«نزوة الاحتمالات والظلال»: قراءة في أنطولوجيا الألوهة وسقوط الإنسان في فخّ السلطة الميثولوجية.
إن رواية «نزوة الاحتمالات والظلال»، للروائي السوري مازن عرفة، الصادرة
عن دار الخيّاط – واشنطن 2025م، رحلة في
ظلال العقل العربي ونزواته، حين يتقدّس الاستبداد أسطورة عابرة للأزمنة والأمكنة.
بين سفر الأسطورة ومكائد السياسة، وبين شبق اللذّة الحسّية وعدمية الخواء، يولد
عالم فانتازي مغرق في السخرية، يُعرّي سقوط الإنسان في عبادة ذاته إلى درجة
التقديس بمرتبة الألوهية. إنها رواية تُغري القارئ بالدخول إلى متاهة ملغزة من الرموز
والإشارات وانفلات الجنون إلى أقصاه في عوالم السلطة، حيث يتقاطع الميثولوجي مع
اليومي، في انكسار للأزمنة، ليكشف عن وجه آخر للحقيقة، التي نخشاها جميعاً.
تنتمي رواية «نزوة الاحتمالات والظلال» إلى حقل الرواية الرمزية – الفانتازية السياسية، وهي من الأعمال التي تسعى إلى مساءلة فكرة السلطة في بُعدها الميثولوجي والاستبدادي، عبر بناء سردي مركّب، يتقاطع فيه الواقعي بالأسطوري، والتاريخي بالغرائبي، والماضي بالحاضر، في فضاء روائي تتجاور فيه الهلوسة مع النبوءة، والطقس مع الهذيان.
«تتجاوز الرواية الاستبداد كظاهرة سياسية إلى بُعد أنطولوجي وفلسفي».
يُشيّد عرفة عالماً روائياً، ينفتح على الميثولوجيا
الشرقية، مستعيداً رموز الخصب والموت والبعث، لكنه يعيد توظيفها بطريقة ساخرة،
ومفارقة تكشف تحوّل الإله إلى مستبدّ شمولي، والمستبدّ إلى إله استيهامي زائف. وفي
قلب هذا البناء يقف «الزعيم الجنرال»، الشخصية المحورية، التي تمثّل نواة الخطاب
الرمزي، إذ يتجسّد فيها تأليه السلطة العربية الحديثة بكل تناقضاتها: الثورة التي
تبتلع أبناءها، والخلاص الذي يتحوّل إلى عبودية جديدة، والقداسة التي تنقلب إلى
فحش وهيمنة. فهو يرى نفسه إلهاً للحرب والخصب، إلهاً للحب والجنس، إلهاً للخير
والشر، ومصدر الحياة والموت، في إسقاط واضح على أنظمة جعلت من الحاكم محوراً
للكون، ومن جسده رمزاً للخصوبة والقوة والسيطرة الشمولية، فيقول: «شعبي
المناضل يحبّني، يؤدّي طقوس عبادتي صلوات عامرة الإيمان، بتراتيل الشعارات الثورية
الممجّدة لعظمتي، في المنازل، والمزارع، والمصانع، والمدارس، والشوارع، والحانات،
والمواخير، وحتى في الأحلام». (ص: 10).
يمزج مازن عرفة بين الأسطورة السياسية والسخرية الميتافيزيقية، بطرائق الواقعية – السحرية وفانتازيا التراجيديا – الكوميديا، فيكشف عن طبيعة السلطة بوصفها مرضاً في الوعي الجمعي، ونزوة عابرة للأزمنة والأمكنة، تبتلع الإنسان في ظلالها. وتتحوّل الفانتازيا هنا إلى أداة نقدية حادّة، تفكّك الخطاب الرسمي القائم على الشعارات الثورية الزائفة، وتُعرّي التماهي بين المقدّس والمدنّس، بين الطقوس الدينية وطقوس الولاء السياسي.
«إن عبادة الذات التي يصوّرها عرفة هي تجسيد لقلق الوجود الإنساني حين يُفرغ من معناه».
