الطريقُ إلى
الشمالِ
لغةُ الذين
لا يُروَّضون، لغةُ الذين لا ينكسرون
إدريس سالم
يخافون من «نَوْرُوزَ»؛
لأنّ الربيعَ لا يُستأنسُ،
والنارُ رمادٌ ووعدٌ بالقيامة.
يخافون من وردةٍ
تَفتحُ فمَها في وجهِ الرماحِ الحديثةِ،
ومن طِفلٍ
يرسمُ شمساً على جدارٍ مكسورٍ،
ولا يخافْ.
يخافون من لِباسِنا،
من ألوانٍ تتشابكُ كقوسٍ بعدَ العاصفةْ،
من قُماشةٍ تحفظُ شكلَ الجبلِ في خيطِها،
ومن امرأةٍ تمشي به، كأنّها قصيدةٌ على قدمين.
يخافون من حروفٍ صَلبةٍ، وُلدَتْ في حَنجرةٍ حرّةٍ،
ومن كلماتٍ، لا تركعُ حينَ تُنادى،
يخافون من أشعار «جكرْخوينَ»[1]،
«مَلاي جَزيري»[2]،
و«أحمدي خَاني»[3]...
يخافون من أغانينا،
من لحنٍ يخرجُ من جرحٍ قديمْ،
يصعدُ إلى السماءِ، كصلاةٍ لا تنطفئْ،
تذكّرُهم بأن للوجع لساناً أجملَ من رصاصِهم.
يخافون من «Mey
Nenoşê»[4]،
أنشودةُ الحنينِ
يخافون من «Kîne
Em?»[5]،
السؤالُ الذي لا يُجاب
يخافون من «Newroz»[6]،
العيدُ الذي يُشعلُ الأرضَ بالولادةِ.
يخافون من «طَنبورِ» علي أكبر مرادي[7]،
صوتُ الجبالِ حينَ تتنفّس.
من الذين علّموا الريحَ أن تعودَ من منفاها،
ومن الذين بَنوا وطناً في الذاكرة
حين سُرقَتِ الأرضُ من تحتِ أقدامِهم.
يخافون من ترابٍ يزهرُ بالدمِ،
ومن عصافيرٍ، لا تعرفُ غيرَ الاتّجاه شمالاً،
شمالَ الحياةِ
شمالَ الحبِّ والسلامْ...
ومن طيورٍ، تهاجرُ نحوَ الضوءِ،
حتّى لو لم يبقَ في السماء ضوءٌ يُرى.
يخافون من حياتِنا،
حياةٌ تُصرُّ على أن تكونَ،
حتّى في العدم.
تخاف الأنظمة القمعية،
من مظاهر الحياة البسيطة، حين تعبّر عن هويتها ووجودها بكرامة. ليس لأنها خطيرة
بحدّ ذاتها، بل لأنها تحمل قدرة رمزية على التحدّي والبقاء والتجدّد. فـ «الوردة،
الطفل، الأغنية، اللباس، اللون، المرأة، وحتى الحنين...»، كلّها تصبح أدوات
مقاومة، تُرعب مَن يسعى لمحو الذاكرة والهوية. فالخوف لا يأتي من السلاح، وإنما من
حياة ترفض أن تموت.
«موقف، بيان وجودي، وصيحة تحدٍّ في وجه القمع والنسيان».
كلمات مدهشة ومشحونة
بالمجاز، بالمقاومة، بالهوية. هذا موقف، بيان وجودي، وصيحة تحدٍّ في وجه القمع
والنسيان. فجمال اللغة يختلط بحرارة الألم، وتمجيد للحياة، للموسيقى، للمرأة،
للطفل، للطبيعة، للأرض، وفضح للخوف الذي يسكن في قلب السلطة، حين ترى ما لا يمكن
قمعه، وهو الأمل. فالشاعر يمارس خطاب مقاومة، ليس بالمواجهة المسلحة، بل بالمواجهة
الرمزية، وهي: الحياة، الفنّ، الطبيعة، الأنثى، الطفولة، الأغنية، الملابس، اللغة.
هذه كلّها أدوات ومظاهر وجودية ترمز إلى الهوية، إلى الإيمان بأن الحياة تنجو، وأن
الجذور باقية، وأن الأمل لا يُقضى عليه بالكامل.
