تطرح لوحة الفنان اللبناني،
جبران طرزي، في قلب «متحف نابو» سؤالاً عميقاً حول الذاكرة البصرية. إذ تبرز لوحته
الهندسية، التي نراها بإيقاعاتها المربّعة والمثلثة، وألوانها المائلة إلى الأخضر
المائي، كعمل مفصلي في المعرض؛ لأنها تُجسّد العبور من الرمز الأسطوري إلى الرمز
البنيوي. فهي تُعيد صياغة الوعي القديم، بلغة هندسية حديثة، وتحوّل ما كان
ميثولوجياً إلى بنية معرفية، تجمع بين الفن والفيزياء والفلسفة. فهل تحوّل الرمز
عبر الزمن من جلجامش إلى الهندسة؟
إن معرض «هويتنا
ورموزنا، من جلجامش وبعل وأدونيس إلى الحاضر»، هو مشروع فكري وجمالي، يتتبع كيف
تظل الرموز الأسطورية حيّة عبر آلاف السنين. إذ يقدّم المعرض رحلة في الزمن، من
الأسطورة الأولى إلى الفن المعاصر، من النسيج إلى اللوحة، ومن المعتقد إلى
التجريد. هو ليس عن الماضي فقط، بل عن الاستمرارية التي تشكّل جوهر الهوية
الثقافية في منطقتنا.
في ملحمة جلجامش، كانت
الأسطورة هي لغة الإنسان لفهم مصيره أمام الموت. في أسطورة بعل، كانت الطبيعة
نفسها كائناً إلهياً يموت ويُبعث. وفي أدونيس، تتكرّر دورة الحياة في طقس الربيع
الأبدي. كل هذه الأساطير ليست حكايات، بل أنماط رمزية تصف الحركة الكبرى بين
الفناء والبعث، بين النظام والفوضى. فاللوحة
لا تمثّل هذه القصص، لكنها تستعيد منطقها الداخلي وهو التكرار الهندسي
يوازي التكرار الكوني في موت أدونيس وعودته. المربّع المغلق يرمز إلى الجسد
المادي، والمثلث المنفتح إلى الطاقة الروحية أو الصعود. التناظر المكسور يعكس فكرة
الصراع بين النظام والفوضى، بين الحياة والموت.
بهذا المعنى، تتحول
الأسطورة من سرد إلى نظام بصري، ومن قصة إلى رياضيات رمزية. ما كان يوصف عبر الإله
والطقس، يُعاد التعبير عنه عبر اللون والنسبة والتوازن. فماذا عن الذاكرة الشكلية
من النسيج إلى اللوحة في هذا المعرض؟
الهوية البصرية في
منطقتنا لم تُحفظ في الكتب فقط، بل في النسيج والزخرفة والتطريز. حين تتأمل تطريز
امرأة من جبل عامل أو من نابلس، تجد أشكالاً مثلثية ومعينات وصليباً مائلاً؛ هذه
لم تكن صدفة، بل استمرارية رمزية تعود إلى جذور ما قبل الكتابة. المعرض «هويتنا
ورموزنا» يذكّرنا بأن التطريز ليس مجرد حرفة، بل أرشيف أسطوري حي. الرموز التي
كانت تمثل الخصب أو الحماية أو الزمن، صارت زخارف، ثم تحوّلت اليوم إلى لغة
تجريدية. لهذا، لوحة جبران طرزي تجسّد هذه الذاكرة الشكلية من ألوانها المائلة إلى
الأزرق المخضر، تذكّر بلون الفيروز، الذي كان يُستخدم في الطقوس القديمة رمزاً
للحياة. التكرار المنتظم في المربعات يحاكي نسيج القماش، والفراغات الدقيقة بين
الخطوط تشبه خيوط التطريز. هكذا، تقيم اللوحة جسراً بين اليد الشعبية التي خاطت
الرمز، والعين المفكرة التي أعادت تأويله. فهل هذه اللوحة هي معادلة كونية؟ وهل كل
نظام يحمل داخله انزياحاً بسيطاً يُنتج الحركة، وهل كل تماثل لا يكتمل إلا بخللٍ
خفي؟
تكرار المربعات في
لوحة طرزي، وحتى في فكرة النسيج لا يصنع الجمود، بل إيقاعاً نابضاً؛ كأن كل خلية
هندسية تنبض بطاقة داخلية خافتة. هذه الطاقة
التي اكتشفها طرزي هي المعادل البصري لفكرة الخلق المستمر، التي نجدها في
الأسطورة، وهي العالم لا يُخلق مرة واحدة، بل يتجدد في كل دورة، في كل اختلاف صغير
داخل التماثل الكبير. فهل كل هذا ليس للزينة فقط؟ بل هو فيزياء للرمز، فلوحة طرزي
في هذا المعرض تجعلنا نرى كيف يمكن للنظام أن يكون حياً، وللشكل أن يتنفس،
وللتكرار أن يكون تذكيراً بالأبدية لا بالملل.
