recent
جديدنا

الصداقة تأمّلات في الحضور والغياب

الصفحة الرئيسية


 

إدريس سالم

 

لم يعدِ الإنسان في حاجة إلى الزحام، ولا إلى أصوات تحيط به، لتذكّره أنه غير وحيد؛ الوحشة الحقيقية لا تأتي من الغياب، إنها تأت من الحضور الفارغ، من الوجوه التي لا تشبه القلب، ومن الكلمات التي تمرّ على الروح كريحٍ باردة في ليل بلا دفء. في النهاية، لا نحتاج سوى أولئك الذين، تصبح الحياة أخفّ حين يمرّون في مدارها، الذين يُربّتون على تعبك بصمتهم، ويمنحونك طمأنينة الحضور لا صخبه. هم القليل الذي يُغني عن الكثرة، الظلّ الذي يحميك من وهج الأيّام، النور الذي لا يبهت مهما ابتعد.

هؤلاء حين يحبّونك، لا يحبّونك لأنك معهم، هم يحبّونك لأنك أنت، كما أنت. حبّهم عميق كجذور شجرة تعرف طريقها إلى الماء، لا تهزّه المسافات، ولا تنقصه الأيّام. وإن غابوا، يظلّون مطبوعين على أطراف الذاكرة، كأصابع اليد الواحدة، لا يزيدون، ولا يُنقصون، لكنهم يكفون لتتّزن بك وبهم الحياة.

 

الصداقة، رابطة إنسانية، تتأسّس على الاعتراف المتبادل بين الذوات، وتُفهم بوصفها ممارسة أخلاقية ووجودية في آن واحد. إنها أسمى منافع الحياة؛ فقد وصفها أرسطو بأنها «روح واحدة في جسدين». امتداد للعقل، وانسجام مع الطبيعة، واختبار للصدق يفضح الزيف ويفضّل العداوة الصريحة على المواربة. علاقة حرّة، هشّة، لكنها قادرة على أن تمنح للحياة معنى في مواجهة العزلة والعبث. وبهذا المعنى الفلسفي، تتخطّى الصداقة كونها ترفاً اجتماعياً، لتغدو شرطاً من شروط اختبار الإنسان لذاته وإدراكه لإنسانيته.

الصداقة مرآة، نرى فيها ذواتنا بصفاء نادر، من دون أقنعة ولا تزييف. كل فيلسوف اقترب منها بطريقته: أرسطو رآها «فضيلة»، تُشبه الخير الذي لا يذبل، أفلاطون جعلها «رحلة مشتركة» نحو «الحقيقة»، نيتشه صرخ فيها بأن الصديق «مَن يجرؤ أن يعرّينا من أوهامنا»، أما الوجوديون، فقد وجدوا فيها «ملاذاً هشّاً» من عبث الحياة.

لكن، رغم اختلاف الرؤى، يظل جوهرها واحداً، أن يمدّ إنسان يده إلى إنسان آخر، لا ليكمّل نقصاً فحسب، وإنما أيضاً ليُثبت أن الوجود يتّسع لأكثر من ذات واحدة. لأن الحياة هي الخيط الخفي، الذي يشدّ أرواحنا إلى بعضها، وذكّرنا أننا لسنا وحدنا في هذا العالم، مهما اشتدّ الغياب، أو توغّل الصمت.

 

تُعدّ الصداقة من أعمق الظواهر الإنسانية التي رافقت الإنسان منذ فجر وعيه بذاته وبالآخر. فهي ليست مجرّد علاقة اجتماعية تُبنى على التآلف أو المصالح المشتركة، بل تجربة وجودية تعكس جوهر الإنسان في بحثه الدائم عن المعنى، والصدق، والانتماء. فحين يمدّ الإنسان يده إلى آخر، لا يفعل ذلك ليملأ فراغاً عاطفياً فحسب، بل ليؤكّد حضوره في هذا العالم بوصفه كائناً قادراً على المشاركة، على العطاء، وعلى التجلّي في الآخر دون أن يفقد ذاته.

 

لقد تناول الفلاسفة الصداقة بوصفها فضيلة أخلاقية، وجسراً بين الذات والعالم. فهي الامتحان الحقيقي للحرّية؛ لأن الصديق هو مَن نختاره بإرادتنا، لا تفرضه علينا رابطة دم أو قانون أو مصلحة. من هنا، تتجاوز الصداقة مفهومها التقليدي، لتصبح شكلاً من أشكال «المسؤولية الوجودية»؛ مسؤولية أن نرى في الآخر مرآة تعيدنا إلى ذواتنا، وأن نجرؤ من خلالها على مواجهة ضعفنا الإنساني دون خوف أو تزييف.

لكنّ هذا المعنى الرفيع يتعرّض اليوم لتحدٍّ قاسٍ في عصر الفردانية والاتّصال السريع، حيث صارتِ العلاقات تُختصر في رموز وشاشات، وتُقاس بالمتابعين والإعجابات أكثر مما تُقاس بالصدق والوفاء. في هذا العالم المتسارع، تبدو الصداقة الحقيقية فعلَ مقاومة للسطحية، ونافذة صغيرة على إنسانيتنا المنهكة.

ومن هنا، تصبح مناقشة مفهوم الصداقة أكثر من مجرّد حديث عن علاقات بشرية، وأيضاً تكون عن ماهية الإنسان نفسه: هل لا يزال قادراً على الإخلاص؟ على الحضور؟ على الإصغاء؟ وهل يمكن للإنسان أن يكون صديقاً لنفسه، قبل أن يكون صديقاً لغيره؟

إن الأسئلة التي يثيرها هذه المناقشة الحوارية، بما تحملها من تعدّد في الأصوات والرؤى، تضعنا أمام مفترق فلسفي وأخلاقي، بين صداقة الروح وصداقة المصلحة، بين العزلة والاتّحاد، بين الحاجة إلى الآخر والاكتمال بالذات. إنها رحلة بحث عن معنى الصداقة، في زمن يعيد تعريف الإنسان وعلاقاته من جديد.

 

 


سارين مروان عيسى «مدوّنة كوردية، تتقن اللغات الكوردية والإنكليزية والعربية»:

إذا لم تجد مَن يسأل عنك أو يواسيك، فهنا تتجلّى «صداقة النفس»، أن تكون لنفسك سنداً وقت الوحدة، وأن تعتني بروحك حتى في غياب الآخرين، لكن هذا لا يلغي خيبة الأمل، بل يذكّرنا بأن العلاقات البشرية ليست مثالية دائماً، وأن الصديق الحقيقي – كما قال أرسطو – نادر؛ لأنه «روح واحدة في جسدين». وهنا نعيد تقييم العلاقة، ونسأل أنفسنا:

– هل الصداقة الحقيقية، هي وجود شخص بجوارنا، أم تعتبرين أن الأمر هو بالعثور على مرآة، نرى فيها ذواتنا من دون قناع ولا خوف؟ أيوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية والاستهلاك؟

بالنسبة لي... لم تكنِ الصداقة يوماً في العدد أو الحضور الجسدي، بل في ذلك التوافق النادر، الذي يجعلني أشعر أن روحي تُفهم دون شرح. لم أجد هذا في جيلي للأسف، فكنت أرى المسافات النفسية أكبر من الأعمار. ربما لأن النضج المبكّر جعلني أبحث عن عمق لا يسكن عادة في أعمار متقاربة. لذلك أرى أن الصديق ليس مَن يجلس بقربي، بل مَن يلتقي بروحي في العمق الداخلي ذاته، مَن يعيدني إلى كينونتي وذاتي بالتجانس الروحي. إن الصداقة الحقيقية هي أن أجد في أحدهم مرآة تُعيد إليّ وجهي كما هو، لا كما يريد أن يراه العالم. لهذا أُفضّل الوحدة على الوجود المزيّف، وأُقدّر الصدق أكثر من القرب.

 

– إلى أيّ مدى تُعَدُّ صداقة الإنسان مع نفسه شرطاً سابقاً لإمكان تكوين صداقات حقيقية مع الآخرين؟

أعتقد أن مَن مثلي – مَن لم يجد انسجاماً مع محيطه منذ البدايات – يُضطرّ أن يُكوّن علاقة متينة مع ذاته قبل أيّ أحد. لم تكن صداقة النفس خياراً، بل ضرورة بقاء. حين يغيب التفاهم من الخارج، يصبح الداخل هو الملجأ الوحيد. مع الوقت، تعلّمت أن أصغي إلى نفسي كما كنت أتمنّى أن يُصغي لي الآخرون، أن أُهدّئها حين تضطرب، أن أهديها الحبّ، وأُذكّرها بأنها ليست غريبة كما تظنّ، وإنما مختلفة فحسب. ومن هنا، صرت أرى أن أيّ صداقة حقيقية تبدأ من هذه المصالحة العميقة مع الذات... أن أكون رفيقة نفسي أولاً، حتى لا أبحث عن تعويض في الآخرين. فالعلاقات التي تُبنى على الحاجة لا تدوم، أمّا تلك التي تنبع من الاكتفاء، فهي التي تمنحك حرّية الاختيار لا خوف الفقد.

 

– أيكفي وعي المرء بعيوبه لتأسيس صداقة مع ذاته، أم أن قبول هذه العيوب والتصالح معها يمثّل شرطاً أعمق لهذه الصداقة؟

أنا من الذين يرون أن الوعي بالعيوب مؤلم بقدر ما هو ضروري. فقد وعيت مبكّراً أن فيَّ حساسية زائدة، ووحدة فكرية تجعلني مختلفة، وصعوبة في التكيّف مع السطحية، التي تحكم الكثير من العلاقات. لوقت طويل كنت أرى هذه الصفات عبئاً، حتى أدركت أنها جزء من بصمتي النفسية. القبول لا يعني الرضا السلبي، بل أن أرى نفسي بصدق دون أن أكرهها... حين تصالحت مع ضعفي، لم أعد أُخفيه أو أراه ضباباً معتماً في نفسي، بل احتضنته كما يُحتضن طفل خائف. عندها فقط شعرت بأنني صرت أقرب إلى نفسي.

 

– كيف نعتبر الصداقة مع الذات أسمى من الصداقة مع الآخر، أم أن المعنى الإنساني الكامل للصداقة لا يكتمل إلا بتلازم البعدين الداخلي والخارجي؟

أظنّ أن مَن عاش مثلي مسافات طويلة بينه وبين محيطه، يكتشف أن الصداقة مع الذات هي طوق النجاة الأول. لكنها رغم سموّها، لا تُغنينا تماماً عن دفء الآخر. الصداقة مع النفس تمنحنا الاتّزان، وتفتح لنا باب فهم الذات والسلام الداخلي، لكنها لا تُعلّمنا التبادل؛ ذلك الشعور النادر بأن أحدهم يرافقك ويشاركك درب الحياة. ربما لذلك ظلّ في داخلي حنين إلى «الآخر الناضج»، الذي لا يملأ فراغي، بل يُشارك ضوئي. فالمعنى الإنساني الكامل للصداقة، في نظري، يتجلّى حين تلتقي ذاتان ناضجتان، اكتفت كلّ منهما بنفسها، ثم اختارتِ الأخرى بإرادةٍ. تلك الصداقة التي لا تقوم على الهروب من الوحدة، بل على جمال المشاركة، رغم القدرة على البقاء وحدك.

