recent
جديدنا

«الميتا – كود» و«الديجا فو»: الإنسان كمنتَج خوارزمي في الأدب والفكر

الصفحة الرئيسية


 

ضحى عبد الرؤوف المل

 

وُلِدت هذه المقالة بعد حديث طويل، مع الروائي السوري، مازن عرفة، حول روايته «نزوة الاحتمالات والظلال»

باتت الحياة اليومية محكومة بخوارزميات لا نراها، والقرارات تُتخذ مسبقاً دون وعي مباشر، لهذا يبرز مفهوم جديد، يعيد تعريف الذات والعالم وهو «الميتا – كود». هو ليس كوداً عادياً، بل نظاماً أعلى، يتحكم في كل الأنظمة. الشيفرة الخفية، التي تكتب الواقع كما نعيشه، وتعيد برمجة الإنسان، لا بوصفه فاعلاً حراً، بل ككائن مبرمج.

هذا المفهوم، الذي يتقاطع مع تصورات ما بعد الحداثة، يُصبح اليوم محوراً لروايات عربية، تخرج من قوقعة الواقعية، نحو مختبرات فلسفية وأدبية، تطرح السؤال الكبير: هل نعيش، أم نُعاش؟ وهل أصبحنا في زمن يسود فيه الغموض، حول ماهية الإنسان والواقع؟
وُلدت في هذا العصر، مفاهيمٌ حديثة، مثل «الميتا – كود» و«الديجا فو»، اللذين يشكلان مفاتيح، لفهم معاناة الإنسان المعاصر، في مواجهة عالم يُعيد إنتاج نفسه بلا توقف. هذه المفاهيم، على اختلاف مصادرها، تلتقي عند نقطة مركزية، وهي إعادة التفكير في الزمن، الذاكرة، والهوية.

يُكتب العالم لا بوصفه تسلسلاً منطقياً، بل كنتاج برنامج غير مرئي – برنامج يمكن تعديله، اختراقه، أو حتى الانقلاب عليه

في الأدب العربي المعاصر، خصوصاً في نصوص ما بعد الحداثة والخيال العلمي، تصبح هذه المفاهيم أدوات نقدية، تعكس أزمة الوجود والذات. هذه المقالة ولدت بعد حديث طويل، مع الروائي السوري مازن عرفة، حول روايته «نزوة الاحتمالات والظلال». فحاولت السعي لاستكشاف العمق الفلسفي والوجودي لهذين المفهومين، وكيف يتجسدان في الخطاب الأدبي، وهل «الميتا – كود» هو البرنامج الخفي للواقع والذات؟

«الميتا – كود» هو شفرة فوق الشفرات، الكود الذي يتحكم في الكودات الأخرى. إنه النظام الخفي، الذي يحكم تكرار الأحداث، إنتاج السلطة، وصناعة الهويات. لم يعدِ الإنسان في هذا الزمن كائناً حر الإرادة، بل ناتجاً لخوارزميات غير مرئية، تُعيد إنتاجه كما يعاد برمجة آلة ذكية. فهل من تداخلات فلسفية ونفسية بين مفهوم «الميتا – كود» و«الديجا فو»، رغم أن كل منهما يأتي من منبع مختلف تماماً، «الميتا – كود» من الفلسفة والتكنولوجيا، و«الديجا فو» من علم النفس والإدراك. وماذا يعني كل منهما؟

«الميتا – كود» هو الشفرة التي تنظم الشفرات، أو بتعبير أوضح: هو البنية الخفية التي تحدد كيف تعمل الأنظمة الظاهرة. في التكنولوجيا، هو أقرب إلى الـ "Meta-Programming"، أي الكود الذي يولّد أكواد أخرى.