اللوحة تتجاوز مفهوم
«الجميل» التقليدي، القائم على التمثيل أو الإحساس المباشر، ليقدّم جمالاً بنيوياً
عقلانياً. إنه الجمال الذي تحدّث عنه كانط ومالرو، أي الجمال الذي يولد من إدراك
الانسجام الداخلي، لا من المحاكاة. إذ تتحول اللوحة إلى فكر بصري، فهي ليست شيئاً نراه، بل طريقة في التفكير عبر
العين. كل خطّ فيها فكرة، وكل زاوية معادلة. وهذا هو التحول العميق الذي يقترحه
المعرض، أن الرموز التي بدأت في المعابد والطقوس، تجد اليوم مكانها في صالات العرض
كأنظمة تفكير عن الوجود. فهل يمكن القول أن البنية الفنية هي بنية أسطورية أم بنية
تتقارب مع معنى النسج الشامل في كل شيء من حولنا؟
وفقاً للفكر البنيوي
(كلود ليفي – شتراوس)، الأسطورة ليست قصصاً متفرقة بل نظام من العلاقات الثنائية، أي
الحياة/الموت، الطبيعة/الثقافة، النظام/الفوضى. واللوحة، بمنطقها الرياضي، تُعيد
بناء هذا النظام نفسه، التماثلات تمثل النظام، والفوارق الدقيقة تمثل الفوضى
الخلّاقة.
إنها أسطورة جديدة
بلغة الأشكال. ففي حين استخدمتِ الأسطورة القديمة الإله لتفسير الكون، تستخدم
اللوحة العلاقة الرياضية لتمثيله. وهذا أحد أهم أهداف المعرض، وهو إظهار أن البنية
هي الامتداد الحديث للأسطورة، وأن الرمز لا يموت بل يتجلى بأدوات جديدة. فهل الفن
في منطقتنا لم يكن يوماً منفصلاً عن الذاكرة الجماعية؟
من الرسوم السومرية
الأولى إلى زخارف الموزاييك البيزنطية، ومن تطريز الثوب الفلسطيني إلى الفن
التجريدي الحديث، هناك خيط واحد من الرموز يتطور عبر الزمن. ولوحة طرزي في هذا
المعرض تمثل تجريداً لتلك الذاكرة، إعادة برمجة للرمز القديم في لغة هندسية
معاصرة. فهي ليست عملاً معزولاً، بل استمرار لخطّ حضاري يرى في الشكل وسيلة لحفظ
المعنى. كل مثلث فيها يمكن أن يُقرأ كإشارة إلى جبل، إلى رمح، إلى حركة، إلى شجرة
الحياة، وكل مربع كصندوق يحفظ السرّ، أركيولوجيا للرمز، لا مجرد سطح لوني. فهل
عنوان المعرض “هويتنا ورموزنا” يفتح السؤال الأكبر وهو هل الهوية تُبنى من الذاكرة
أم من التجدد؟وهل هذه اللوحة تجيب بلغة الشكل أو كلاهما معاً؟ وهل الهوية هنا حركة
بين الثابت والمتحوّل، بين الشكل الموروث والانزياح الحديث؟
كما تتكرر رموز جلجامش وبعل وأدونيس، لكنها تُعاد قراءتها من جديد في التطريز والفن والنحت، كذلك تُعيد لوحة طرزي تعريف الهوية عبر النظام البصري. إنها تقول إن الهوية ليست شعاراً، بل نظام علاقات ورموز تشكل طريقة في الرؤية والفكر، وفي ذلك تكمن حداثتها وصدقها الجمالي. فاللون في هذه اللوحة ليس عنصراً ثانوياً بل لغة ميتافيزيقية. اللون المائل إلى الأخضر المائي، هو لون الينبوع والخصب والحياة، لون أدونيس العائد في الربيع، ولون بعل سيد المطر. لكنه في الوقت نفسه لون عقلي هادئ، يوحي بالاتزان والبحث العلمي، وكأن الفنان يريد أن يجمع بين الحدس الأسطوري والعقل التحليلي. كل درجة لونية هنا تشبه صوتاً في لحن هادئ؛ إنها هندسة مائية للذاكرة. من خلالها نقرأ كيف يُمكن للمعنى أن يعيش في اللون كما يعيش في الكلمة، وكيف يمكن للوحة أن تكون معبداً صغيراً للانسجام وسط عالم مضطرب.