تتجاوز الرواية الاستبداد كظاهرة سياسية إلى بُعد أنطولوجي
وفلسفي، إذ تُظهر كيف يتحوّل الحاكم إلى كائن ميتافيزيقي، يعيش في عزلة عن الواقع،
تغلفه الأوهام والأساطير، حتى تغدو عبادة الذات صورة بديلة عن عبادة الإله في أقصى
درجات استيهامه. وهنا يلتقي النصّ مع تقاليد «الفانتازيا السياسية» في الأدب
العالمي، لكنه يستمدّ روحه من التراث السردي العربي والشرقي؛ حيث يتجاور الجنّ مع
البشر، والقداسة مع الفجور، والحكاية القديمة مع الواقع المعاصر، في سرد متشظّ
يتجاوز الزمان والمكان.
لا تكتفي الرواية بتعرية الاستبداد كمنظومة سياسية فحسب، لكنها تُعيد أيضاً تعريفه كأزمة وجودية في كينونة الإنسان ذاته. فالزعيم الجنرال هنا لا يتحوّل إلى «كائن ميتافيزيقي» بالمعنى الغيبي، إنما إلى ذات أنطولوجية مشوّهة، تفقد وعيها بحدودها فتتوهّم الألوهة. إن عبادة الذات التي يصوّرها عرفة هي تجسيد لقلق الوجود الإنساني حين يُفرغ من معناه؛ إذ يصبح الطغيان محاولة لتعويض العدم الداخلي، أكثر من كونه سلوكاً سياسياً صرفاً.
تنقسم «نزوة الاحتمالات والظلال» إلى ستّة فصول رئيسية، توزّعت
على (190) صفحة، تتصاعد فيها الأحداث من التكوين الميثولوجي إلى الانهيار الكلي
للذات والسلطة. وهي:
الفصل الأول: أنا إله الخصب والشبق.
الفصل الثاني: أساطير الظلال والصدى.
الفصل الثالث: وحش الفيافي.
الفصل الرابع: أنا إله الألوان والنيران.
الفصل الخامس: عندما تمطر السماء دماء – كوابيس.
الفصل السادس: خاتمة لبدايات جديدة.
«يتصاعد الهوس إلى حدّ الجنون، فنكتشف أن «الإله» كائن مقطوع عن جذره الإنساني، يعاني من فراغ وجودي مليء بالوسواس والارتياب».
فالفصل الأول «أنا إله الخصب والشبق»، هو الأطول والأكثر كثافة لغوية ورمزية، فصل شائك ومعقّد
وصعب، يمهّد للبنية الفكرية الفلسفية للنصّ كلّه. يتحدّث الراوي – الزعيم الجنرال
– بضمير الألوهية، بضمير المتكلّم، معلناً نفسه كائناً مفارقاً للطبيعة، إلهاً
جديداً في الحكاية الجديدة. يتقمّص صورة إله الشبق والحرب، إله الحب والجنس، إله
الخير والشر، ويُعيد خلق العالم من حوله في أروقة قصره، الذي يتحوّل إلى معبد
سلطوي مستبدّ، غارق في وهم الخلود والسيطرة.
يبني عرفة مشهداً كاريكاتورياً عن الزعيم العربي المتألّه،
الذي يعيش مُحاطاً بحاشية من «الوصيفات الثوريات المُثيرات»، اللواتي يمارسنَ طقوس
العبادة الشبقية له. يقدّسنَه بتراتيل الثورة والمجد الوطني والإلهي، في مزيج ساخر
بين الديني والجنسي والسياسي. يطلب إقامة تمثال ضخم له في الساحة، له عضو زمرّدي
منتصب، يرمز إلى إله الفحولة والسلطة والاستبداد، ويُقام بجواره مذبح تُضحّى عليه
أجساد المعارضين.
يتصاعد الهوس إلى حدّ الجنون، فنكتشف أن «الإله» كائن مقطوع
عن جذره الإنساني، يعاني من فراغ وجودي مليء بالوسواس والارتياب؛ لا يرى سوى مؤامرات
تُحاك من حوله، ويشعر أن مستشارَيه، المستشار الإيديولوجي «ثائركان» والشيخ الفقيه
«أبو البركات»، يخدعانه باسم الثورة والدين، لتظهر «الغزالة» – وصيفته الجديدة
وحبيبته المهووسة وحكّاكة ظهره – التي تملك معرفة سرّ ضعفه (حكّة في ظهره)، فتغدو
رمزاً للظلّ الأنثوي الغامض، الذي يعرف كيف يُخضع الإله لسلطته الخفية.