 

 


محمود نعسان «كاتب وروائي كوردي، يتقن اللغة العربية»:

يقول نيتشه: «عداوة صريحة أجدى من صداقة مصطنعة». إن هذا الكلام يفتح الباب للتساؤل حول جوهر العلاقات الإنسانية ومعايير الصدق فيها:

– هل الصداقة الحقيقية، هي وجود شخص بجوارنا، أم تعتبر أن الأمر هو بالعثور على مرآة، نرى فيها ذواتنا من دون قناع ولا خوف؟ أيوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية والاستهلاك؟

هناك مقولة للكاتب الروسي دوستويفسكي، كثيراً ما تشغل بالي وأفكر بها – ولا أخفيك أني أعمل بها – وتمثّل لي أمنية كبيرة، وركيزة في حياتي الاجتماعية، إذ يقول دوستويفسكي: «أريد أن يكون هناك إنسان، إنسان واحد على الأقل، أستطيع أن أكلّمه في كلّ شيء كأنني أكلّم نفسي».

دائماً ما أسأل نفسي: هل يوجد هذا الإنسان لأبحث عنه، أم أن هذه أمنية طوباوية، ولا وجود لها في الحياة؟ من جهة أن الإنسان لا يستطيع أن يبوح لنفسه، بكلّ شيء عن نفسه، فكيف لغيره! ومن جهة أخرى النفس والروح تحتاجان إلى هذا الشخص!

أني أبحث عن هذه الشخص، منذ زمن، وكثيراً ما أعتقد أني وجدته، ولكني أكتشف أنه ليس هو هذا الإنسان الذي أبحث عنه، فالصداقة الحقيقية، هي وجود شخص حقيقي وواقعي (لا على وسائل التواصل) بجوارنا ومعنا وعند حاجتنا له.

 

– إذا كانتِ العداوة الصريحة، أصدق من الصداقة المصطنعة، فهل الحقيقة – حتى في قسوتها – أثمن من الوهم الجميل؟

الصداقة المصطنعة، أو المزيّفة تكون أفخاخ تعلّق قدمك بها، وتكون جداراً من قشّ، يسقط عندما تستند إليه، فهي تبيعك الوهم لتريحك مؤقتاً، ومن ثم ينقلب عليك. لكن هذا الزيف والخداع، نكون نحن أيضاً مسؤولين عنه، أيّ أننا عندما نفشل في أيّ علاقة (زواج، تربية، صداقة...)، فإننا لا نكون مستقبلِين فقط، بل نحن في كلّ علاقاتنا الإنسانية والاجتماعية في حالة تفاعل مستمرّ، والصداقة لا تأتي على طبق من ذهب، إنما تحتاج إلى اختيار صحيح، وبناء صحيح، وسكن صحيح؛ لنخرج بنتيجة تشبّه الصداقة بالبيت الدافئ، لكن للأسف الشديد هذا التشبيه (البيت الدافئ، أو السكن والسكينة) أصبح حكراً على البيت الزوجي فقط؛ لأن مفهوم الصداقة أصبح سطحياً إلى درجة الابتذال والتسخيف، وقد يُلام الإنسان على تعلّقه بصديقه، وقد يصل به إلى أن يتهمونه بالغباء، لأنه يؤمِّن لشخص ويثق به كلّ هذه الثقة، علماً أن علاقة الصداقة – برأيي – بقوة، أو أقوى، من علاقة الزواج! رغم أني أُجلُّ العلاقة الزوجية كثيراً، وأعتبرها أقدس وأوثق العلاقات، لكن الإجلال والتعظيم شيء، وقوّة وأهمية العلاقة شيء آخر، ففي الصداقة تستطيع أن تبوح بكلّ ما يعتلج في صدرك من هموم وأحزان وأفراح ونزوات وأحلام، أما الزوجة فلا تستطيع أن تشتكي أو تتذمّر لها مثلاً، لأن هذا سينعكس على علاقتكم كزوجين، وأيضاً كوالدين، قد تستمع لك وتتفاعل مع مشاعرك في لحظتها، ولكنها لن تستطيع أن تتجاوز هذه المشاعر، دون أن تسقطها على حياتكما كزوجين. هل تستطيع أن تشتكي لزوجتك من ضيق الحياة، وشظف العيش، دون أن تشعر هذه الزوجة بالقلق من مصيرها ومصير أولادها؟ وهل تستطيع أن تذرف الدموع أمامها، دون أن تشعر بضعفك في مواجهة الحياة وحمايتها هي وأطفالها؟ لذا أعتقد أن الصداقة، ليست ترفاً نستطيع الاستغناء عنه، الإنسان له علاقة مع أبويّه في البيت، وعلاقة مع الزوج/ة، وعلاقة مع أصدقائه خارج البيت، أيّ خلل في هذه العلاقات الثلاث، ستشكّل له خللاً في داخله، إننا نشعر بشرخ كبير، لعدم ارتباطنا «كصداقة» بعد.

 

– للصداقة قيم كثيرة، أتقاس قيمتها بما تمنحه من دفء، أم بما تكشفه لحظة الاختبار حين يسقط القناع؟

الدفء الذي تمنحه العلاقة، يكون بداية لسلوك طريق العلاقة، بدون هذا الدفء والاطمئنان، لا يمكن لأيّ طرف أن يستمرّ، ولكن هذا السير في العلاقة لا يعني أنها تسير في الاتجاه الصحيح، وأنها تسير إلى الذروة، لأنه بدون اختبار حقيقي لا يمكن أن نصف أيّ علاقة بأنها متينة، وتملك مقوّمات الاستمرار. ما قيمة الصداقة، إذا لم تكن يداً تمتدّ حين أسقط؟ ما قيمتها، إذا لم تسمع صوتي عندما أنشج؟ ما قيمتها، إذا كنت تغيب وتختفي متى تشاء، وتتركني في عتمتي، دون اكتراث؟

الصداقة هي أن تظهر لحظة احتياجي إليك، ودون أن أطلب منك، كيف ذلك؟ هذا لا يُشرح بالكلام والأرقام، هذا شعور يشعر به الأصدقاء دون نداء واستغاثة.

للأسف! إننا لا نعرف أن نبني صداقتنا؛ لأننا لا نعرف قيمة الصداقة، فنلصق صفة الصداقة بكلّ مَن حولنا، وفي ذلك قال ابن الجوزي: «وجمهور الناس اليوم معارف، ويندر فيهم صديق في الظاهر، فأما الأخوة والمصافاة، فذاك شيء نُسِخ فلا يُطمَعُ فيه».

تشعر بالذهول، وأنت تقرأ هذا الكلام، لرجل مات في القرن الثالث عشر ميلادي، قبل أن تنتشر الفردانية، والاعتداد بالنفس، ووسائل التواصل الاجتماعي، (التي أسمّيها وسائل التفاسخ الاجتماعي)، وتستنبط من كلامه، أن الصداقة منشود منذ القِدم، ومفقود عزيز على القلب والروح.

 

– هل نفضّل أن نُخدع بحلاوة صداقة زائفة، أم أن نتحمّل مرارة عداوة صادقة، تواجهنا بلا مواربة؟

أنا لا أرى أنني مخيّر/ مقيّد، بين صداقة زائفة وعداوة صريحة، أنا أرى أنني مخيّر بين صداقة حقيقية وبين صحبة عابرة، كما يقال «الحقيقة المُرّة خير من ألف وهم». يجب أن نقبل بالواقع، وأن نقبل بأننا جزء من صناعة هذا الواقع المتفسّخ اجتماعياً، كيف نحن مَن نصنعه؟ عندما لا نعرف قيمة الصداقة، ونعتبرها علاقة عابرة، أو علاقة مصلحة، أو علاقة مشروطة، وعندما لا نبني علاقاتنا بشكل صحيح، ونعمل على تقويتها، وبشكل مستمرّ، ومن ثم عندما نصطدم بما بنيناه نتفاجئ! نحن ضحايا توقّعاتنا وأفعالنا.

علينا أن نتعلّم مهارات بناء علاقة الصداقة، هناك جوانب يجب أن نعمل عليها، مثل الصدق والأمانة والتضامن والتكافل، وهناك جوانب نفسية لا يد لنا بها، مثل الانجذاب والتوافق والتلاحم الروحي. وبرأيي أن أول ما يمكن أن يسمح للعلاقة أن تكون صلبة هو التوافق الروحي، أن تشعر بالفرح، وأن تتبدّد أحزانك بمجرّد سماعك، أو رؤيتك لصديقك (الصداقة بلسم حياتنا المريرة)، وأن تشتاق إليه، وتشعر بالفقد بغيابه.

كثيراً ما أشعر بالحنق، عندما يلوموني الناس لاشتياقي إلى صديقي! وكأن الاشتياق حِكر على العشّاق، هذا بسبب سطيحتنا وإهانتنا للصداقة والصديق. وأرى أن الصداقة لا تكتمل وتنضج إلا إذا كانت واقعية (ليست على مواقع التواصل)، لا أقول أن الصداقة لا يمكن أن تكون على وسائل التواصل، ولكن أرى بأنه سيصل الإنسان يوماً إلى الحاجة، بأن يرى ويجلس وجهاً لوجه مع صديقه.

لا أخفيك سرّاً، أنني أفكّر منذ سنة، بكتابة رواية عن الصداقة وأهميتها، وأشعر بالحزن الكبير على تضييعنا لهذه العلاقة العظيمة، ولكن إلى الآن لم تتبلور فكرة الرواية في ذهني بشكل واضح.

 

 


أحلام عثمان «كاتبة وشاعرة عربية من سوريا، تتقن اللغتين العربية والإنكليزية»:

في زمن تتغيّر فيه العلاقات بسرعة، وتبهت فيه المعاني خلف الشاشات، يبرز سؤال يستحقّ التأمّل:

– هل الصداقة الحقيقية، هي وجود شخص بجوارنا، أم تعتبرين أن الأمر هو بالعثور على مرآة، نرى فيها ذواتنا من دون قناع ولا خوف؟ أيوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية والاستهلاك؟

الصداقة الحقيقية، ليست فقط وجود شخص بجانبك، لكنها ليست مجرّد رؤية نفسك في الآخر. هي مزيج من الاثنين: شخص يقاسمك التجارب، يختبر معك الحياة، ويكون صادقاً معك، وفي الوقت نفسه يعكس جزءاً من حقيقتك، ويشجّعك على رؤيتها بوضوح. أصدقاء حقيقيون موجودون، لكنهم نادرون. الحياة تختبرهم، ويفضّلون القليل على الكمّ الكبير.

