recent
جديدنا

«غصن على متن السراب» لـ نوجين قدّو

الصفحة الرئيسية


  

وراء نافذة مكسورة الزجاج، ظلّت تيا في حضرة الانتظار، في حوزة الانطفاء يوماً بعد يوم، كان بكاء ابنها المتواصل الدليل الذي يُنبّأ حدسها بمطبّات الأوجاع المنتظرة. ها قد مرّ شهر، اثنان، وآرام يعاني أقسى ويلات العذاب، بلا أيّ جرم أو سبب، فقط ذنبه أنه كان ابن أرضه ووطنه المكبّل في مرمى العذابات والصفقات الكبرى. أمام عينيه كان الشباب أمثاله، يلقون التُهم الباطلة على إخوانهم، أشقّائهم وجيرانهم من ذات الأرض، ذات النبع الذي روت عطشهم، ذات المحصول والطعام الذي درأ عنهم جوعهم وحاجتهم. هؤلاء أبناء الأرض الواحدة، لفّقوا كلاماً جرى وكثيره ما لم يجرِ على بعضهم ليحظوا بحرّيتهم. كانوا يتبرّؤون من أرضهم ودارهم ومبادئهم من أجل الفرار بروحهم، وهذا التشتّت، الانفكاك والتطرّف في صفوف الشعب، كان غاية العدوان ومبتغاه.

     تحمّل آرام الشقاء مبتورَ الأمل بالخلاص، ينسج الأحلام في ركنه الضئيل، لا يرى أمامه فيها سوى طيف دارا يلاعبه، يحتضنه، يشتمه، ولا يكتفي. يستفيق على دعابات الخيالات الرمادية معه فيبكي، يبكي حسرة وألماً، لمَلم يقبّله أكثر، لم يشتم رائحة الدفء بين ذراعيه، يُشبع ناظريه من تفاصيل وجهه الملائكية أكثر. تُغسل حسراته كلّ يوم بعدد المرّات، التي يُجلد فيها، مع كلّ سؤال لكمة تنغرس في معدته، تقطّع من صلابة أمعائه. مع كلّ إجابة منه صفعة من مقابض حديدية تهوي به نازفاً، تحشر رأسه في جوف أحد الجدران الأربعة، «مَن أنت؟ ما هو دينك؟ وما هي أركان الإسلام؟ كم عدد ركعات الصلوات الخمسة فرضاً وسنّة؟ اعترفْ أنك عميل سابق؟ أجل! نملك أرشيف المنطقة، ولا داعي للنفاق والالتفاف وراء الأقوال، التي لن تنفعك هنا...»، والمزيد من الأسئلة، الكثير من البصقات في وجه الضعف، وعدد لا يُحصى من الضربات والتأوّهات جراء كلّ منها، حتى ينهزم راكعاً، ومن ثم ساجداً على ركبتيه، تحت سطوة الألم، الذي يزيده بكماً فوق بكمه.

     ما الجواب الذي يمكنه التعلّق به كحبل نجاة أمام وابل من الاتّهامات الباطلة، التي لا يعرف عنها شيء سوى نفيها؟ راح فاقداً كلّ الأحاسيس، محكوم النظر إلى فجوة القبر، يترقّب مصيره على عدّة خُطى منه فحسب، يمقت نفسه، التي ترجمَتِ الصواب بمفهوم لم يتناسق مع زمانه. يفتّش عن السوء في ذاته، ويحفظ في أرشيف ذاكرته أقبح المشاهد، التي عاشها مثقلاً بالقيود والأغلال، والتي بإمكانها ولو أراد نسف تاريخه. ويتوعّد الظلم الذي أصابه بإنسان جديد لا يشبهه، مختلف عن نسخته المحطّمة تلك، أن يردّ له الألم الذي تجرّعه أضعافاً. طال به أنين الاحتضار، وطالت بها آهاتها النازفة يوماً بعد يوم ولم يأتِ بعد، لم تُطرق في كنائس انتظاراتها، في فضاء الأزل أجراس الميعاد.

     ليُقبل عليها صباح غابر، لولبي الرياح، ترتدي فيه تيا عباءتها، تتلحّف بشال أسودَ اللون، وتحمل ابنها وتذهب لتواجه أوّل مَن يظهر في طريقها من العناصر المسلّحة المسيطرة على القرية، طلباً وتوسّلاً بالإشفاق على حالها والإفراج عن زوجها. إنه فتيل الصبر الأخير خبا في الفؤاد، يبعث دخانه الظلام الحالك من حولها، كان انفجاراً نفسياً أرعن المصاب، «فليحدث أيّاً كان، سأذهب إليهم على أقدامي، سأتفوّق على خُطى الخوف والفزع، عندما أبلغ الطريق إليهم حثالة الأقوام...». هكذا كانت تردّد في نفسها أثناء خروجها.

     حاول مَن حولها منعها، خشية مصيبة أكبر، ولكنها لم تعد تعي شيئاً، فقد أصرّت على الذهاب والمطالبة بإطلاق سراح زوجها المعتقل ظلماً، وإذ بها بعد مسافة قصيرة تصل إليهم. بكلّ ما حملته من أسى بكت تيا، أفصح الدمع عن آلامها وأوجاعها، نسيت مَن هم، نسيت أن تخاف، أو ترتبك، أو تكون حريصة أكثر في انتقاء كلماتها، بشجاعة الفقد أجهرت عن معاناتها، تناديهم بحقّ الضمير والإنسانية، بحقّ الإله الواحد، راجية العطف والرحمة.