يختتم الفصل بتفكّك الذات الإلهية، في دوّامة الشبق والهلوسة: «الأفيون، الطقوس الجسدية، وصفات الكهنة المقوية للباه»، إلى أن يتحوّل الإله إلى تمثال حيّ فاقد المعنى. ليوجّه عرفة عبر هذا الفصل، نقداً ساخراً وميثولوجياً لفكرة السلطة والاستبداد، التي تتألّه باسم الثورة، ويفضح العلاقة بين شبق الجسد ومكائد السياسة، بين اللذّة والقمع، بين العبادة والاستبداد. تختلط هنا عوالم «ألف ليلة وليلة» الماجنة بطبائع «الاستبداد الشرقي»، العابر للأزمنة في لا وعي الامتلاك الشرقي.
«يتبدّل صوت الراوي من النبرة الميتافيزيقية إلى سرد أقرب إلى الكوابيس، فيخاطب نفسه كمَن يرى انعكاسه في مرآة متكسّرة».
ينتقل السرد من «القصر الإلهي» إلى «عالم المرايا والظلال»،
حيث تبدأ مرحلة التآكل الداخلي للنظام. يظهر مفهوم «الظلال» في الفصل الثاني «أساطير
الظلال والصدى» ككناية عن الخيالات التي صنعها الطغيان، والتي
تتحوّل إلى مرآة فلسفية للوعي الزائف. فالظلال هي «الجماهير»، القطيع التي تصنع
إلهها – قائدها، وتردّد صدى الشعارات دون وعي. هي سلسلة الرموز من الصور
الإعلامية، التماثيل، والأوهام الثورية، التي تمتصّ الوعي الجمعي، التي تتعيش من
طقوس عبادة، تجد جذورها في البنية الأسطورية الدينية، عبر آلهة الصحراء القديمة
(الإله «هبل» والإلهات الغرانيق الثلاث: اللات والعزى ومناة). تبدأ الأصوات
الخافتة بالتمرّد، لكنها تُهمَس في العتمة، وتتحوّل إلى هواجس في عقل الإله نفسه.
يتبدّل صوت الراوي من النبرة الميتافيزيقية إلى سرد أقرب
إلى الكوابيس، فيخاطب نفسه كمَن يرى انعكاسه في مرآة متكسّرة، يرى في الظلال وجوه
معارضيه/ صور وجوده المزيّف، حتّى وجهه هو، فيدرك أنه محاط بأشباح من صُنعه: «وجاء
زمان، تزايدت فيه أعداد الآلهة في الصحارى بشكل كبير، بعد أن قدمت من جميع الجهات،
بضجيجها المليء بالأسرار. أخذت تنبثق مع الأنفاس؛ آلهة لكامل الصحراء، يعبدها
الجميع، وآلهة شخصية لكل قبيلة، وآلهة عائلية لكل دار. ولم لا، أصبح هناك أيضاً
آلهة لليوم الواحد، وآلهة للفعل الواحد، وآلهة للصمت، والصدى، والظلال، والألوان.
أصبحت صخور الأرض تماثيل آلهة، ولحظات الزمن تماثيل آلهة، وأحلام الناس تماثيل
آلهة...». (ص: 73).
يخلط هذا الفصل بين الميثولوجيا والأسطورة الشعبية، مثل أساطير
الأكوان الأولى واللعنات القديمة، وبين التاريخ السياسي الحديث، فكل نظام استبدادي
هو امتداد لأسطورة قديمة تعيد نفسها في زمن جديد. ليرصد به التحوّل من ألوهية
السلطة إلى مرضها الداخلي، حين يبدأ الظلّ (المقموع) بالتمرّد على الأصل
(الطاغية).
إن الفلسفة في هذا الفصل تتجلّى في نقد الميتافيزيقا
السياسية، وفي تفكيك طبيعة العلاقة بين وعي ووجع الإنسان، وقمع وجنون السلطة،
فالبطل يعيش داخل أسطورته كما يعيش الإنسان داخل لغته وهُويته، محكوماً بها حتى
يظنّها هي الحقيقة المطلقة.