 

– إلى أيّ مدى تستطيع شبكات التواصل الاجتماعي، أن تُقيم صداقات حقيقية، انبثقت من واقع افتراضي؟ وما موقع هذا النمط المستجد من الصداقة: أهو امتداد للأشكال التقليدية، أم قطيعة معها تؤسّس لمفهوم مغاير كلّياً؟

الواقع الافتراضي، أتاح نوعاً جديداً من الصداقات: سريع، واسع، لكنه غالباً سطحي. قد يكون امتداداً للصداقة التقليدية، إذا كان هناك تفاعل عميق وحقيقي، لكن في أغلب الحالات هو قطيعة: يُخلق فيه مفهوم جديد للصداقة يعتمد على الانطباع والمحادثة النصّية فقط، وليس على التجربة المشتركة أو الموثوقية اليومية. باختصار، هذا النمط غالباً يُشبه الظلّ، وليس الجوهر.

 

– إذا كانت الصداقة الحقيقية، تقوم على الحضور والتجربة المشتركة، فهل يمكن للغياب الجسدي في الصداقة الرقمية أن يُنتج حضوراً روحياً بديلاً؟

يمكن، لكن بدرجة محدودة جدّاً. حضور الروح لا يغني عن التجربة الحسّية: لمسة، نظرة، ابتسامة مشتركة، موقف حقيقي. الرسائل والمكالمات قد تعطي شعوراً بالوجود، لكنها غالباً ناقصة في العمق، وقد تُولّد وهم الحميمية دون اختبار الصداقة الحقيقي.

 

– هل الصداقة في جوهرها علاقة بالآخر، أم انعكاس لرغبتنا في رؤية ذواتنا داخل الآخر؟ وكيف يتغيّر هذا الجوهر في فضاء افتراضي بلا جسد ولا عينين؟

الجوهر مزدوج: الصداقة علاقة بالآخر، لكنها تعكس رغبتنا في معرفة أنفسنا عبره. في الفضاء الافتراضي، هذا الانعكاس يزداد قوّة، بينما العلاقة الحقيقية بالآخر تتضاءل. بلا جسد أو عينين. كثير من الصداقات الرقمية، تصبح اختباراً للصور والأقنعة، وليس للحقيقة، وبالتالي الجوهر يتحوّل إلى نسخة مشوّهة من الصداقة الأصلية.

باختصار: الصداقة التقليدية هي الجوهر، التجربة الحقيقية، علاقة بالآخر وبالذات في الوقت نفسه. أما الصداقة الرقمية، هي انعكاس للذات أكثر من الآخر. حضور روحاني محدود، غالباً سطحية، لكنها قد تمنح شعوراً مؤقّتاً بالوجود والاتّصال.

 

 


سربند حبيب «كاتب وقاصّ كوردي، يتقن اللغة العربية»:

يقول دوستويفسكي: «إن النضج يجعلنا نرفض التعلّق بالعلاقات العابرة، أو الصداقات الباردة، أو الجدال الفارغ، أو الزائفين». إن ما تأمّله الروائي الروسي يفتح أبواب التساؤل حول جوهر الصداقة وطبيعة الروابط الإنسانية:

– هل الصداقة الحقيقية، هي وجود شخص بجوارنا، أم تعتبر أن الأمر هو بالعثور على مرآة، نرى فيها ذواتنا من دون قناع ولا خوف؟ أيوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية والاستهلاك؟

الصداقة ليست علاقة عابرة، الصداقة هي حالة أخلاقية تُبعدنا عن مركزية الأنا، وتجعلنا نعيش حالتنا الفطرية، وهي أرقى أشكال الحوار المتبادل بين شخصين أو أكثر، على أساس تصوّر طوباوي، وتحتاج هذه العلاقة إلى وعي ونضج، هي نبتة صالحة تنمو بالاحترام المتبادل والاختلاف في الرأي، فالصديق هو الأنا الآخر والمرآة الحقيقية لأفكارنا وسلوكنا، فكلّما كانت تلك العلاقة مبنية على أساس التشارك والصدق، استمرّت أكثر من التي تقوم على أساس المنفعة والمصلحة، ولكن الظرف الذي نعيشه اليوم يختلف عن الأمس؛ فعصر العولمة والسرعة والحرب والأوبئة تفرض على الإنسان المعاصر بأن يعيش حالة فردية يبعده عن تكوين صداقات واقعية، فيصنع بذلك صداقات افتراضية من خلال «السوشيال ميديا»، والتي تفتقد روح الصداقة الحقيقية، حيث يمكنك تكوين المئات وحذف الألوف، فهي صداقات هشّة تقوم على الزيف والتصنّع، خالية المشاعر، في حين تكون الصداقة الحقيقية ملموسة محسوسة، فالصديق الحقيقي هو مَن يقف إلى جانبك في المحن، ويفرح لفرحك، ويحزن لحزنك؛ هو مَن يمنحك شعور السعادة والطمأنينة. غير أن هذا النوع من الأصدقاء أصبح نادراً في زمننا اليوم. لذا ليس هناك أصدقاء حقيقيون اليوم.

 

– ما طبيعة الصداقة الحقيقية في عالم يعج بالزيف والبرود؟

للأسف ماتتِ الصداقة الحقيقية، وأصبحت عملة نادرة في عالمنا الحالي، حيث يتسارع فيه الفرد نحو فردانيته، ويبتعد عن مثل الجماعة والحالة التشاركية الإنسانية، وهذا ما يجعل الإنسان المعاصر يعيش التعاسة في أوجه حالاتها، وخاصّة في الآونة الأخيرة، كثرت حالات الانتحار بين الشباب، الذين يعيشون الوحدة، منعزلين مكتئبين، لا صديق ولا داعم حقيقي، يقف معهم في المحن.

ومعظم صداقات اليوم هي حالة مؤقّتة مثل (Store) في «السوشيال ميديا»، لا تدوم طويلاً.

 

– كيف يُشكّل النضج الداخلي قدرتنا على التمييز بين ما يستحق تعلّقنا وما لا يستحقه؟

كلّما نضجنا وتقدّمنا في العمر تساقط الأصدقاء كأوراق الخريف متناثرين، فجميعنا نكوّن صداقات منذ الطفولة، في البيت والمدرسة، وخاصّة في مرحلة الشباب، يكون هناك العشرات من الأصدقاء، ولكن مع مرور الزمن، يتبخّرون، وتتقلّص دائرة الصداقة، يبقى فقط الأوفياء الذين هم الأقرب إلى روحك، حيث تصبح أكثر وعياً في اختيارهم.

 

– ما المقصود بالوفاء والصدق في العلاقات الإنسانية، حين تتقاطع مع ضعف البشر وهشاشتهم؟

الوفاء هو روح الصداقة النابضة، تجسّد أسمى المعاني في التعامل الإنساني، ويوازيه الصدق، وهما دليلا ديمومة العلاقة، والالتزام بهما ليس فقط بالقول بل الفعل، في سبيل الحفاظ على جوهر تلك العلاقة الإنسانية. وبالرغم من تسارع وتيرة الحياة، وتقلّبات الزمن، وهشاشة العلاقات، يبقى الوفاء صخرة صامدة في وجه التحدّيات، التي نواجهها في كلّ لحظة، وهو أساس الثقة المتبادلة، التي تُبنى عليها أعمق الروابط الإنسانية، حيث تجلب لنا راحة النفس وطمأنينة القلب وثقة الآخر.

 

 


فيان دلّي «مدوّنة كوردية، تتقن اللغات الكوردية والألمانية والعربية»:

وسط ضجيج الحياة، وتسارع الأيّام، تبقى الصداقة الحقيقية سؤالاً معلّقاً في القلب:

– هل الصداقة الحقيقية، هي وجود شخص بجوارنا، أم تعتبرين أن الأمر هو بالعثور على مرآة، نرى فيها ذواتنا من دون قناع ولا خوف؟ أيوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية والاستهلاك؟

في البداية، أريد أن أسأل: ما هي الذات الحقيقية؟ وهل نعرف أنفسنا حقّاً لنجد في الآخر مرآة لنا؟ أليس التعرّف على الذات رحلة لا يخوضها إلا الشجعان؟

وباعتقادي أننا إذا ما قرّرنا  خوض رحلة كهذه، حينها فقط قد نقابل أناساً، نستطيع التعرّف على ذواتنا من خلالهم، وأن نمارس إنسانيتنا الكاملة مع كلّ علّاتها وشوائبها في حضورهم. والعلاقة تكتسب صدقها ومتانتها عندما يكون الآخر أيضاً قادراً على ملامسة ذاته في حضورك.

فالصداقة الحقيقية إذاً ليست مرآة، بل مساحة آمنة تحفّزنا على نزع أقنعتنا، وتدفعنا لاكتشاف ذواتنا أكثر. وإن كانت مرآة فهي مرآة بوجهين، كلّ منّا يقابل نفسه في الآخر. كلّ منّا يواجه عقده ونواقصه من خلال الآخر.

 

– أقابلْتِ يوماً صديقاً شعرت معه أنك تتحدّثين مع نفسك؟ وهل يمكن للصداقة أن تبلغ حدّ الاتّحاد الروحي الكامل، أم أن الفردية تظلّ حاجزاً لا يمكن تجاوزه؟

قابلت بالتأكيد أرواحاً جميلة كثيرة في مراحل مختلفة من حياتي، منهم مَن غاب مع الزمن، فسقطت عن صفاتهم الأصالة، ومنهم مَن بقي حاضراً كجذر متين في القلب والوجدان. ولكن كم مرّة وجدنا أنفسنا بالفعل في حالة تعرٍّ روحي مطلقة أمام الآخر؟

لا أعتقد أن هذا النوع من الاتّصال يحدث بالأمر اليسير. هو لقاء نادر يحتاج إلى توافق داخلي، إلى توازن بين الانسجام والاختلاف، إلى سلام عميق مع الذات والعالم. وواقعنا لا يُسهّل الأمر. نحن أبناء أزمنة مضطربة، وأجيال تَشكّل وعيها في ظلال الحروب والأزمات، في عصر التقنية والتكنولوجيا، حيث تغلب العلاقات الافتراضية والتواصل السريع البارد على الوجود الحقيقي الحيّ. كلّ هذا جعل من معاييرنا وقيمنا الإنسانية أرضاً رخوة لا تعرف الثبات أو الاستقرار. وهذا ما جعل من رحلة إيجاد علاقات متينة وأصيلة رحلة صعبة وشائكة، بل ومحفوفة بالخيبات. وإذا ما نظرت عن كثب في ما حولك، لوجدت أمراض القلق والوحدة والاكتئاب هي الأكثر شيوعاً بين الفئات الشابّة في يومنا هذا. وهذا مؤشّر يوضّح حجم التحدّيات التي نواجهها في علاقاتنا الإنسانية.

لكني بمعزل عن كلّ ذلك، ما زلت أؤمن بوجود هذا المستوى الفاضل من الارتباط العميق، الذي يتجاوز حدود المنطق واللغة، ويبلغ حدّ الاتّحاد الروحي، والذي في جوهره يلامس الحبّ.