     ما من مأوى تحتمي فيه من مرارة الأيّام وانقلابها ضدّها، يهون عليها كربها ولم يعد لها سند سوى زوجها التائه عنها في أنفاق ظلمهم وجبروتهم. طالت بها المناجاة، دقّت طويلاً على أبواب رأفة أفئدتهم المكسوّة حجاراً وصخوراً. ودارا يبكي بين ذراعيها من الرعب البارز في أشكالهم وقذارة النفس فيهم، لا شيء سوى الذعر سلطان، جعلوا الطفل يبكي دون أن يعمدوا، بقيح الفزع الذي أفرزته قلوبهم، والتي تكلّست بإسفلت الشرور. أجابوها بالتمهّل بكلّ برود، وعدوها أن يتابعوا أمر زوجها، وعليها ألا تقلق فهم يبحثون عن أمان الشعب والسلام، وهذه ترتيبات روتينية، وبلا شكّ زوجها عندهم في أمان!

     عادت تيا إلى ديار الذلّ مرّة أخرى، هزيلة الحال، بوعودٍ وأقاويل تعرف تماماً أنها كاذبة، فقط ارتمت على باب نافذتها تفتحه، تسحب الأنفاس إلى جوفها بصعوبة الألم، يتشقّق الشرخ في صدرها، تتعمّق فجوته أثناء كلّ شهيق وزفير، تغطّي وجهها بين راحتيها، وتجهش بالبكاء. كانت ليالي المأساة تزحف ثقيلة، والأنفاس تنتظر في المحطّة الأخيرة، ما بين البكاء والصبر ونفاذه. ففي إحدى الأمسيات التي أطبقت بسوادها على صدرها، التقطت تيا إحدى الأوراق المنسية في الدروج وقلماً، حاولت أن تفضي بذلك عن بعض ما يختلج قلبها فكتبت:

«لست أدري آرام، هل سينتشلني قطار الموت من بين زِحام الوجع هنا، أم كنْتَ أنتَ أوّل الراكبين، وسبقتني؟! في أيّامنا هذه، أصبحنا نضع أحلامنا في قوارير نحكم إغلاقها، ونقذفها في بحار الزمان، عسى أحلامنا تلك يوماً ما تكون من نصيب غيرنا، فتتحقّق لهم، ومَن نحن سوى أرقاماً في عدّادات ذاك القطار، منّا مسافرين في رحلتهم الأخيرة، ومنّا القليل الناجين.

     ومَن يدري آرام روحي، امنحْني من الصبر والسكينة في معنى اسمك، حتى أبقى صامدة، ريثما يصدر الحكم علينا من قبل الأقدار مجدّداً. لربّما يتناسى وجودنا ذاك القطار، فلا يصطحبنا معه، ننجو وابننا دارا، نعيد له السعادة، ونلوذ فارّين بالانتصار.

     آرامي، زوجي، عزيزي، وأبا ولدي... فقط أريد أن أخبرك، كم سحقتني الأوجاع إثر غيابك! كم طالت بي وحدتي حتى طوّقتني، فخنقتني! فلطالما كنتما أنت ودارا لقلبي الحياة، وهي الروح مُذ غبْتَ، غابَتْ عن وعيها، حسبها أن تهذي باسمك، تناديك، تناجي الإله ألا سواك اتّكاء ظهري من بعده تعالى، فليحفظك، وليُبدّل شقاء القلب نوراً وفوانيسَ وِصال.

     سلبوك منّا عنوة، وَهَمّ أهلي، سندي المهزوم وراء ستائر الغربة، فقدْتُهم أوّلاً عزيزي، فغدوْتَ أنت دائي ودوائي. تمسّكنا بقرارنا بالصمود سوياً. ولكنّ البقاء في دفء الوطن، انقلب علينا برداً، زمهريراً، صار الدفء أمنية، والأمان حُلم يرافق غفواتنا. واليوم بعد أن تقاسمنا خبز المقاومة نحن الضحايا، بات هنالك مَن يُتاجر بمأساتنا على المحطّات التلفزيونية، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومَن يجعل منها بيعة مربحة، ولقمة سهلة المضغ والانتفاع، صرنا كُرة يسدّدون ضرباتها بأقدامهم، وفي أهدافهم وملاعبهم، أجل! لقد نالوا منّا، وأصابونا في قلوبنا مباشرة. فما أشدّ إسقاط القذائف على قلبي في كلّ لحظة غبْتَها عني، وتركْتَني أُنهَش بين هؤلاء الوحوش البشرية، ذاتهم خالعي الأقنعة والوجوه، فكانت حروبنا النفسية أشدّ سخطاً على القلب من كلّ الدمار، الذي حصل من حولنا.

     آرامَ قلبي، نبضي المقسوم بينك وبين ابنك... رجائي أن تكون بخير، ألا يطول الميعاد، حسبي عزيزي بالدعاء والمناجاة، على أطلال صبري الأخير».

 

google-playkhamsatmostaqltradent