عبارة «يخافون»
تكراراً ومراراً، هي أساس القصيدة: «يخافون من نَوْروز، يخافون من طفل، من امرأة،
من أغانينا...»، هذا التكرار يسلّط الضوء على ذلك الكائن الآخر، القاهر، الذي يخشى
بشدة تجلّيات الحياة، ولادة الربيع، الألم الذي لا يخضع، الفنّ، الصوت، الفعل.
فالتجديد والولادة مقابل القمع والخراب كما هي الحال في الربيع، نَوْروز، الطفل، الشمس، الوردة،
التغريد، اللباس الملوّن، اللهجة، الغناء، المرأة، هي صور الولادة، التجديد،
السطوع، مقابل تلك الصور المظلمة: الرماح، النار، الرصاص، الطين المنهك، الأرض
المسروقة... كلّ ذلك ترادف بين الأمل والعنف، بين الوجود والتهديد...
يعيد الشاعر الكوردي إدريس
سالم، في قصيدته «الطريق إلى الشمال»، تأكيد الذات في مواجهة محاولات النسيان أو
الطمس، فالكثير من المفردات تشير إلى الهوية القومية أو الثقافية: نَوْروز،
الشمال، لباس يختلط ألواناً كقوس بعد العاصفة، التراب، الحنين... كلّها تحقّق فعل
الخطاب المبني فنّياً على المقاومة كالغناء، رسم الشمس على جدار مكسور، المرأة
التي تمشي كقصيدة، الأغنية التي تصعد إلى السماء كصلاة، كلّها ليست زينة فقط،
وأيضاً فعل مقاوم ووجود اجتماعي جمالي. كما يتوسّع إدريس سالم في الصور المتنوّعة،
من الطفل إلى المرأة، من الغناء إلى التراب، من الطائر إلى الحياة، فالصعود
الجمالي في تصوير المعنى، ويبدأ من فكرة الخوف من شيء خفيف أو رمزي، ثم انتقال إلى
صور أكثر تجريداً، أكثر داخلية، حتى تصل إلى فكرة الحياة التي تصرّ على أن تُحيا
«حتى في العدم». هذا الانتقال ينهي المعنى على ذروة تأكيد وجودي.
«يتّسم أسلوب إدريس سالم، بطابعه البلاغي والمجازي القوي، الذي يُعزِّزه إيقاع موسيقي وعاطفي واضح».
يتّسم أسلوب إدريس سالم،
بطابعه البلاغي والمجازي القوي، الذي يُعزِّزه إيقاع موسيقي وعاطفي واضح. إذ ينطلق
من صور شعرية مشحونة بالتناقض، كما في مشهد الوردة التي «تفتح فمها في وجه الرماح
الحديثة»؛ حيث يمتزج الجمال والرِّقة، الممثَّلان في الوردة، بعنف الآلة الحربية،
المرموز إليه بـ «الرماح الحديثة»، هذا المزج التصويري لا يُظهر الوردة كرمز
للضعف، بل يجعل من رقتها وسيلة مقاومة في وجه العنف، ما يُكسب الصورة بعداً
إنسانياً ناعماً ومتمرّداً في آن.
ثم يأتي الطفل، الذي
يرسم شمساً على جدار مكسور، ليمثّل الطفولة البريئة، والبراءة التي لا تزال تحاول
بثّ الأمل وسط الخراب. فالجدار المتصدّع ليس فقط رمزاً للدمار، بل أيضاً خلفية
لاحتمال التجدّد والبناء من جديد، بفعل فعل بسيط وإنساني كالرسم. وهذا يبُرز أسلوب
إدريس في التقاط لحظات الضعف، وتحويلها إلى رموز مقاومة، حيث تُصبح الرقة والبراءة
أدوات لمواجهة القسوة والعنف.
«البطل هو مَن يصنع الخوف».
أما المرأة التي تمشي،
فهي كأنها «قصيدة على قدمين»، هي الكائن اللغوي المتحرّك أساساً، واللحن الذي يخرج
من جرح قديم، يصعد إلى السماء كصلاة، والجرح ليس ضعفاً، بل منبع صوت يعلو، يُسمع،
ويُمجّد.والتكرار لكلمة «يخافون من...»، تُستخدم كمقدّمة للأبيات المتتابعة، مما
يعطي لكلماته إيقاعاً شعبياً تقريباً، كرثاء مكرّر، أو وحدة إيقاعية كشعار، يشكّل
سلسلة موحّدة من المخاوف التي يواجهها الكورد في الحياة.