يبلغ الفصل الثالث «وحش الفيافي» ذروة جنونه، تحوّله الرمزي. إذ تتخذ الحكاية طابعاً فانتازياً صريحاً؛ يدخل الراوي في رحلة عبر الفيافي باحثاً عن «الوحش»، الذي يهدّد سلطته وألوهيته. يستغل هنا عرفة بجرأة عوالم كائنات الحكايات الشعبية المتشيطنة، ويوظّفها في هذا الإطار، هكذا مع تقدّم الرحلة وتشعّباتها، يتضح أن الوحش ليس إلا كائناً داخلياً، هو ذاته، التي ابتلعت إنسانيتها، ليذكّرنا عرفة بما قاله نيتشه: «مَن يحارب الوحوش عليه أن يحذر من أن يتحوّل هو نفسه إلى وحش»، فالزعيم الجنرال الذي أراد أن يكون إلهاً صار مسخاً، كائناً غامضاً بين الإنسان والحيوان، بين العقل والغريزة.
«الألوان ترمز إلى القناع والزخرفة، والأكوان إلى عالم موجود في عقله فقط، أما النيران فترمز إلى العنف والهدم».
في هذا الفصل تتداخل الواقعية بالهذيان، حيث يواجه الإله كائنات
هجينة، طيوراً برؤوس بشر، جنوداً بأجساد حجرية، عرّافين عميان... كلهم انعكاسات من
ذاته المنقسمة، فيقول عبر لغة أكثر رمزية وتأملية، لغة تمزج بين العهد الميثولوجي
والرمزية الصوفية، لتكشف أصل العدم في قلب الألوهة: «تعبث
الكائنات السحرية المتشيطنة في الأرض، تسرح وتمرح، تتلهّى بدهشات التجلّي والتخفّي،
بألعاب الانبثاق والانفلات، في فضاءات خلاء، لانهائية. غيلان وسَعَال تشرد في بطون
الأودية ورؤوس الجبال، تنشط بتحوّلاتها السحرية، تتلهّى بمختلف ضروب الصور
الآدمية، في رغبات لا تدرك منتهى وهدفاً لها سوى العبث بتشكّلاتها. تتباهى الغيلان
بعيون مشقوقة طولاً، وحوافر ماعز، تعدو بها، وإن ببطء، فيما تتغاوى السعالي
بأذنابها...». (ص: 80). وأيضاً يستعيد في الفيافي «ذاكرة الحكاية
القديمة»، في تلميح إلى ماضيه قبل أن يصبح إلهاً، لتتحوّل الرحلة إلى سفر في أعماق
الوعي، إلى صحراء النفس، حيث لا شيء سوى السراب والظلال. لنكتشف أن الوحش الحقيقي
هو الإنسان، حين يفقد ضوءه الداخلي ومعنى وجوده وطبيعته الإنسانية.
ينبع الفصل الثالث «أنا إله
الألوان والنيران» من لحظة تنوير زائف، إذ
يخيّل للزعيم الجنرال، بعد رحلة الفيافي والضياع والتشرّد، أنه وُلد من جديد،
فيعلن نفسه «إله الألوان والأكوان والنيران»، في إشارة إلى إعادة الخلق وترتيب
الأدوار، وكأنها بعث ثانٍ بعد سقوط أول. غير أن عرفة يكشف أن هذا البعث ليس إلا
عودة أكثر قمعاً وتوحشاً؛ فالألوان ترمز إلى القناع والزخرفة، والأكوان إلى عالم
موجود في عقله فقط، أما النيران فترمز إلى العنف والهدم. فيستبدل الإله ثيابه
الرمادية بألوان صاخبة، ويملأ قصره بلوحات نارية، ويشتطّ الخيال «عبر وصيفته
الغزالة – صدى نزواته المجنونة» بتصويره ككائن كوني متلألئ، لتتداخل الرمزية
الفنية بالسياسية، حيث يتحوّل الفنّ إلى أداة لتزيين الطغيان، وتغدو الألوان غطاء
للجحيم. في هذا الفصل يتجلّى
الصراع بين الخيال والجحيم؛ الإله يتحدث عن الجمال، فيما الخراب يلتهم المدينة،
والنيران المجهولة، التي تشتعل حوله يراها ألعاباً نارية واحتفالاً بعظمته، وبهذا
المشهد، يُدين الكاتب الروائي ثقافة التجميل السلطوي وأساطير «إعادة البناء»، التي
تخفي تحتها نيران الفساد، لكن تبرز بلادة الديكتاتور أمام جنون تدميره الوحشي
للمدن، ومجازره الجماعية، التي لا يراها إلا لعبة «افتراضية – حاسوبية بالمعنى
المعاصر»، يتسلّى فيها بأرواح المدن وسكانها.