«الميتا – كود» نظام يعيد إنتاج الأنماط والسلوكيات، بشكل متكرر عبر الزمن، عبر إعادة برمجة الواقع. «الديجا فو» هو إحساس بتكرار تجربة أو موقف، كأن الواقع يعيد نفسه، أو كأن هناك شريطاً مسجلاً، يُعاد تشغيله

وفي الفلسفة، يشبه «اللاشعور الجمعي»، أو أنظمة التفكير غير المرئية، التي تشكل وعينا دون أن نختارها. في الأدب، يتحول هذا المفهوم إلى أداة لتفكيك السرد الواقعي، حيث يُكتب العالم لا بوصفه تسلسلاً منطقياً، بل كنتاج برنامج غير مرئي – برنامج يمكن تعديله، اختراقه، أو حتى الانقلاب عليه، بما فيها نظام الوعي والواقع.

«الديجا فو»: هو شعور مألوف وعميق بالحدث، الذي يعيشه الفرد، وكأنه قد مر به من قبل، رغم أنه جديد. تجربة إدراكية، تشير إلى تكرار، أو إعادة لحدث ما في الذاكرة، أو الإدراك. فما هي نقاط التشابه بين «الميتا – كود» و«الديجا فو»؟

«الميتا – كود» هو نظام يعيد إنتاج الأنماط والسلوكيات (مثل السلطة، الطغيان، الرغبة)، بشكل متكرر عبر الزمن، عبر إعادة برمجة الواقع. «الديجا فو» هو إحساس بتكرار تجربة أو موقف، كأن الواقع يعيد نفسه، أو كأن هناك شريطاً مسجلاً، يُعاد تشغيله. الشعور بالتحكم الخفي أو النظام الخفي، «الميتا – كود» يمثل نظاماً خفياً يحكم الظواهر. «الديجا فو» يعكس في بعض التفسيرات شعوراً بأن هناك نظاماً داخلياً أو خارجياً، يعيد ضبط الذاكرة أو الإدراك. فهل «الميتا – كود» يطرح فكرة أن الواقع ليس كما يبدو، بل هو محاكاة أو كود مخفي؟ أو هل «الديجا فو» يخلق تشويشاً في الإدراك عن الواقع الحقيقي؟ وهل هو جديد أو مكرر؟

«الميتا – كود» يطرح أن الواقع والهوية مبرمجان ومصنوعان، ما يعني فقدان جوهر أصيل. «الديجا فو» يعطي شعوراً بأن اللحظة ليست فريدة، وأن الأصالة في تجربة الوقت ربما ليست حقيقية. لكن نقاط الاختلاف في «الميتا – كود»، وهو مفهوم فلسفي وتقني، يصف آليات نظم كاملة تحكم الواقع والسلوك، ويُستخدم في تحليلات أدبية وفلسفية معقدة. و«الديجا فو» هو تجربة نفسية فردية، ترتبط بالذاكرة والإدراك.

حتى اللغة في الرواية المعاصرة، قد تتحول إلى كود. الصور البلاغية، الزخارف اللفظية، لا تعبّر عن المعنى، بل تُخفيه. البلاغة نفسها قد تصبح جزءاً من «الميتا – كود»: بمعنى لغة متخمة تخفي فراغاً داخلياً، كما في رواية مازن عرفة «نزوة الاحتمالات والظلال»، أو بعض أعمال أحمد سعداوي.

الرواية لا تسرد، بل تُشفّر. «الميتا – كود» هو العقل الخفي للنظام، لكن الأدب قد يكون الهاكر المضاد، بمعنى القادر على فضح الشفرة، تفكيك النظام، أو على الأقل زرع الفيروسات فيه. الأدب اليوم لم يعد يحكي فقط عن البشر، بل يعيد كتابة سؤال: ما الإنسان؟ هل هو فاعل، أم مفعول به؟ هل هو جوهر، أم منتَج؟هل يستطيع أن يكتب نفسه، أم أن النص قد كُتب مسبقاً، في مكان ما، بلغة لا نفهمها؟ وفي الأدب، كما في رواية «نزوة الاحتمالات والظلال»، يتجسد هذا المفهوم في شخصية السارد، الذي يُعلن صراحة أنه «مبرمج ببرنامج محاكاة». هنا الطغيان ليس شخصية فردية، بل نزوة احتمالية، تتكرر حسب شروط «الميتا – كود».