نثر شعري غير ملتزم
بالوزن التقليدي، لكنه مشحون بالصور والرموز والموسيقى الداخلية، إلا أنه ينبع من
تأمّلات وجدانية، دون أن ينسى البعد الاجتماعي والسياسي.
فهل يمكن وصفها
بالقصيدة السياسية، أم هي قصيدة انتماء، تصيب القارئ لها بالوجع الإنساني الذي
يجتاحنا ويدعونا للسلام؟
استعارات استخدمها
إدريس سالم كأبطال، إذ لا يذكّر الجلّاد تحديداً، لكنه يقول: «يخافون»، والمخيف هو
القهر، السلطة، الرهاب الاجتماعي والسياسي.
البطل هو مَن يصنع
الخوف، وليس الجاني. هذا يعطيه عمقاً وتأثيراً يتجاوز الوضع المحلّي، ويتجه نحو
عموميات واقعية، كسهم يتجه أيضاً نحو الرمز والجهة الزمنية/ المكانية.
«الشمال لدى إدريس سالم هو اتّجاه يرمز إلى الحياة، هو شمال الخبز، والسلام».
«نَوْروز» ثقافياً له
دلالة طبيعية وروحية، هو عيد ولادة الطبيعة، عيد بداية السنة الفارسية/ الكوردية،
وهو التجديد، العودة إلى الأصل. فقد استخدم إدريس «نَوْروز» بدلاً من مجرّد «عيد»،
وهذا يعطي بُعداً تاريخياً وجغرافياً.
«شمالاً»: الاتّجاه
الذي يرمز غالباً إلى الثلج والبرد والظلمة، لكن إدريس سالم استخدمه بشكل معاكس:
شمال الحياة، شمال الخبز، والسلام. فالشمال حوّله إلى رمز للأمل، أو إلى وجهة
يُقتدى بها، والتي ترحّب بها الهوية أنى ما كانت، كوردية أو سواها، فالهوية هنا
للإنسان والإنسانية. فهل الطنبور، الأغاني، الطيور، التراب... كلّها مقوّمات معرفة
محلّية تُستعاد في مواجهة الطمس؟
الطنبور، الموسيقار
الكوردي علي أكبر مرادي، والرمز الموسيقي الذي يعزّز الحسّ التعبّدي للأغنية،
والأصالة والتراث، فإدريس يستمدّ كثيراً من تأثره بالتاريخ، القهر الاستعماري،
النكبة، الهوية، الشتات أو الطرد، والأقوى: الجوع للهوية. فهل القصيدة هي فعل
مقاوم؟ وهل «نَوْروز» نفسه عيد تقليدي ديني ثقافي له جذور عميقة، ولا يعبّر فقط عن
مقاومة فردية، بل عن مقاومة للحظة استثنائية للأمّة والتاريخ؟
أما البُعد الانتفاضي: «من الذين علّموا الريح أن تعود من منفاها؟»، «حين سُرقت الأرض من تحت أقدامهم»، كلّها تشير إلى النفي، والسرقة، والتهجير، والاستيلاء، لكنها أيضاً تشير إلى قوة الإرادة: الريح تعود، الأرض تُستعاد، لكن تُثير زوبعة ربما من الخوف من وعد بالقيام. يمسّ المفاهيم الدينية، والتنبّه إلى البعث، وإعادة التجديد. ليس خطيئة، بل حقّ، وأنه يُروّع المهيمن.
فالقصيدة تُقرأ في
سياق الشعوب التي تعرّضت للقمع، وعانت من الحروب، ومن محاولات محو الثقافة، ومن
الإقصاء الاجتماعي والسياسي، ومن العنصرية، ومن العنف الحكومي. والخوف هو العدوّ
الذي يحاول القمع، لكنه في مواجهة كلّ ذلك يقول:
لا تستطيعوا أن
تسلبونا الأمل، الفنّ، الهوية، الغناء. فهل يحاول أن يزيد من شحنة التأثير لدى
القارئ؟ وهل التكرار المنظّم لكلمة «يخافون من...» يوحي بالتسلسل المنطقي
المتصاعد: من خوف، إلى خوف، حتى بلوغ ذروة النجاح بالتأكيد على الحياة؟
لن أناقش هنا نقاط
الضعف والقوة في هذه القصيدة/ النثر الشعري، التي يؤكّد من خلالها إدريس سالم، أن
الصور هي الأساس في نقل الخبرة والمشاعر، فقد بنى من خلال الصور عالماً من الشعور
والمقاومة والنقد الثقافي/ ما بعد الاستعمار، ليقارب به مقاومة الثقافة، كشعراء
الهوية الذين يرفعون الصوت ضدّ محاولات الطمس. كما أنه أعلن أن للجمال الشعري قوّة
أخلاقية، وأن «للوجع لساناً أجمل من الرصاص».