إن فصل «عندما تمطر السماء دماء – كوابيس»، هو أحد أكثر الفصول إثارة وبلاغة ورمزية؛ حيث يبلغ النصّ
ذروة الهذيان والانهيار. السماء تمطر دماً، في استعارة لنهاية دورة الحياة وسط
عالم فاسد. تتفكّك شخصية الإله تماماً، يدخل في كوابيس لا يميّز فيها بين النوم
واليقظة. تختلط وجوه الوصيفات العاشقات بالموتى، وصوت الناس بالرياح، وتتحوّل
الجمل اللغوية إلى هلوسات قصيرة متقطّعة.
يبدأ السرد بالتفكّك اللغوي نفسه، الجمل تنكسر، المعنى يتهشّم، كما لو أن النصّ ينهار من داخله. تظهر شخصيات سابقة في هيئة أشباح، ويواجه الزعيم الجنرال تمثاله الحجري، الذي يسخر منه، لتُختتم الرواية بمشهد رمزي، هو الدم يغمر الإيوان: «تمتلئ أرضية الغرفة ببحر متلاطم من الدماء، يزحف نحوي، يغطّي قدميّ، يرتفع إلى ركبتيّ، يصل إلى صدري، يملأ عينيّ، ثم يغمر رأسي. لا أرى إلا دماء، لا أتنفّس إلا دماء، فأعوي بصوت مختنق بالدماء». (ص: 187). هنا يغمر الدم المكان المقدّس، فيتحوّل من معبد للخصوبة إلى مسرح جريمة كونية، حيث تنهار قداسة الإله في حمأة العنف والشهوة، فيعود الطاغية إلى مادّته الأصلية؛ لأن الحياة التي قامت على القمع لا يمكن أن تثمر إلا الخراب.
«تُعرّي «نزوة الاحتمالات والظلال» وهم الألوهة البشرية، وتُحاكم جنون السلطة من داخل لغتها الأسطورية الساخرة».
أما في الفصل الأخير «خاتمة
لبدايات جديدة»، وهو خاتمة قصيرة، تأملية
النبرة، تترك الباب مفتوحاً على نزوة الاحتمالات المفتوحة والمتجدّدة. لا موت واضح
للإله، ولا خلاص للناس، وإنما دورة جديدة تبدأ في الظلال، لتعود نزواتها بآلهة
جديدة، «يصطنعها القطيع الجمعي»، في عالم مبتلى بالاستبداد الذاتي، حيث يتوضع داخل
كل فرد يتوضع إله جاهز للألوهية المرغوبة. وكأننا في هذا الفصل نسمع صوتاً غامضاً،
يقول إن كل نهاية هي بداية أخرى، وإن العالم سيخلق «إلهاً جديداً» كل مرة، ليعيد
المأساة نفسها. فالرواية ليست عن سقوط زعيم واحد، إنها عن استمرار آلة وآلية
الطغيان في التاريخ الإنساني. فالإنسان ما دام يخاف الحرّية، سيعيد اختراع معبوده
في كل عصر.
تأتي هذه القراءة لفصول الرواية – كل فصل على حِدَة – لتكشف
البنية العميقة لـ «نزوة الاحتمالات والظلال»، حيث يتقاطع الأدب بالأسطورة،
والسياسة بالفلسفة، في نصّ تتفجّر منه الرموز والدلالات. هي رواية تُعرّي وهم
الألوهة البشرية، وتُحاكم جنون السلطة من داخل لغتها الأسطورية الساخرة. ومن خلال
هذا المزج بين الواقعي والمتخيّل، يرسم عرفة مشهد الإنسان العربي، وهو يتأرجح بين
الخصب والدمار، بين الأسطورة والسقوط.