فالحبّ الحقيقي هو في بذرته يبدأ بصداقة فاضلة ونقية، ثم تصل في أعلى درجاتها حدّ الاتّحاد بالآخر. هذا الاتّحاد الروحي ممكن، ولكنه نادر، يحدث عندما تلتقي نسختك الأخرى، ليس بالضرورة أن تكون روحاً تشبهك، بل تكملك. هو انتماء عميق لشخص آخر عندما تلقاه تشعر وكأنك تعرفه منذ زمن بعيد، وكأنك أعدت التواصل مع مكان عميق من نفسك كنت قد فقدته.

ولكن هذا الاتّحاد الروحي ليس ذوباناً في الآخر. وكلّ علاقة تتعدّى لمرحلة الذوبان تتحوّل لعلاقة سامّة تهدّد فردانية الفرد. ومن هنا أجيب على الشطر الأخير من سؤالك، العلاقة السامية لا تهدّد الفردانية بل تحترمها وتحبّها. هي علاقة تمنح فردانيتك مساحة آمنة ولا تحتلّها.

 

– هل غياب الصديق الحقيقي يترك فراغاً في الروح، لا يملؤه شيء آخر؟ وإذا كان الصديق «هو الآخر أنا»، فهل فقدان الصديق يُعدّ فقداناً لجزء من الذات؟

نحن كائنات اجتماعية في نهاية المطاف. مهما بلغنا من الفردانية والاستقلالية النفسية والاكتفاء الذاتي، فإن حاجتنا للآخر ستبقى حاضرة مهما حاولنا نكران ذلك. نخاف الوحدة، ونأنس بروح نشاركه لحظاتنا، ببؤسها وفرحها. يقلقنا الزوال، والصديق يفتح لنا بوابة للخلود في الذاكرة.

أما غياب العلاقات الأصيلة في حياة الإنسان، فهو انعكاس لما يحدث في داخله، وفي المجتمع من حوله. هو انعكاس لصحّة أفرادها النفسية. علاقة الأفراد ببعضهم بعضاً في مجتمع ما، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسلامهم النفسي، وبقدرة المجتمع على إنتاج هذه الروابط واحتضانها بصدق. مجتمع متهاوٍ ومفكّك، يخلق علاقات مزيّفة وهشّة، وبالتالي أفراداً متعبون نفسياً لن ينتجوا إلا تواصلاً هشّاً. هي حلقة مفرغة لا بداية ولا نهاية لها.

فالصداقة إذاً ليست حاجة نفسية، بقدر ما هي ضرورة إنسانية. هي بطريقة ما مرآة للمجتمع مثلما هي مرآة للنفس.

أما إذا ما تكلّمنا عن الفقدان، فلا شكّ أن فقدان روح ألفتك وألفتها سيترك في نفسك شروخاً يصعب ترميمها، وآثاراً قد تترك صداها في أعماقك أمداً طويلاً.

الفقد قد يغيّر تعريفك للعالم بأسره، قد يزعزع نظرتك للأشياء، فتتهاوى المسلّمات. وتصبح أكثر حذراً في منح قلبك من جديد. هي حرب ضروس قد تعيشها في داخلك، حرب ليس بالضرورة أن تخرج منها خاسراً وحيداً، بل قد تتحوّل لفرصة تعيد بها تشكيل ذاتك مرّة أخرى، تراجع من خلالها هشاشتك، تواجه ضعفك ومخاوفك فتتعمّق بذلك تجربتك الحياتية.

 

– ليلاً أخبرت أحداً ما عن آلام جسدية ونفسية، وتوقّعت أن ينعكس قلقك وتعبك في سؤاله واهتمامه صباحاً. إلا أن الصمت استقرّ مكان الكلام.

ما الحدّ الفاصل بين ذوبان الذات في الصداقة، وبين الحفاظ على استقلالية الشخصية الفردية وخصوصيتها؟ وهل الصداقة التي لا تتحرّك أمام ألم الآخر إلا ظلّ من الوجود، أم أنها تكشف حدود حقيقة العلاقة بين القلوب والمسافات؟

العالم النفسي للإنسان غامض وغريب، وبرأيي لا يمكن كشفه في لحظات الفرح والرخاء، بل في ما تحمله الأيّام من أسى وآلام. الألم يخلع الأقنعة، فتطهر المعادن وتُختبر الأعماق. ومن هنا أقول أن العلاقات الأصيلة لا تقاس بعدد سنين المعرفة، بل بما تحمله الأيّام من مواقف ولحظات فارقة.

فالصديق الحقيقي لا يختفي أمام وجعك، لكنه أيضاً لا يقتحم عالمك بحجة المواساة. إنما يقترب بالقدر الذي يسمح به حضورك الداخلي.

هناك توازن يجب خلقه بين دفء الحضور واحترام المسافة، أما التماهي مع الآخر إلى حدّ الذوبان، كما ذكرت سابقاً، يلغي حدود الذات، فتتحوّل العلاقة إلى شيء سامّ، إلى عبء، إلى اتّكالية وتبعية عاطفية. والاستقلالية المطلقة على الجانب الآخر، تبني جدران وحواجز كثيرة حول الذات، فتعزلها وتطويها داخل نفسها، وبالتالي تقتل كلّ بذرة تواصل مع الآخر. وبين هذين الحدّين توجد المنطقة السليمة، التي تُبنى فيها العلاقات المتينة وتزدهر. هي المنطقة التي يكون فيها كلّ طرف حرّاً في ذاته، لكنه منفتح على الآخر. هي المنطقة التي ربما لا يتألّم فيها الصديق كما نتألّم نحن، لكنه يفهم شعورنا، يمنحه الشرعية وكلّ الاهتمام، حتى ولو عبّر عنها بصمته. فليست كلّ القلوب تتكلّم بالطريقة ذاتها، وكلّ منّا له لغته الخاصّة في التعبير. فهذا الذي يعبّر عن ألمه بالصراخ، ذاك بالبكاء، وآخر بالصمت. المهمّ هو الصدق الذي يقاس بالنية والاهتمام، لا بكثرة الكلمات.

 

 


إدريس عيسى «مدوّن كوردي، يتقن اللغات الكوردية والفرنسية، التركية والعربية»:

منذ أن وُجِد الإنسان، وهو يبحث عن ذاته في عيون الآخرين؛ فالصداقة الحقيقية مرآة وجود، فقَد فردانيته.

– هل الصداقة الحقيقية، هي وجود شخص بجوارنا، أم تعتبر أن الأمر هو بالعثور على مرآة، نرى فيها ذواتنا من دون قناع ولا خوف؟ أيوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية والاستهلاك؟

بعد ثلاث عشرة سنة في الغربة، أدركت أن الصداقة ليست مجرفاً، يحفر في ذاكرتك ليعيدك للماضي، بل هي مرساة تثبتك في الحاضر.

صديقك الحقيقي، هو مَن يرى الندوب، التي خلّفها الغرباء على روحك، فلا يشمئز ولا يشفق، بل يقول: «أنا أيضاً لدي مثلها». هو ليس مَن يحلّ ألغازك، وإنما مَن يجلس معك في حيرة واحدة.

الأصدقاء الحقيقيون موجودون، وهم قلائل، كنجوم تُرى من مدينة ملوّثة بالضجيج. يكفيك أن تعثر على واحد منهم، لتعرف أنك لم تكن ضالّاً أبداً.

 

– ما المعنى الذي تكتسبه الحياة الزوجية، عندما تُبنى على أساس الصداقة قبل الحبّ؟ وما الذي يجعل الصداقة داخل الزواج سنداً في مواجهة العزلة الوجودية؟

عندما يُبنى الزواج على الصداقة أولاً، يصبح الأمر مختلفاً تماماً. الصداقة هنا تعني أنك تعيش مع شخص يعرفك أكثر من أيّ شخص آخر، ويقبَلك كما أنت. هذا الشخص كان صديقك قبل أن يصبح شريك حياتك.

ما أهمية ذلك؟

الصداقة تخلق أساساً متيناً للعلاقة. عندما تمرّ بأوقات صعبة، أو تشعر بالتعب أو الإرهاق، يمكنك أن تكون نفسك دون تظاهر. يمكنك أن تقول: «أنا لا أستطيع أكثر من هذا»، دون خوف من الحكم عليك.

في الزواج القائم على الصداقة، لا تشعر أنك مضطرّ لإخفاء ضعفك أو قلقك. شريكك يعرف كلّ نقاط قوّتك وضعفك، ويقف إلى جانبك في كلّ الأحوال.

كيف نواجه الشعور بالوحدة في الحياة؟

الوحدة الحقيقية، ليست في البقاء بمفردك، بل في الشعور بأن لا أحد يفهمك حتى عندما تكون محاطاً بالناس. ولكن عندما يكون الزوج هو صديقك، تختفي هذه الوحدة. تعلم أن هناك شخصاً يسمعك ويفهمك دون الحاجة إلى شرح مشاعرك. هذا يشبه الجلوس في يوم بارد تحت غطاء دافئ مع شخص تحبّه. البرد لا يزال موجوداً في الخارج، لكنك تشعر بالدفء والأمان من الداخل.

الصداقة في الزواج، تعني أنك لست وحدك أبداً. هناك دائماً شخص يشاركك أحزانك وأفراحك، ويسندك عندما تحتاج إلى الدعم. ليس لأنه مضطرّ لذلك، السبب يكمن في أنه صديقك الحقيقي الذي يهتمّ لأمرك.

هذا النوع من الزواج يجعل الحياة أسهل، والتحدّيات أصغر، لأنك تعلم أنك تواجهها مع صديق مخلص، يقف إلى جانبك في كلّ خطوة.

 

– كيف يتحوّل الحوار بين الزوجين إلى ممارسة فلسفية، تكشف عن جوهر الصداقة؟ وما أهمية صداقة تُبنى على تفاهم عميق، وصداقة تُفرض بحكم العِشرة؟

الحوار بين الزوجين، يتحوّل إلى حوار عميق، عندما يتخطّى الحديث عن شؤون الحياة اليومية. عندما تتحدّثان ليس فقط عن «ماذا سنأكل اليوم؟»، بل عن «ماذا نريد من الحياة؟». عندما تسأل زوجتك: «هل نحن سعداء حقّاً؟»، أو «ما الذي نخاف منه في المستقبل؟». في هذه اللحظات، يصبح الحوار بوّابة تدخلون منها إلى أعماق بعضكما بعضاً.

هذا النوع من الحوار، يكشف جوهر الصداقة بينكما. فهو يحتاج إلى ثقة كبيرة، وشجاعة للكشف عن ما في القلوب. عندما تتحدّثان بهذه الصراحة، تكونان كمَن يفتح كنوز قلبه للآخر دون خوف.

أما عن الفرق بين نوعي الصداقة:

الصداقة المبنية على التفاهم العميق تشبه شجرة أصلها ثابت في الأرض. تنمو ببطء، ولكنها تصبح أقوى مع السنين. تقاوم العواصف، وتعطي ظلّاً وثمراً. هذه الصداقة تقوم على الاختيار والاحترام المتبادل.