فهل اقترب إدريس سالم من
مفهوم الأدب كمسؤولية؟ وأن الشاعر مسؤول أمام وطنه، أمام الإنسان، وأمام التاريخ؟ وهل
أراد أن يُظهر أن الخوف ليس فقط حالة سلبية تكملها العزلة، بل إنه مرآة لقوة
الحياة، لأنهم يخافون؟ وهل حافظ على التوازن بين الحسّ الشخصي/ النفسي، وبين بُعد
الجماعة، الاجتماعي، الثقافي، السياسي؟
«الطريق إلى الشمال، هي موقف دفاع عن ذاكرة، وأداة لاستعادة الحقّ في الوجود».
القصيدة ليست فقط
كلمات جميلة، بل هي فعل مقاومة، دعوة للولادة، تأكيد أن الحياة لا تُقمع بسهولة،
أن الهوية باقية، أن الفنّ، اللغة، اللون، الغناء، الجسد، المرأة، الطير،
الطفولة... كلّها أدوات وجود وتحرّر.
قوّتها تكمن في صوتها
المتأجّج في مقاومة الصمت، في رفض أن يكون الخوف مدخلاً للسيطرة، بل أن يُعاد
تحويله إلى طاقة، إلى ضوء، إلى ولادة. فإدريس يتخذ موقعاً مركزياً في تراث الشعر
المقاوم في هذه القصيدة، التي لا تكتفي بوصف الألم، وإنما استخدم الجمال كفعل
مقاوم. فهل يمكن أن تؤدى هذه القصيدة في أداء جماعي؟
إن شعر إدريس سالم لا
يقدّم فقط صوراً شعرية بليغة، بل يُنتج خطاباً مقاوماً، عابراً للحدود بين الجمالي
والسياسي، بين الذاتي والجماعي. عبر استدعاء الطنبور، والأغنية، والتراب، والوردة،
والطفل، ونَوْروز، ينجح في بناء عالم رمزي يواجه به محاولات الطمس والتذويب.
في عالم تُقمع فيه
الهويات بالقوّة، تصبح القصيدة، لا سيما تلك المشبعة بالرمز والتراث، فعلًا
سياسياً ومقاوماً من الطراز الأول. إنها ليست مجرّد كلمات، بل موقف دفاع عن ذاكرة،
وأداة لاستعادة الحقّ في الوجود.
[1]جكرخوين: كاتب وشاعر كوردي، من روّاد الشعر الكوردي الحديث. وظّف
التاريخ الكوردي، واستحضره كقصائد، حوّلها إلى وثيقة تاريخية.
[2]ملّاي جزيري: شاعر وصوفي، من أقدم شعراء الكورد الكلاسيكيين. قمّة
شاهقة من قمم الأدب الكوردي. يذكر دائماً مع الشاعرين الكورديين (أحمدي خاني) و
(فقيه تَيران) كأبرز روّاد الشعر الكوردي.
[3] أحمدي خاني: كاتب وشاعر وفيلسوف ومتصوّف كوردي.
[4] إحدى أغاني رشيد صوفي، وهو مغنّ وموسيقار
كورديّ، وأشهر عازفي آلة العود.
[5] إحدى أغاني شفان بَروَر، وهو مغنّ، شاعر،
وموسيقي كوردي.
[6] إحدى الأغاني الشهيرة، لحسن زيرك، وهو رائد
وأسطورة الغناء الكوردي، مغنّي وكاتب أغاني، قيل عنه بأنه ألّف أكثر من ألف أغنية
في حياته.
[7] علي أكبر مرادي، ملحّن
وموسيقار كورديّ، وخبير في العزف على آلة الطنبور، والموسيقى الصوفية الكلاسيكية.
ويعتبر مرادي المعلّم الأوّل للموسيقى الدينية والمقامات الكوردية.