يكتب مؤلف رائعة «وصايا الغبار»، هذا العمل الروائي الشائك
والمثير، بوصفه مشهداً متشظّياً بين الحكاية والأسطورة، بين الوثيقة السياسية
والهذيانات الوجودية. يبدأ بصوت متضخم متوهّم يقول: «أنا إله الخصب والشبق، أنا
الزعيم الجنرال...»، لتدخلنا مباشرة في فضاء بارودي ساخر من الألوهة السلطوية. رواية
لا تُروى عبر سرد تقليدي خطّي. رواية تتشكّل من طبقات حكائية متداخلة. «حكاية
جديدة» تتقاطع مع «حكاية قديمة»، و«زمن السلطة» يتشابك مع «زمن الأسطورة». هذا
التفكيك للبنية الزمنية، يخلق إيهاماً دائماً بالدوار السردي؛ فالقارئ يتحرك بين
ماض أسطوري منسي، ومستقبل سلطوي لا نهائي.
يستثمر عرفة تقنية المنولوج الداخلي المهووس، إذ يتحوّل صوت
الراوي/ البطل إلى مرآة لجنون السلطة، فيتحدث عن نفسه في ضمير الألوهية، ليكشف –
دون أن يدري – انحلال الذات المستبدّة وانغماسها في عبث الجسد والدم والرمز...
إذاً تقوم البنية السردية في الرواية، على مبدأ التماثل العكسي؛ فكل ما يظهر في الظاهر عظمة، لكنه ينكشف في العمق انحطاطاً، وكل ما يبدو قداسة يتبدّى فحشاً مقنّعاً. هذا التناوب المستمر بين التضادّات يولّد حركة دائرية تكرّس عبث المعنى، وتجعل الرواية أشبه بملحمة ديستوبية عن الطغيان الإنساني، حيث يتقاطع المجد بالعار، والمقدّس بالمدنّس، في دورة لا تنتهي من الزيف والانهيار.
«الجنس يتحوّل إلى دين، والتمثال إلى وثن جديد، يذبح عليه المعارضون كأضحيات طقوس دينية».
تتقاطع في هذا العمل المشحون بنظام رمزي كثيف، الدلالات
السياسية والميتافيزيقية؛ فالزعيم الجنرال يعني الإله المزيّف. وهو تجسيد للسلطة
المطلقة، التي تصنع لنفسها لاهوتاً أرضياً، فتُحول الشعب إلى رعية سجينة في طقوس
العبادة. رمزية الخصب والشبق هنا تشير إلى جشع النظام في إنتاج الحياة والموت، وفق
نزواته وشهواته وقوانينه. الوصيفات الثوريات تعني الجسد السياسي المؤنّث، يمثّلنَ
الجماهير، التي تتماهى مع سلطة الفحولة، يكرّرنَ طقوس الولاء، ويتحوّلنَ إلى
كائنات بلا إرادة. الجسد هنا يصبح أداة إيديولوجية، ووسيلة للهيمنة، في مفارقة
تُعرّي آلية تحويل المتعة إلى طاعة.
التمثال الأحمر ذو العضو المنتصب، هو رمز ميتافيزيقي فاضح،
لفكرة تأليه الزعيم، عبر نرجسية الجسد، فالجنس يتحوّل إلى دين، والتمثال إلى وثن
جديد، يذبح عليه المعارضون كأضحيات طقوس دينية. في هذا التداخل بين الطقس الديني
والعنف السياسي، نجد نقداً سُريالياً للعبادة السياسية الحديثة.
يمثل الشيخ «أبو البركات» والمستشار «ثائركان» قطبي الدين
والإيديولوجيا في النظام؛ فكلاهما يصنع «خطاباً» لتبرير الطغيان، أحدهما باسم
الله، والآخر باسم الثورة. وعبرهما يُظهر الكاتب وحدة المقدّس والمادّي في فساد
واحد، عبر لغة مزدوجة الطبقة؛ من جهة، هي لغة جسدية فاضحة، توظّف كوسيلة نقدية
لتعرية إيروتيكية السلطة، تلك التي تُمارس الجنس كما تمارس القمع، بلا حب، بلا
إنسانية، وبفائض من الغطرسة. ومن جهة أخرى، هي لغة شعرية ميتافيزيقية، مشبّعة
بالصور الكونية، تستحضر مفردات «النار، النبيذ، الأفيون، الظلال، الغيم،
والخيال...»؛ لتخلق جوّاً من الهذيان الشعري، يجعل الرواية أقرب إلى قصيدة نثرية
طويلة عن الجنون السلطوي.