أما الصداقة التي تفرضها العشرة فقط، فتشبه عشباً ينمو على سطح الأرض. يبدو جميلاً من الخارج، ولكن أولى النسمات تقتلعه. هذه الصداقة تبقيكما معاً، بسبب العادة والخوف من التغيير، لا بسبب الرغبة الحقيقية في البقاء معاً.

الصداقة الحقيقية، في الزواج هي التي تجعلك تشعر أنك في بيتك، عندما تكون مع شريكك. تشعر أنك مقبول كما أنت، بكلّ نقاط قوّتك وضعفك. لا تحتاج إلى التمثيل أو إخفاء مشاعرك الحقيقية.

هذه الصداقة، هي التي تجعل الأيّام الصعبة أسهل. لأنك تعلم أن هناك مَن سيسير معك في كلّ خطوة، لا لأن ذلك واجب عليه، بل لأنه يريد ذلك من كلّ قلبه.

في النهاية، الصداقة الحقيقية في الزواج هي الاختيار اليومي لأن تكون صديقاً لشريكك، وليس مجرّد العيش في نفس البيت.

 

– كيف يمكن للصداقة أن تجعل الزواج رحلة مشتركة للبحث عن المعنى، لا مجرّد عقد اجتماعي؟

عندما تلتقي الصداقة بالزواج، يتحوّل من عقد اجتماعي إلى رحلة بحث مشتركة عن المعنى. فالزواج كعقد اجتماعي يشبه البيت، له جدران تحمينا، وسقف يظلّلنا، فهو يضمن لنا الأمان والحقوق والواجبات. أما الصداقة فهي التي تجعل هذا البيت موطنَ قلوبنا، وليس مجرّد مكان نعيش فيه.

تشبه الصداقة في الزواج مركباً يجدِف فيه رفيقان معاً. لا يهمّ مَن يمسك المِجْدَاف أكثر، ولا مَن يتولّى القيادة؛ لأنهما يعرفان أن الهدف واحد، والرحلة مشتركة. عندما تهبّ العواصف، لا يفكّر أحدهما في الهرب، بل يشدّان أزر بعضهما بعضاً.

كيف تجعل الصداقة من الزواج رحلة بحث عن المعنى؟

عندما نفقد العمل، لا نقول: «خسرنا الراتب»، بل نسأل: «ما الدرس الذي يمكن أن نتعلّمه؟». عندما نمرض، لا نرى الواجب فحسب، وأيضاً نرى الفرصة لنقول: «لست وحدك في هذا الألم».

في الزواج القائم على الصداقة، تتحوّل الخلافات من معارك يجب الفوز بها إلى فرص لفهم بعضنا بشكل أعمق. النجاحات لا تكون لمجرّد التفاخر، وإنما محطّات في رحلتنا المشتركة.

هكذا تصبح الحياة الزوجية حديقة نزرعها معاً كلّ يوم. العقد الاجتماعي هو الأرض والسياج، أما الصداقة فهي الزهور التي تتفتّح، والثمار التي ننعم بقطفها معاً. إن الصداقة، هي التي تحوّل الزواج من مؤسّسة إلى روح، ومن واجب إلى اختيار، ومن ماضٍ نخشى فقدانه إلى مستقبل نشتاق لاستكشافه معاً. هي التي تجعلنا نقول كلّ يوم: «أنا سعيد، لأن رفيق دربي هو صديقي».

 

 


نوجين قدّو «كاتبة وروائية ومترجمة كوردية، تتقن اللغات الكوردية والألمانية والعربية»:

الصداقة تجربة وجودية عميقة، تُعيد للإنسان صلته بذاته وبالآخر، وتكشف له جوهر المعنى، وسط ضجيج الفردانية والعزلة الحديثة.

– هل الصداقة الحقيقية، هي وجود شخص بجوارنا، أم تعتبرين أن الأمر هو بالعثور على مرآة، نرى فيها ذواتنا من دون قناع ولا خوف؟ أيوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية والاستهلاك؟

الصداقة، بالنسبة لي تعني جزءاً كبيراً من شعوري بالأمان، تجاه شخص أستطيع أن أشاركه، ما يدور في رأسي، دون خوف أو ندم.

نعم! يوجد أصدقاء حقيقيين، لكن ليس بالصورة الوردية، التي نتصوّرها. الحياة صارت أكثر قسوة، رغم الرفاهية التي تحيط بنا، ولم نعد نجد الوقت لأنفسنا أو لأصدقائنا. وأشعر أيضاً أننا نعيش فجوة، بين جيل عرف الدفء البشري قبل التكنولوجيا، وجيل وُلِد في زمن السرعة، فصارتِ السرعة لغته الوحيدة.

فأجد نفسي بذلك عالقة بين العالمين. أشتاق إلى صديقٍ أقضي معه ساعات من الحديث، لكنني في الوقت ذاته أكتفي اليوم بتسجيل صوتي، مرّة في الأسبوع، لأخبره أني ما زلت هنا.

وربما لا يُلغي هذا الشكل الحديث من التواصل صدق العلاقة، إنما ينقلها إلى مستوى جديد، أكثر واقعية واختصاراً، في عالم تتأقلم فيه الصداقة مع سرعة الزمن رغماً عنها، كمحاولة منها في ألّا تفقد معناها.

 

– إن الاهتمام بالآخر نابع من محبّة حقيقية، وأحياناً مجرّد انعكاس لما نتوقّع أن نحصل عليه منهم في المقابل. فهل يمكننا التمييز حقّاً بين المحبّة الصافية والمصلحة الخفية في علاقاتنا الإنسانية؟

التفريق بين المحبّة الصافية والمصلحة الخفية ليس أمراً سهلاً، فالمشاعر مزيج من دوافع واعية وأخرى خفية. نحن نعطي بدافع المحبّة، لكن في أعماقنا ننتظر نظرة امتنان تؤكّد قيمتنا. وهذا شكل طبيعي من المصلحة البشرية، يذكّرنا بالضرورة بحاجتنا للتقدير. والمشكلة هنا لا تكمن في انتظار المقابل، وإنما حين يتحوّل الاهتمام إلى وسيلة للسيطرة أو مقياس لقيمتنا في عيون الآخرين.

فالآخر لا يجب أن يكون مرآة لاحتياجاتنا وسدّ لنواقصنا، بل إضافة لحياتنا، نحبّه لحضوره، دون أن نخاف من غيابه، أو لما يمنحنا إياه. وربما لا وجود لمحبّة خالصة تماماً من المصلحة، إنما هناك نوايا صادقة، تحفظ للعلاقات جوهرها الإنساني، بعيداً عن منطق البيع والشراء العاطفي.

 

– اختبار الصداقة في اللحظات الصعبة وحدها غير كافٍ.

كيف تكشف اللحظات الصعبة جوهر الصداقة، ويكشف غياب الاهتمام طبيعة العلاقات البشرية الناقصة؟

المشاركة ركن أساسي في بناء العلاقات، في الفرح كما في الحزن. غير أن غياب الاهتمام لا يعني دائماً أن الإنسان تغيّر أو تخلّى أو لم يقدّرِ العلاقة، فأحياناً تكون الظروف هي مَن تحدّد شكل حضوره في حياة الآخرين.

فليس الحضور دائماً بالمكان أو بالكلام، وإنما يكفي أن يبقى أثره صادقاً، وأن يظهر حين تسمح له الحياة، ولو بإشارة صغيرة تؤكّد أنه ما زال هناك.

لهذا أرى أن اختبار الصداقة في الأزمات فكرة ضيّقة، لأنها تختزل العلاقة في لحظات معيّنة، بينما الصداقة أوسع من ذلك بكثير. إنها مساحة تمتدّ عبر الفرح والحزن معاً، حيث يكون الصدق في المشاركة بالفرح لا يقلّ قيمة عن الصدق في مواساة الحزن.

الصديق الحقيقي هو مَن يفرح لفرحك دون غيرة، ويحزن لحزنك دون تكلّف، ومَن يبقى رابطاً متيناً بينك وبينه حتى حين تفرّقكما المسافات.

فالصداقة لا يجوز أن تكون امتحاناً ننجح فيه أو نفشل، وإنما هي علاقة تنمو بالصدق والتفهّم، وتزدهر تحت سقف من الوعي والحرّية، حيث يجد كلا الطرفين مساحته دون خوف من الفقد.

 

– إن الإنسان لا يواجه الآخرين فحسب، وإنما يواجه ذاته من خلالهم. وفي كلّ علاقة تنشأ توقّعات صامتة بالاعتراف والاحتواء، وحين تتصدّع هذه التوقّعات، تولد خيبة الأمل كتجربة مزدوجة تكشف ملامح الآخر كما تعرّي هشاشتنا الداخلية.

كيف تكشف خيبة الأمل في الآخرين حقيقتهم، وفي الوقت ذاته تفضح هشاشتنا في توقِنا للاعتراف والاحتواء؟

يبدو لي طرح السؤال هو حكماً مسبقاً على العلاقات أكثر منه تساؤلاً مفتوحاً.

في الحقيقة أرى أن خيبة الأمل هي لحظة تأمّل بين صورتين، إحداهما للآخر كما هو، والأخرى كما نريد «نحن» أن نراه.

العلاقات تتكرّر، تنجح، وتفشل، تؤلمنا، وتسعدنا، لتذكّرنا بأن هذه الحاجات، وضرورة عيشها بكلّ وجوهها، هي جزء من إنسانيتنا. وأن التوق للاحتواء «دون أن يكون مَرَضي أو مبالغ فيه»، يبقى شعوراً إيجابياً، ويدفعنا للاستمرار في البحث عن معنى أعمق للوجود مع الآخرين. فالعلاقات في جوهرها هي تجربة وجودية، تكشف لنا ما نجهله عن ذواتنا. نلتقي بأُناس، فنكتشف حدودنا، ونتعرّف على حدودهم ونفترق، وبالتالي نتعرّف على «قدرتنا» على الاستمرار.

كلّ علاقة مهما قصرت، تُعيدنا إلى سؤال يرافق الإنسان منذ الأزل:

هل نحب أو نتعلّق، لأننا نحتاج الآخر في حياتنا، أم لأننا نحتاج أن نعرف «مَن نكون» من خلاله؟

 

 


آزاد رمّو «مدوّن كوردي، يتقن اللغة العربية»:

الصداقة ومضة معنى، في عتمة الوجود المعاصر.

– هل الصداقة الحقيقية، هي وجود شخص بجوارنا، أم تعتبر أن الأمر هو بالعثور على مرآة، نرى فيها ذواتنا من دون قناع ولا خوف؟ أيوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية والاستهلاك؟

هل توجد صداقة حقيقية؟

هذا السؤال يستحق التأمّل العميق، لأنه ليس مجرّد عبارة عابرة. منذ زمن بعيد كنت أظنّ أن كلّ مَن ألتقي به لفترة من الزمن هو صديق، لكن التجارب أثبتت أن معظم تلك العلاقات لم تتجاوز كونها صداقات وقتية عابرة، لا تمتّ إلى المعنى الإنساني والأخلاقي للصداقة بصلة.