إذا كان علم الأسطورة
يدرس بنية الحكاية القديمة، فإن هذا المعرض يقدّم ما يمكن تسميته بعلم الأسطورة
البصرية، أي دراسة كيف تتحول الرموز القديمة إلى أنماط تشكيلية معاصرة. ولوحة الفنان
العبقري طرزي ودون مغالاة هنا هي نموذج لهذه العملية، هي «أسطورة» لم يعد فيها إله
ولا موت ولا قيامة، بل علاقات هندسية تحمل في طياتها المعنى الكوني نفسه. فالفن
هنا ليس استذكاراً للماضي، بل إعادة تفعيل للرمز في فضاء جديد. إنه عمل فلسفي
يذكّرنا بأن الرمز هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الماضي والمستقبل معاً؛ لأنها
تنتمي إلى البنية، لا إلى الحدث. فهل الأسطورة لا تموت، بل تتغير مادتها؟
في ضوء المعرض «هويتنا
ورموزنا»، يمكن القول إن هذه اللوحة تمثل المرحلة الأخيرة من تطور الرمز في
ثقافتنا. من النقش الميثولوجي إلى النسيج الشعبي، ومن الزخرفة إلى التجريد، ومن
الشكل إلى الفكرة. هي تجسيد لفكرة أن الإنسان، مهما تبدّلت أدواته، ما زال يبحث عن
المعنى عبر الشكل، وعن الخلود عبر النظام. ما فعله جلجامش بالسؤال عن الخلود،
تفعله اللوحة اليوم بالسؤال عن بنية الجمال والمعرفة. إنها لا تشرح الأسطورة، بل
تعيشها بلغة جديدة. فحين ننظر إليها، نرى ذاكرة العالم وقد أعيدت هندستها كل خطّ
فيها خيط من نسيج الأسطورة، كل لون ظلّ من وعي قديم، وكل مربع خلية من هوية لم تزل
تنبض فينا.
في نهاية مقالتي هذه، أقول أن لوحة طرزي ليست مجرد عمل جمالي في المعرض، بل بيان بصري عن هوية الوعي الإنساني في هذه المنطقة. إنها تقول إن الرموز التي صنعت أساطيرنا لا تزال تعمل فينا، لكنها لم تعد بحاجة إلى معابد أو آلهة، بل إلى هندسة دقيقة ولون صامت يعيدان إلينا القدرة على التأمل. هذا هو جوهر لوحة جبران طرزي في معرض «هويتنا ورموزنا»، الذي يقام في «متحف نابو» شمال لبنان أن يبيّن أن الفن ليس فقط ذاكرة الأسطورة، بل امتدادها الفكري، وأن الهوية ليست ثابتة في التاريخ، بل تتحرك معه كإيقاع هندسي خالد. هكذا تُصبح اللوحة أكثر من سطحٍ تجريدي معلقة على جدار معرض، إنها خارطة الروح القديمة، وقد أعيد رسمها بالعقل الحديث، اتحاد بين جلجامش الباحث عن الخلود، وبين الفنان المعاصر الباحث عن معنى الشكل، الذي أصابه الخلود والحياة في هذه اللوحة التي تتجدد خلاياها كلما تأملناها.
![]() |
| لوحة الفنان جبران طرزي في معرض متحف نابو شمال لبنان |