ميثولوجياً – ومن الإله القديم، نتاج العصور البطريركية
الاستبدادية المشرقية، إلى المستبدّ الحديث المطلق، القادم بعباءة العشيرة أو بذلة
الجنرال، أو كلاهما معاً – تتكئ الرواية على الأسطورة الشرقية القديمة، «آلهة
الخصب والدمار، العشتاريات والملوك الآلهة»، لينسج منها صورة المعاصر. فالإله
الجنرال امتداد رمزي لـ «تموز» و«بعل»، لكنه هذه المرة لا يمنح الخصب للأرض، وإنما
يفسدها بشهواته ونزواته. فالميثولوجيا هنا تخطّتِ الحالة التزيينة الزخرفية، إلى
بنية تحتية فلسفية، حيث يُعاد إنتاج الحكاية الأولى (سقوط الإله) في صيغة سياسية
بحتة.
هكذا يتحول الزعيم الجنرال إلى كائن «نصف إنسي ونصف شيطاني»، يعيش بين المجد القديم والانحلال المعاصر، في استعارة عن الإنسان العربي، الذي فقد صلته بالأسطورة ولم يبلغ حدّ العقل.
«ما هذا الإله الفارغ، إلا من الخواء؟ كأنني تحوّلتُ إلى أحد تماثيلي المنتصبة في الساحات؛ أحجار، معادن، لا تستشعر إلا الخواء». (نزوة الاحتمالات والظلال).
كما يستخدم عرفة تقنية الأسطورة الساخرة، فكل طقس مقدّس
يُقلب إلى مشهد تهكّمي، فالتضحية الطقوسية تغدو إعداماً سياسياً، والمعبد يتحوّل
إلى قصر رئاسي، والكاهن إلى أداة أمن وقمعٍ، وطقوس الصلاة إلى شعار ثوري أجوف. وبهذا
التحويل، يتجلّى الوعي «الما بعد حداثي» في تفكيك الأسطورة ذاتها.
في جوهر الرواية يتجلّى تأمل فلسفي عميق في نشأة الطغيان والاستبداد، وفي طبيعة العلاقة الملتبسة بين الإنسان والسلطة، بين الرغبة والمعنى، وبين الدفاع عن الحرّية والارتهان للعبودية. فالإله في المنظور الرمزي للرواية، ليس سوى الإنسان ذاته، حين يفقد وعيه بحدوده، فيحاول أن يملأ خواءه الداخلي بالقوة والشهوة، غير أن النهاية تنكشف فراغاً وجودياً مطلقاً: «ما هذا الإله الفارغ، إلا من الخواء؟ كأنني تحوّلتُ إلى أحد تماثيلي المنتصبة في الساحات؛ أحجار، معادن، لا تستشعر إلا الخواء». (ص: 26). تتجلّى هنا الرؤية الأنطولوجية للكاتب، إذ يرى أن السلطة ليست سوى محاولة يائسة من الإنسان للهروب من هشاشته، لكنها تقوده في النهاية إلى تلاشيه وانمحائه. إنها نزوة احتمالات وظلال، كما يوحي العنوان، فلا حقيقة نهائية سوى وهم القوة.
في المحصلة، تُعدّ «نزوة الاحتمالات والظلال» رواية تضع
القارئ أمام مرآة ذاته، وتستدرجه إلى مواجهة سؤال السلطة في أعماق الوعي الإنساني.
هي نصّ فانتازي – فلسفي يعرّي قداسة الطغيان، ويحوّل الميثولوجيا إلى أداة نقد
سياسي وجمالي. وبقدر ما تكشف الرواية عن سقوط الإله الزائف، فإنها تدعو إلى بعث
الإنسان الحرّ من رماد الاحتمالات والنزوات والظلال، لتظلّ «النزوة» احتمالاً
للخلاص، لا للهلاك والدمار.