إن الحصول على صديق واحد، تتجسّد فيه القيم والمبادئ، التي نبحث عنها، يكفي عن مئات الأصدقاء الوهميين (أصحاب المصالح، دلّلني أكون صديقك).

أما عن الشقّ الثاني من السؤال «هل يمكن أن يوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية؟»، أقول: نعم! يوجد. لكنهم قلّة قليلة ونادرة، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. لأن الغربة، على وجه الخصوص، تكشف بواطن العلاقات وظواهرها، وتُظهر لنا عالماً لم نكن نتخيّل وجوده يوماً.

 

– ما المعنى الذي تكتسبه الصداقة، حين تُبنى على الإصغاء العميق، بدلاً من الرؤية المباشرة؟

برأي للصداقة نوعان لا ثالث لهما:

النوع الأول صداقة سطحية وهشّة، تقوم على أحاديث عابرة، أو رسائل متبادلة، لمجرّد تمضية الوقت لا أكثر ولا أقل. وقد خضت هذا النوع من التجارب من قبل، لكنها انتهت بالفشل الذريع، لأنني لم أجد فيها أيّ معنى عميق أو قيمة تُذكر، فتحتويني فيهم.

أما النوع الثاني، فهو الأصدق والأقرب إلى جوهر الصداقة الحقيقية؛ صداقة تحمل في طيّاتها مكاسب روحية وقيم إنسانية صادقة. أنا – بوصفي شخصاً كفيفاً – لم أعرف بعض هؤلاء الأصدقاء على أرض الواقع، ومع ذلك حين أتحدّث إليهم أشعر براحة وسكينة وطمأنينة، كأن أرواحنا تلاقت قبل أن تلتقي أجسادنا.

لكن لهذه التجربة وجه آخر؛ فهي سلاح ذو حدّين. فقد يحدث أن تلتقي هؤلاء الأشخاص في الواقع، فتكتشف وجوهاً لم تكن تراها في حديثهم، وربما تصاب بخيبة أمل كبيرة، تغيّر نظرتك إليهم تماماً.

 

– بأي صورة تُصبح الصداقة عند المكفوفين تجربة وجدانية، تتجاوز الحواس التقليدية؟ ما الذي تكشفه الصداقة عن قدرة المكفوفين على بناء عوالم داخلية مشتركة؟

من خلال تجربتي، أرى أن المكفوفين غالباً أشخاص شديدو العاطفة، وهذه العاطفة تترك أثراً مباشراً في قراراتهم وعلاقاتهم. في كثير من الأحيان تدفعهم لاتّخاذ مواقف أو قرارات ليست في مصلحتهم، سواء في إطار الصداقة، أو في تعاملاتهم العامة.

أما على صعيد الصداقة مع المبصرين، فالأمر بالغ الصعوبة. ففي كثير من المواقف يتعامل المبصر مع الكفيف، كما لو كان طفلاً، لا يشعر ولا يفقه شيئاً، فيستخف به – أحياناً عن قصد وأحياناً أخرى بلا قصد – في المقابل، الكفيف بطبيعته شديد الحساسية، حتى إن كلمة عابرة، قد تكون كجرح عميق في داخله، ولا يشفى بسهولة.

ولهذا، عندما يلتقي شخص كفيف بمبصر، يتعامل معه بحذر شديد، مترقّباً إلى أن يتأكّد من نواياه. لكن في معظم الحالات، هذه العلاقة لا تكون متكافئة، ولا تصل إلى مستوى الصداقة الحقيقية؛ فهي إما تُبنى على الشفقة من المبصر تجاه الكفيف، أو على مصلحة مشتركة تجمع الطرفين.

عندما يصادق الكفيف شخصاً مبصراً، قد يتولّد لديه إحساس غريب، ورغبة دفينة، بأن يمتلك ذلك المبصر إعاقة ما، ولو جزئية، لكي يقتربا أكثر من بعضهما بعضاً روحياً. كأن هذه الرغبة تُعبّر عن حاجة داخلية، للمساواة في التجربة الإنسانية، حيث يشعر الكفيف أن وجود فارق كبير بينه وبين المبصر يخلق فجوة يصعب تجاوزها، إلا إذا تقاسم الطرفان قدراً من المعاناة.

 

– ما طبيعة الثقة التي تتشكّل بين المكفوفين وأصدقائهم؟ وكيف تختلف عن ثقة المبصرين؟

إن هذه المسألة، تعتمد على العاطفة بشكل كبير؛ فالكفيف، كما نعلم، بحاجة دائمة إلى وجود شخص آخر يساعده، سواء في التنقّل، أو في الحوار، أو حتى في تفاصيل حياته اليومية. لكن هذه الحاجة تجعل العلاقة أكثر هشاشة؛ فكلّما تعرّض الكفيف لخذلان من صديقه المبصر، كُسر جزء من الثقة التي بناها معه. ومع تكرار الخذلان، تتآكل هذه الثقة، حتى تختفي تماماً، لتترك وراءها فراغاً يصعب ترميمه.

 

 


رهيدة مصطفى «مدوّنة كوردية، تتقن اللغة العربية، وتجيد التركية»:

الصداقة فعل وعيٍ، يتجاوز الأنا، نحو إنسانية أعمق.

– هل الصداقة الحقيقية، هي وجود شخص بجوارنا، أم تعتبرين أن الأمر هو بالعثور على مرآة، نرى فيها ذواتنا من دون قناع ولا خوف؟ أيوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية والاستهلاك؟

الصداقة رابط روحي متين بين روحين، تألفهما المحبّة والقبول. فإن لم تكن هناك طاقة روحية تنير بصيرة قلبك، فلن تستطيع أن تُصادق كلّ مَن تراه. فهي غذاء للروح، وبلسم للجروح.

نحتاج إلى وجود الأصدقاء منذ بزوغ فجر حياتنا، إذ تتنوّع الصداقات وتختلف باختلاف مراحل العمر. فصداقة الطفولة بريئة طاهرة، تخلو من الشبهات. وصداقة الصِّبا تأتي في مرحلة نحتاج فيها إلى أخلاءٍ يشاركوننا معنى الحياة، سواء في محيطنا الدراسي أو الاجتماعي.

يقولون: «الصديق وقت الضيق»، أما أنا فأرى أن الصديق في كلّ وقت، إذ لا يختفي عند الضيق، بل يزداد حضوراً. فالصديق الحقيقي كالقَرين، ملازم لك، ليس بالضرورة قرباً في المسافة، بل قرباً في الفكر والعقل والوجدان.

ورغم ما نعيشه من تغيّرات اجتماعية، وتطوّر في البيئة، وعلوّ لسلطة الأنا فوق كلّ شيء، فإن الأصدقاء الحقيقيين ما زالوا موجودين فعلاً، يضيئون حياتنا بهدوء وصدق.

 

– كيف نوازن بين الصداقة الرقمية والتقليدية؟

الصداقة تتجاوز الإطار التقليدي؛ فهي تظهر في المواقف الصادقة، مهما ابتعدتِ المسافات؛ لأننا نشعر بالأمان مع الصديق، ونقوى به، ونَسعد بقربه. فالصداقة التقليدية حبل متين، لكنه قد يتأثّر بالظروف الاجتماعية والحياتية، ويتغيّر مع مرور الزمن. قد يكفي موقف واحد ليغيّر نظرتك إلى صديق ما، إذ لا يمكن أن يستمرّ الودّ إذا خالطه شعور بالغيرة أو الشكّ.

ومع ذلك، لا يمكن أن نكره مَن شاركنا الأحلام والأحداث، وتقاسم معنا الفرح والمغامرات، ومَن مسح دمعتنا يوماً؛ فكيف لنا أن ننساه؟ فالصداقة تشبه رابطة الدم بين الأمّ وأكبادها، أو بين الإخوة، فليس للكره مكان فيها. أما الصداقة الافتراضية، فهي من أسمى صور المحبّة والاحترام، إذ تعمل فيها العواطف، وتتآلف الأرواح لتلتقي عبر شاشة زرقاء. تتحرّك فيها الحواس بصدق يفوق الحضور المادّي، فيتحدّثون ويتحدّون السنين، يشعرون ببعضهم رغم بُعد المسافات، لا يعرفون زماناً ولا مكاناً لبثّ عبير الحبّ الخالص.

 

– إذا كان الإنسان يتأثّر بدينه وأخلاقه من خلال صديقه، فهل اختيار الصديق في الحقيقة هو اختيار لمستقبل الإنسان نفسه؟ وكيف نوازن بين البحث عن صديق صالح ملتزم، وبين تقبّل أن كلّ إنسان لديه عيوب ونقص؟

يمكن للإنسان أن يتأثّر كثيراً بأصدقائه، ولا سيّما في مرحلة الشباب، إذ يمكن – دون وعي منه – أن يتقمّص طباعهم، ويُقلّد حركاتهم، بل ويحفظ عاداتهم اليومية. وأستطيع القول إن الإنسان يتأثّر بأصدقائه حتى من الناحية الفيزيولوجية، فيتشابهون إذا عاشوا معاً فترةً طويلة. وكلّما كانتِ العلاقة أعمق، كان التأثّر أقوى.

أما من الناحية الدينية والتربوية، فأرى أن المبادئ هي التي تتحكّم في مدى انحيازنا إلى مبادئ وأهداف غيرنا. ولا يمكن أن نجرّد الأشخاص من الأخطاء أو العيوب، فكلّنا بشر، وكلّنا خطّاؤون. وقد يأتي شخص وأخطأ من قبل، فينير لك الدرب قبل أن تسلكه، وهنا فقط تراه صديقاً صالحاً بحقّ.

 

– في ضوء قول الله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾. هل يمكن اعتبار أن معيار «الإيمان والتقوى»، هو الشرط الوحيد، الذي يجعل الصداقة خالدة حتى في الآخرة؟ وما الحدّ الفاصل بين الوفاء للصديق والنصيحة الصادقة، التي قد تجرح المشاعر؟

مهما كنّا منعزلين أو منطوين، لا يمكننا العيش وحيدين. ومهما بلغنا من القوّة أو المكانة أو الحكمة، سنحتاج إلى صديق صدوق صادق، يحمل عنّا عبء الحياة، ولو فقط بالإنصات إلينا.

فمَن يفرّ من الناس إلى الغابات هرباً من شرورهم، تراه يُكلِّم طيراً، أو يُؤانس حيوانًا، أو يُحادث طيفاً. فالفطرة الإنسانية تأنس بالرفقة وتضيق بالعزلة.

لقد كان موسى عليه السلام قوياً بأخيه هارون، وكان عيسى عليه السلام مؤيَّداً بالحواريين، وكان رسول الله محاطاً بأصحابه، الذين شاركوه الدعوة والمحبّة، حتى سمّاهم الصحابة؛ لأنهم اشتركوا معه في القيم والمبادئ ذاتها.

قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾. [الكهف: 28]. تلك هي أسمى الصداقات على وجه الإطلاق؛ الصداقة الخالدة التي تبقى حتى في الآخرة، لأنها لم تتلوّث بزيف الحياة ولا بمكر الشهوات.

وفي النهاية، لا يمكن الجزم بأن أصدقاءنا سيشبهوننا في كلّ شيء، فلكلّ منّا عيوبه ونقائصه. لكن واجبنا أن نتعامل بالحُسنى، وأن ننصح ونرشد دون أن نجرح المشاعر أو نهدم المودّة.

 

 

 


عيسى الأحمد «كاتب كوردي، يتقن اللغة العربية»:

في عصر تُقاس فيه العلاقات بعدد الرسائل، لا بعمق اللقاء، يغدو الحديث عن الصداقة الحقيقية أشبهَ باستعادة أسطورة، من زمن نقي مضى.

– هل الصداقة الحقيقية، هي وجود شخص بجوارنا، أم تعتبرين أن الأمر هو بالعثور على مرآة، نرى فيها ذواتنا من دون قناع ولا خوف؟ أيوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية والاستهلاك؟

الصداقة الحقيقية – في جوهرها – ليست مجرّد وجود شخص بجوارنا، فالقرب الجسدي لا يعني بالضرورة قرب الأرواح. كم من الناس حولنا، لكننا نحسّ بالوحدة، كأن العالم كلّه جدار صامت!

فالصديق الحقيقي، ليس ذاك الذي يملأ المكان، بل مَن يملأ الفراغ الذي فينا. هو الذي لا يراك بعينيه بل ببصيرته، فيرى خلف صمتك ألف كلمة، وخلف ابتسامتك ألف وجع، فيسكنك دون استئذان، ويُقيم فيك دون أن يزاحمك.

أما عن كون الصداقة مرآة، فالصديق ليس مجرّد انعكاس لنا، بل هو المرآة الصادقة التي تُريك وجهك كما هو، دون تجميل أو تشويه. إنه الضوء الذي يهب للمرآة معناها، والصراحة التي تجرّدنا من أقنعتنا دون أن تجرح كرامتنا.

في حضرة الصديق الحقّ، لا نخاف أن ننكشف، لأننا ندرك أنه لن يستخدم ضعفنا ضدّنا، إنه سيحرسه كما يحرس القلب نبضه. أما عن وجود الأصدقاء الحقيقيين، فهُم نادرون كالمعادن النفيسة، لا تراهم كلّ يوم، ولا يجتمعون حولنا بكثرة. وربما تمرّ سنين طويلة قبل أن نعثر على واحد منهم… لكنّ وجودهم، ولو في البعيد، يمنح الوجود طعمه الإنساني العميق. إنهم يشبهون النجوم: لا نراهم دائماً، لكننا نعرف أنهم هناك، وأنهم ما زالوا يضيئون لنا الطريق، من مكان ما في هذا العتم الواسع.

 

– إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار الكلمات والرموز والصور والأغاني، بدائل كافية للتعبير عن عمق الصداقة؟

ربّما إلى الحدّ الذي نستطيع فيه أن نُخفي الوجع بابتسامة رقمية، أو نُقنع أنفسنا أن الصوت المسجّل هو الدفء ذاته، الذي يخرج من قلب الصديق حين يقول: «أنا معك». الكلمات جميلة، لكنها ظلّ الصوت. والرموز محبّبة، لكنها شذرات من عاطفة أكبر. والصور تحفظ اللحظة، لكنها لا تنقل دفء الوجود. والأغاني تلمس القلب، لكنها لا تحلّ محلّ اليد التي تُربّت على كتفك حين تنهار.

نعم، قد تُسعفنا هذه الوسائل، حين تباعد المسافات، لكنها لا تُغني عن الصداقة الحقيقية، لأن الصداقة ليست تواصلاً بل تواشجاً، ليست تبادل كلمات، بل سكناً متبادلاً في الأرواح. إنها تلك اللحظة التي يفهمك فيها صديقك من دون أن تتكلّم، ويشعر بك من نبرة صمتك لا من رسالتك، ويكون حضوره – حتى في غيابه – أصدقَ من ألف كلمة وصورة وأغنية.

فنحن نكتب كي لا ننسى، نُرسل كي لا نبتعد، لكن الصداقة الحقيقية لا تُختصر في شاشة، ولا تُترجم إلى أيقونة. إنها شيء يشعر به لا يُقال، ومعنى لا تسعه اللغة. هي الصمت المليء بالفهم، النظرة التي تسبق السؤال، اليد التي تمتدّ دون طلب.

ربما تبقى الكلمات دليلاً على غياب الصديق، أكثر من كونها حضوراً له. فالروح لا تتواصل عبر الحروف، بل عبر نبض يعرف طريقه، حتى في العتمة، فاللغة مهما بلغت من البلاغة، تبقى عاجزة أمام الصدق الخالص للمشاعر، والأغنية مهما كانت عذبة، لا تشبه دفء صديق يشاركك الصمت في مقهى بعيد.

الصداقة الحقيقية لا تُكتب، وإنما تُعاش. ولا تُختزل في رموز أو منشورات، إنها حضور روحي، يتجاوز الحروف؛ ليُقيم في المسافة بين قلبين، يفهمان بعضهما دون وسائط أو شرح.

 

– هل يفقد مفهوم الوفاء معناه، عندما يستطيع الصديق في العالم الافتراضي، أن يختفي بلمسة زرّ؟

أن يختفي الإنسان بكبسة زرّ، أمر صار من أبسط أفعال هذا العصر، وأكثرها قسوة. لم يعدِ الغياب يحتاج إلى عُذر، ولا الفراق إلى مشهد وداع. بضغطة واحدة، يذوب حضور كان يوماً يملأ الروح ضوءاً وحديثاً، فيتحوّل إلى فراغ بارد في شاشة خرساء.

لكن الحقيقة أعمق من هذا المشهد الظاهر؛ فليس كلّ مَن غاب خان، ولا كلّ مَن اختفى نسي. ثمّة غياب تحكمه الحاجة إلى الصمت، إلى أن يلتقط المرء أنفاسه مَن ثِقل الكلام، وثِقل الوجود ذاته.

الوفاء، إذن، لا يُقاس بعدد الرسائل، ولا بطول المحادثات، بل بالنبض الذي يظلّ أميناً حتى في العزلة. الوفاء هو أن تبقى صورتك في قلب صديقك كما تركتها، ألا يبدّل الغياب نكهة الودّ، ولا تغيّر الأيّام طعم الحنين.

لقد صار العالم سريعاً، إلى حدّ يثير الرعب؛ نعيش زمناً يمكن فيه للعلاقة أن تموت بلمسة، وللذكريات أن تُمحى بسطر واحد من الإعدادات. ومع ذلك، تبقى هناك أرواح قليلة، لا تنتمي إلى هذا الإيقاع، تحفظ العهود بصمت، وتبقى وفية حتى لمَن رحل دون تفسير.

إن الصداقة الحقيقية ليست في حضور الجسد، بل في بقاء الأثر، في أن تشعر أن هناك مَن يفكّر بك في اللحظة ذاتها، التي تظنّ فيها أنك منسي. هي ذلك الحبل الخفي الممتدّ بين قلبين، لا تراه العين، لكنه لا ينقطع مهما ابتعدتِ المسافات، أو طال الغياب.

وهكذا، حين يختفي أحدنا بكبسة زرّ، لا ينتهي كلّ شيء. ربما تبدأ هناك، خلف الشاشة المغلقة، مرحلة أصدق من الحضور ذاته. مرحلة اختبار الوفاء، حين لا يبقى سوى الذاكرة، والنية، وصدق القلب. إذن فالوفاء الحقيقي يتجلّى عندما يبقى الآخر فيك، لا في جهازه. يبقى في طريقة تذكّرك له بلا إنذار، في صمتك الذي يستدعيه قبل أن يبعث برسالة، في دفاعك عنه حين لا يسمع العالم صوتك.

 

– أين تكمن أصالة الصداقة: في الجسد الذي نلتقيه، أم في الروح التي نفهمها، حتى من وراء الشاشة؟ وما قيمة ودور كلّ منهما؟

أين تكمن أصالة الصداقة؟

أفي الجسد الذي نلقاه، فنتبادل معه القهوة والضحك، ونرى في عينيه صدى الطمأنينة، أم في الروح التي نفهمها من وراء الشاشة، تلك التي لا نراها، لكننا نحسّها كنسمة تعرف طريقها إلينا بلا جهد؟ ربما ليست الأصالة في أحدهما وحده، بل في الالتقاء بينهما. فالجسد يمنح الصداقة شكلها الملموس، حضورها اليومي، دفء تفاصيلها الصغيرة: الزيارة المفاجئة، النظرة الصامتة، لمسة اليد، التي تقول أكثر من ألف عبارة مواساة.

أما الروح، فهي التي تمنحها معناها؛ هي التي تبقيها حيّة حتى حين يبتعد الجسد،

حين يصير اللقاء مجرّد نافذة مضاءة على شاشة، تهمس من خلفها الأرواح، بما لا تستطيع الحروف أن تحمله كلّه.

الصداقة التي تعتمد على الجسد وحده، تموت بانقطاع اللقاء. والتي تقوم على الروح وحدها، تظلّ ناقصة، كأغنية بلا صوت، يخرج من فم العازف. فالجسد هو الجسر، والروح هي النهر الذي يجري تحته. وما من نهر يُرى إن لم يكن له ضفاف، ولا من ضفاف تبقى جميلة إن جفّ نهرها.

إن اللقاء المادي، يذكّرنا بأننا بشر، نحتاج الملامسة والنظرة والصوت. لكن التفاهم الروحي يذكّرنا بأننا أكثر من بشر عابرين، بأن بيننا خيوطاً من معنى، تُبقي الصديق حيّاً فينا، حتى لو سكن قارة أخرى.

فالروح هي الأصل، لكن الجسد هو الشاهد الذي يجعل الأصل ممكناً. والصداقة الأصيلة، في نهاية الأمر، هي التي تستطيع أن تحيا في الغياب كما في الحضور، أن تبقى دفئاً وإن لم تُلمَس، وصوتاً وإن لم يُسمَع، وصدقاً لا يُطفئه انقطاع الإشارة ولا المسافات.

 


ميديا علي «مدوّنة كوردية، تتقن اللغتين الكوردية والعربية»:

وسط زحام الشاشات، وضجيج «الأصدقاء الافتراضيين»، يخطر في البال سؤال يُلامس جوهر الإنسان قبل جوهر العلاقة:

– هل الصداقة الحقيقية، هي وجود شخص بجوارنا، أم تعتبرين أن الأمر هو بالعثور على مرآة، نرى فيها ذواتنا من دون قناع ولا خوف؟ أيوجد أصدقاء حقيقيون في عصر الفردانية والاستهلاك؟

الصداقة الحقيقية، برأيي، ليست وجود شخص بيولوجياً بجانبك، أرى أنها تكمن في وجود روح، يحتضن كلّ شيء معك مثل روحك، دون خوف من كيف يفهمك ويقدّرك.

