أكل ذلك الشمام. شعرت بأن كل قضمة من أسنانه تأكل قلبي.
هي كانت القصيدة الأولى، والأنثى
الأولى، التي كلما شممت الشمام تذكرت نهديها. كلما مرت في ذاكرتي ينمو حقل القطن،
استعدت خطى قدميها الحافية التي سكنت قلبي. كانت كل فتيات القرية يغارون منها: من
فستانها، من مشيتها، من رائحة الشمام والقطن التي تفوح منها. لم تتعثر خطواتي في
الطريق إليها ليلاً. غرفة المؤن كانت مرتعنا؛ كل منا كان يأخذ من جسد الآخر قبلات
لزوادة شتاء آخر.
لكن مرّ الصيف، ورحلت الجنادب، وهي
أيضاً رحلت. حين غادرت السيارة التي تحمل عفش بيتهم، وهي متمسكة بشبك الحديد من
الخلف، ركض قلبي خلفها. غادرت عيني الدموع، وشعرت بأن قلبي توقف. تمرغت في وحدتي.
لي ماض كالقديسين، وحاضر كالمنهزمين، ومستقبل كمذنبين. حصلنا أنا وإياها على
فرصنا، خبأ القطن وقصب القنب قبلاتنا عن المارة، وعن هدلو، وعن حم جولق. خبأت وجهي
بيديها، وقبّلتها في عشر دقائق قبل الوداع، بحجم عمر كامل. آه، يا لوجنتيها الناعمتين
كملمس القطن. لم نتحدث، لكن شفاهنا نطقت بالكثير. طالت القبلة، وصلت شفاهي وخُلقي
وجلّ أعضائي. همس الوقت، وتحرّكت، وتركنا القبل منسية في غرفة المؤن. خرجت من
جسدينا قصائد وجداول صغيرة.
كنا مراهقين على تخوم سنيننا، نتصرف
بحماقة. خبأت طيشنا والكلام والقبلة في حقيبة ذاكرتي مع رائحتها، رائحة الشمام
تلك، الشاهد الأكيد لحبنا الغرّ. لا داعي أن أذكر اسمها الآن؛ لقد أصبحت جدة.
اسمها كان شبيهاً بالنعناع والحب، واسمها كقرية تسكن قلبي. يتورم موضع يدها على
جسدي حتى الآن، بعد خمس وثلاثين سنة. ما زال الشمام والقطن ينبتان في حقول ذاكرتي،
وما زالت القبرات تكرج، ويداهمني ليلاً صوت الجنادب. لن يغادرني الوجع.
الرغبات تجعل من الذاكرة قرباناً يُذبح
على أقدام الفراق. منذ ذلك الوقت، اشتريت أكفاناً لا تُحصى لجثث أحلامي، مئات
قناني الخمرة سكبتها داخلي، وآلاف السجائر أطفأتها في منفضة الليل. يا لشمعة قلبي
التي لا تنطفئ مهما نفخوا عليها. هذا العمر شجرة عارية أمام الريح، يتنهّد أمام
الصباحات وفلاحات يشمرن عن سيقانهن ويعبرن ماء الوقت. الجنادب تصمت مع الضوء، وأنا
أسرق اللحظات من ماض بعيد يقف بكل غروره ومراهقته أمامي. تضيق مناجاتي، ويسقط علي
الوقت جداراً بعد جدار.
أنا الذي رضع حليباً بطعم «القنيبر والكرنك»، وجدتني بعد كل هذا الوقت مثل كرسي
مهمل، وحيد. يوماً ما، سيذهب صوتي، ويتوجه إلى جهتها في مكان ما، ويبارك عمرها
الخمسيني. سأمسك بيدي أحفادها، القصائد، وألعب معهم لعبة الذاكرة، وأحيي فيها امرأة
من النعناع، وهي تجلس على فراش وثير من الخراب. أهش عليها، ليطير قلبها كقبرة في
العراء.
لا يمنحنا التراب حباً لتنمو أشجار
القبل أو نستجدي من غيمة المطر. ألم تكن تلك المرأة تحب هطول المطر؟ لم يكن لوقت
غرفة المؤن باب لأغلقه على أحاديثنا. ثم أضع ضحكتها الخمسينية بين يدي، وأخطفها من
الحلم. أعلم كم من دنان الرغبة كُسرت وهُدر ماؤها على تلك الأرض المطاردة. أنتِ ما
زلتِ تلك الصبية في حقل القطن، أرتكب كل الحماقات في ذاكرتي وأستحضرك إلى وقتي
هذا. لم أنسَ يوماً الاتجاه.
أجلبك إلى مائدتي، وأجلس معك على طاولة
واحدة، نستدرج الهمس، وأتقاسم معك أرغفة الوقت وزيتون المعنى. رغم السنين والمدن
التي تفصلنا، نكون معاً تحت عنوان الانتظار، ونروي حكايات الشغف. بنفس اللهفة
القديمة، تنبت الأغاني على المائدة بيننا، نلهث بنا. كيف لي أن أخاطب غيابك،
فتخرجين إليّ من كأس قلبي، وتجلسين معي، تاركة رواسب الحديث في قعر كأس الوقت.
أهذا أنا أم أنتِ التي تسكنين هذه الأسطر؟ هي ذاكرتي التي دونتها نقية وبيضاء كالقطن.
أسمع صوت حم جولق وهو يشتم: «يا أولاد الكلبة، لماذا تسرقون بستاني؟». أشم من نصي رائحة امرأة بطعم الزعتر
والشمام.