هل علاقة «الميتا – كود» بالـ «الديجا فو» هي لعبة التكرار والنسخ؟

هكذا تتحول السلطة والسيطرة من واقع تاريخي إلى كود منطقي، لا يُكسر إلا بإعادة برمجة شاملة. «الميتا – كود» يعيد تعريف الزمن، إذ لا يعبر عن تسلسل خطي، بل عن حلقات متكررة ومُبرمجة، والإنسان مجرد نسخة تُعاد تهيئتها باستمرار، مما يعيد تشكيل مفهوم الذات من كيان مستقل إلى مصفوفة بيانات قابلة للتعديل. وبينما يعيد إنتاج العالم بمنطق خوارزمي، يعبّر «الديجا فو» عن إحساس الإنسان الفردي بارتدادات ذلك التكرار في وعيه. هو شعور مفاجئ بأن اللحظة الحاضرة ليست جديدة، بل معادَة، وكأنها جزء من شفرة زمنية مكررة.

وفي فلسفة الزمن، «الديجا فو» يفضح التشظي في الإدراك، وغياب الأصالة في التجربة. عندما نعيشها، نشعر أننا محاصرون في شبكة زمنية يُعاد فيها تشغيل نفس المشاهد، هذا يعكس في النصوص الأدبية حالة الوعي المتأرجح بين الحضور والغياب، بين الأصالة والتمثيل. فهل علاقة «الميتا – كود» بالـ «الديجا فو» هي لعبة التكرار والنسخ؟ خاصة وأن كلاهما يتشاركان في مفهوم أساسي: التكرار. لكنهما يختلفان في حجمهما وأثرهما. فالـ «الميتا – كود» هو النظام الأكبر، العقل الخفي، الذي يعيد إنتاج الأنظمة والسرديات الكبرى: السلطة، الثقافة، الهوية. و«الديجا فو» هو انعكاس ذلك التكرار في شعور الفرد. انعكاس تجريبي لإعادة إنتاج الزمن والواقع. بهذا المعنى، «الديجا فو» هو «وميض إدراكي» لـ «الميتا – كود». إنه تجربة فردية لأزمة جماعية، لحظة وعي بكون الذات جزءاً من نظام يُعاد إنتاجه مراراً وتكراراً.

في الأدب العربي المعاصر، خاصة في أعمال ما بعد الحداثة والخيال العلمي، يتحول النص الأدبي إلى مختبر فكري، يحاول تفكيك «الميتا – كود»، الذي يحكم المجتمعات والذات. النص يصبح شيفرة داخل الشيفرة، يكشف عن لعبة الظلال، التي يعيد النظام إنتاجها. اللغة تتلبس بالبلاغة المفرطة، التي تكشف عن فراغها، الصور تتكرر لتصبح مجرد ظلال، والزمان يتحول إلى دوائر مفرغة. المشاهد مثل انتظار الخبز مع رائحة لا تُشبع في رواية «نزوة الاحتمالات والظلال» تجسد كيف تُعاد برمجة الحواس والخبرات عبر «الميتا – كود».

 

هل نحن طغاة على أنفسنا؟ نصنع أصناماً ثم نعبدها؟

إذ يتقاطع المفهومان في النص، حيث يعايش القارئ حالة «الديجا فو» كحالة وعي، تفضح تكرار «الميتا – كود»، ويعيش تجربة الطغيان ليس كحدث تاريخي، بل كشرط وجودي، يُعاد إنتاجه في ذاكرة الجماعة والفرد. فهل نحن نتجه نحو كتابة جديدة للإنسان في زمن الكود والظل؟