أرى أنه يجب أن يكون رابط الصداقة، كرابط الحبّ، بعيداً عن المادّية، حتى تشعر بمعنى الصداقة الحقيقية وتعيشه. السؤال الذي يجب طرحه منطقياً هو: هل الصداقة الحقيقية، موجودة في عصرنا هذا؟ إذا كانت موجودة، فكم هي موجودة في عصر يتصدّر فيه الحب والفردية؟ للأسف، سنرى الفجوة الحالية، ونشعر بالخطر الحالي. يمكن القول إنه في عصرنا هذا، أصبح كلّ شخص صديقاً أكثر من ذي قبل. ما الرابط الذي يجعل شخصاً ما صديقاً لنا؟ هل معرفة وجهه أو اسمه أو مظهره واهتماماته؟ إذن، نستنتج أن الناس اليوم يعرفون بعضهم بعضاً أكثر، ويحبّون بعضهم بعضاً أقلّ.

 

– كيف تختلف قيمة الصداقة عند الفتاة، في مرحلة المراهقة، مقارنة بمرحلة النضج؟

بالطبع، تختلف قيمة الصداقة مع الفتاة في مرحلة مراهقتها عنها في مرحلة بلوغها. ولأن الفتاة، لا تبحث عن جوهر الصداقة في المراهقة، فإنها تشعر بفقدان الذات، ولا تستطيع أن تُضفي عليها معنى. ولأن هناك فراغاً كبيراً لديها في المراهقة، فإنها ترغب في ملء هذا الفراغ بشيء جديد. في تلك المرحلة، قد تُعطي وتأخذ الكثير من الأشياء، بناءً على الصداقة مع محيطها، لكن هذا الأخذ والعطاء لا يُنتج صداقة حقيقية ذات قيمة، ولا يكون بحثها عن الصداقة حتى قريباً.

قد تُشارك الفتاة بعض المعلومات عن نفسها، مع فتاة من جيرانها أو أقاربها أو أصدقاء المدرسة، لكن ذلك لا يكون على أساس صداقة حقيقية. إنها ترغب فقط في رؤية الناس من حولها، حتى لا تواجه الوحدة والفراغ في مرحلة المراهقة. ورغم ذلك، ومع نضج الفتاة، يتضح صفاء شخصيتها، ممّا يسمح للصداقة القائمة على المعرفة بالظهور أمام الناس.

لم يعد هناك صداقة في العالم. أنت تبني على أسس وروابط البيئة، أنت تبني على الروح التي تشبهك، والتي تستطيع أن تتجاوز الحدود المادّية، والمهم هنا أن تؤمن الفتاة بالصديقة، أن الصديق يمكن أن يكون جبلاً، ويسندها دون أن يقلق على تعبها، ويكون وفياً لها، ويفهم الشخص معنى الصداقة، ويدرك أنها ضرورة للإنسان كالعائلة، وليست إضافة للحياة.

 

– إلى أيّ مدى تحدّد الصداقات طريقة الفتاة في رؤية نفسها والعالم من حولها؟

للصداقة دور كبير، في فهم الإنسان لنفسه وللعالم من حوله. أودّ أن أعبّر عن رأيي بمثَل يُقال في منطقتنا بمدينة كوباني: «صديقك مرآتك». غالباً ما يجهل الناس صفاتهم، لكن الصديق الحقيقي، إن كان بجانبك، يستطيع تحليل صفاتك ومشاركتها جيّداً، ويمكنك العمل على تطويرها، لحماية تلك الصفات وتطويرها، ومعالجة السلبية منها، لإجراء التغييرات المناسبة.

غالباً ما تُجنّبك الصداقة الخاطئة حقيقتك. فطريقة ونظرة الصديق إلى جانبك، تؤثّر على العالم. لا تستطيع العديد من الفتيات التعبير عن شخصياتهنّ بشكل كامل. ماذا يُردْنَ؟ مَن هنّ؟ فطرتهنّ تريد شيئاً ما. يتوقّع الأصدقاء من حولهنّ شيئاً خاطئاً. فطرتهنّ ترى ذلك وسيلة، لإرضاء عالم الأصدقاء، أو لإظهار حقيقة شخصيتهنّ. بالطبع، يعتمد هذا أيضاً على أنواع الصداقات التي تُكوّنها.

العالم مترابط. فقط بالصداقة الحقيقية يمكنك معرفة العالم. تصبح روح الإنسان ميؤوسة منها. مَن يطمح لرؤية العالم من حوله، عليه أن يجمّله أمام أعين الناس دون انتظار مقابل. برأيي، رؤية العالم ومعرفته رحلة طويلة، لا تُستكمل إلا بالصديق. الصديق الحقيقي يُبنيك ويُقوّمك، والصديق الكاذب يُدمّرك. لا تُصادق لمجرّد الأصدقاء. ولكي تنجح في رحلة معرفة العالم، لا تبقَ بلا شريك.

 

– إذا حدث صراع بين قيم الأمّ، وما تتعلّمه البنت من صديقاتها، فأيّ صوت يميل لأن يكون أكثر تأثيراً؟

قد تكون القيم، التي تضعها الأمّ لابنتها، وما يتعلّمه الإنسان من أقرانه أهمّ من القيم الأخرى، فأيّ القيم سيكون لها التأثير الأكبر عليه؟ الآن، كفتيات في الشرق الأوسط، نواجه باستمرار التحيّز الجنسي المفروض على النساء، وداخل الأسرة، هذه قيم لا يُسمح لنا بتخطّيها كفتيات. يُعلّمنا أن الأمّهات في النظام الحالي لديهنّ بعض الأمور، التي تمنعهنّ من تحرير أنفسهنّ، ورفض التجاوزات، التي يمكن أن تصبح عليها المرأة. لقد ضيّقوا حدود الحياة علينا. جعلوا من القيم ألا تُغتصب الفتاة، ونريد أن نعيش حياة طبيعية في الوضع الحالي.

بين ما نتعلّمه ونكتسبه من أصدقائنا، تنشأ أحياناً صراعات داخلية بين ما نؤمن به وما تربّينا عليه. وقد ترى الأمّ في هذا الصراع خطراً يهدّد قيمها ومبادئها، لكن المسألة ليست انتهاكاً لتلك القيم، وإنما محاولة لفهمها من جديد، ومقارنتها بواقع مختلف.

وإذا وُجدت آراء متباينة حول قيمة ما، فالمطلوب أن نعمل من أجل الوصل إلى وعي أعمق بها، لا أن نرفضها أو نتبنّاها دون تفكير. فبعض القيم التي لا تتماشى مع روح العصر، تظلّ قائمة بقوّة العادة، بينما تُصرّ الأمّ على ترسيخها في تربية الأبناء، انطلاقاً من حبّها وخوفها عليهم. ومع ذلك، فإن تأثير الأصدقاء لا يتفوّق دائماً على تأثير الأمّ، فلكلّ منهما بصمته الخاصّة في تشكيل الوعي، أحدهما بالعاطفة، والآخر بالتجربة.

من الطبيعي أن ترغب الأمّ دائماً في تنمية الشخص، وفقاً لمعرفتها، وتريد حماية الشخص بنفسها؛ حتى لا تواجه مشاكل الحياة. لن أخوض في الموضوع هنا. بمقارنة حبّ الأمّ للشخص، أو حبّ صديق الشخص، فإن النقطة التي سيكون لها التأثير الأكبر عليك، تتحدّد فقط من خلال نوع القيمة، التي ينشأ فيها الصراع. مع الأمّ، أنت محمي ولكن منغلق. مع الأصدقاء، يمكنك تجاوز الحدود السوداء.

 

 

وفي نهاية هذا النصّ الفلسفي – الحواري العميق، حول مفهوم الصداقة بوصفها تجربة وجودية وأخلاقية، حيث تقاطع فيه تأمّلات أدبية وفكرية، لمجموعة من الكتّاب والمدوّنين، أثبتوا بحراكهم الفكري، أن الصداقة أكثر من مجرّد علاقة بين شخصين، وتتخطّى بأنها تجربة وجودية تكشِف الإنسان أمام نفسه، كما تكشِفه أمام الآخر. اتّضح من مجمل الرؤى والمداخلات، أن الصداقة فضيلة أخلاقية وضرورة روحية، تتيح للذات أن تختبر حرّيتها في أرقى صورها، حرّية الاختيار، وصدق الحضور، وشفافية المشاركة.

من أرسطو إلى نيتشه، ومن الوجوديين إلى الأصوات المعاصرة، ظلّ جوهر الصداقة واحداً، هو أن يجد الإنسان في الآخر مرآة لا تُزيّف صورته، ومساحة آمنة تسمح له بأن يكون كما هو، دون خوف من الحكم أو الفقد. إنها التقاء ذاتين ناضجتين اختارتا أن تتقاسما المعنى، لا الحاجة؛ فالصداقة التي تُبنى على الاكتفاء لا على العوز، هي التي تمنحنا الطمأنينة، في عالم يزداد عزلة وسرعة وزيفاً.

لقد كشفت الحوارات، أن صداقة الإنسان مع ذاته هي الأصل، الذي تُبنى عليه كلّ صداقة أخرى؛ فمَن لا يتصالح مع نفسه، لا يمكن أن يمنح الآخر دفء الحضور. كما أظهرت أن العصر الرقمي، رغم اتّساع مساحاته وفوضاه، جعل من العلاقات أكثر هشاشة، ومن الصدق أكثر ندرة، وأن الصداقة الحقيقية اليوم، فعل مقاومة للسطحية، ونافذة نادرة على إنسانيتنا المنهكة.

 

 


إدريس سالم – شاعر وكاتب كورديّ سوريّ، مقيم في تركيا. مواليد (19 آذار، 1986م). وُلد بقرية «بُورَاز»، التابعة لمدينة «كوباني» الكورديّة السوريّة.

عمل مدرّساً للغة العربيّة، إلى جانب هوايته كمحرّر لعدد من الصحف والمواقع الإلكترونيّة. محرّر وعضو في موقع وجريدة «سبا» الثقافيّة. مدير «مكتبة فيرمين للكتاب» في تركيا.

 

من مؤلّفاته:

1 – «جحيمٌ حيٌّ»:

أول عمل أدبيّ له في الشعر، صدر طبعته الأولى عن دار فضاءات للنشر والتوزيع (تمّوز 2020م)، والطبعة الثانية عن دار الدراويش للنشر والترجمة (أيلول 2022م)، والطبعة الثالثة عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب (كانون الثاني 2025م).

 

2 – «مراصدُ الروحِ»:

ثاني عمل أدبيّ له في الشعر، صدر بطبعته الأولى، عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب (أيّار 2025م).  ض1

google-playkhamsatmostaqltradent