الإنسان ليس جوهراً ثابتًاً، بل نتيجة لعمليات حسابية، تُجريها أنظمة خفية: إعلام، تعليم، دين، اقتصاد، ذكاء صناعي، سوشيال ميديا... الخ. «الميتا – كود» لا يغيّب الإنسان فحسب، بل يصنعه وفق احتياج السوق والسلطة والسردية المهيمنة. لا يُنتج الأشخاص، بل يُنتج صورهم الرمزية. في زمن «الإنفلونسر»، لا يهم من أنت، بل كيف تُصوَّر. نحن نعبد تماثيل، لا أشخاصاً؛ نعيش في ظلّ الأصل لا الأصل ذاته. من هنا، يصبح السؤال: هل نحن طغاة على أنفسنا؟ نصنع أصناماً ثم نعبدها؟


«انبثقت إلى الحياة في حكاية جديدة... مبرمجاً ببرنامج محاكاة». نزوة الاحتمالات والظلال

في عالم حيث «الميتا – كود» يعيد برمجة الذات والواقع، و«الديجا فو» يختزل هذه البرمجة في لحظات إدراك غريبة، يصبح الأدب المعاصر مهمة فضح البرمجة الخفية، وتحطيم تماثيل الزمن الخطّي، والتشكيك في مفهوم الهوية الثابتة. هذه الأدوات الفكرية تسمح للأدباء والقراء على حد سواء بإعادة التفكير في سؤال الإنسان المركزي، وهو هل نحن أحرار نصنع واقعنا، أم مجرد ظلال وأكواد تتحكم بنا؟ وهل ستصبح تجربة «الميتا – كود» و«الديجا فو» دعوة متجددة إلى الوعي والتحرر، من نظام يُعيد إنتاج نفسه على حساب الإنسان ذاته؟

في رواية مثل «نزوة الاحتمالات والظلال»، لا يظهر الطاغية كشخص، بل كإفراز خوارزمي. السارد يقول: «انبثقت إلى الحياة في حكاية جديدة... مبرمجاً ببرنامج محاكاة». هنا، تتحول السلطة من هيكل سياسي إلى نظام برمجي: الطاغية لا يُولد من رحم المجتمع فقط، بل من «ميتا – كود»، يعيد إنتاجه، عندما تتوافر الشروط اللازمة. كلما سقط تمثال، نهض غيره، لأن النظام الذي يُنتجه لم يتغير. فالـ «الميتا – كود» لا يحكم فقط الطغيان، بل شكل الواقع ذاته. نحن لا نعيش الحقيقة، بل نعيش تمثيلها، محاكاتها، أو ما يسمى «الواقعية الفائقة»، التي لا أصل لها. إذ يُصبح الإنسان مجرد احتمال في معادلة، نسخة تجريبية من نموذج لم يُعرف أصله بعد.

فالروايات الحديثة لا تكتب الواقع، بل تكتب كود الواقع، وتحاول فضحه، أو على الأقل جعله مرئياً. هذا التحول هو ما يمنح الأدب المعاصر وظيفة جديدة: أن يكون كاشفاً للبرمجة الخفية.

الروايات الحديثة تكتب كود الواقع، وتحاول فضحه، أو على الأقل جعله مرئياً

وهذه هي المعادلة الرمزية، التي انبثقت أثناء حديثي مع الروائي مازن عرفة، والتي جعلتني أتذكر أستاذي في الرياضيات فيليب متا – رحمه الله – ولا أعرف لماذا شعرت، أننا معادلة كُتبت في الحياة، ونعيش تفاصيلها. كما جعلتني أفكر كثيراً بمستقبل الرواية القادمة، وهي إنسان يساوي رغبة زائدة، نظام إدراك زائد، خوارزمية سلطة مقسوم عليها، ذاكرة مُعاد إنتاجها، ينتج عنها ما حاولت شرحه في هذه المقالة، وهي ما سنشهده في الروايات الذكية المعاصرة.

 

google-playkhamsatmostaqltradent