سربند
حبيب / خاص سبا
كارمينا
بورانا: هي كانتاتا من أعمال الملحن كارل أورف، قدمت لأول مرة في عام 1937 وهي
تستند إلى 24 قصيدة أختارها المؤلف من بين مئتين وخمسون قصيدة تعود إلى القرون الوسطى لعام 1280. كتبت هذه
النصوص معظمها باللغة اللاتينية ومن خليط من الألمانية البافارية الجنوبية
والعامية الفرنسية القديمة. وتتنوع مواضيعها بين الدين والحِكم وأغاني السكارى
وأغاني الحب العاطفية والماجنة. وأفضل حركة معروفة هي القطعة الأولى أو فورتونا O Fortuna (آلهة القدر).
لؤلؤة
موسيقية" هذا ما تصوغه تقانة و فرادة عمل موسيقي بمستوى مقطوعة "كارمينا
بورانا "، التي تعد واحدة من أشهر المؤلفات الموسيقية، وأكثرها شعبية في مجال
الموسيقى الكلاسيكية ، بالإضافة إلى أهميتها التاريخية، وما تسرده من مضمون تاريخي، إنها نص ملحمي يحكي سير وقصص
ثورة رهبان أحد الأديرة في القرنين ال12 وال13 م. وتتمحور فكرة هذه النصوص بمعظمها
حول دوران عجلة القدر. ففي كل مشهد وأغنية تدور عجلة القدر فتتحول البهجة إلى حزن
وينقلب الأمل إلى مرارة.
يستغرق
إداؤها زهاء ساعة، وتجمع بين الموسيقى، وغناء الكورس، والسوبرانو، والتينور،
والباريتون، وغناء الأطفال. الاوركسترا تضم مئة عازف، والكورس يضم مئتي مغنٍ
ومغنية، وغناء خمسين طفلاً، الى جانب الأصوات المفردة. هذه الكانتاتا تعد واحدة من
بين أجمل الإنجازات الموسيقية في القرن العشرين. إنها تخاطب أرقى المستمعين
وأبسطهم بإيقاعاتها الموقظة للحواس، وكلماتها المثيرة: إن سيدات الجمعية الكورالية
يصرخن: «إذا كان القدر يضرب الرجل القوي، فإن الكل ينتحبون معي». أو إذا كان
مزاجهن أكثر مرحاً: «فإن عذريتي تجعلني لعوباً، وسذاجتي تطوقني. آه، آه، آه، أنا
أقبل على الحياة بكل إندفاع». كل هذا في حين ان الرجال المرتدين جاكيتات السهرة
يغنون أغنيات فاسقة وهم سكارى.
تستهل
(كارمينا بورانا) بصيحة O Fortuna الساحرة، والنص يضرب على وتر الإيمان القروسطي
بعجلة القدر كمتحكم في مصير الإنسان. في وسط العجلة هناك سيدة الحظ، وفي محيطها
أمير يتقلب مصيره بين الفقر الشديد والغنى.
أيها القدر
أنت كالقمر
متغير بين النمو والانمحاق
شيء كريه
أول الأمر تظلم
ثم تصبح لطيفاً
كما هو الوهم
بين البؤس والمجد
أشياء تذوب كالثلج.
لماذا اكتسبت كارمينا بورانا شعبية؟
كارمينا بورانا عمل موسيقي حديث ينتمي الى القرن
العشرين، لكنه بسيط في هارمونيته، على خلاف معظم الموسيقى التي تم تأليفها في هذا
القرن. إن الإيقاع الرئيسي والروائع الموسيقية الأساسية تتيح للمستمعين بأن
يتجاوبوا على الفور. في إطارٍ ما يبدو العمل بربرياً ووثنياً وشديد الإقناع. إنه
مقدمة مذهلة للموسيقى الجادة، وعلى وجه الخصوص لأولئك الذين يفكرون بصورة جادة أو
يعتقدون الموسيقى «الكلاسيكية» مضجرة ورتيبة.
فعند
سماع المقطوعة للوهلة الأولى تبدو كأنها تنطوي على مفارقة في الجمع بين الجمالية
اللحنية والأسلوب الوحشي لموسيقى القرع في التزاوج بين المقطوعات الحديثة وتلك
التي تنتمي الى القرون الوسطى. وتتكئ اوركسترا أورف الشديدة التلوين على الطواف
على آلات القرع الذي يؤديه خمسة عازفين، وإن الإسلوب الموسيقي يتراوح بين الترتيلة
البسيطة والمقاطع الإيقاعية الشبيهة بموسيقى الروك. ومقطعا الافتتاح والختام
اللذان ينطقان بكلمة O Fortuna يعكس أحدهما الآخر كما في مرآة. يبدآن بكل
عنفوان، ثم على حين فجأة يهبطان الى حالة من الإدهاش. بين هذه النهايات نسمع
موسيقى من عدة أساليب، مع عنصر تكراري منوم، وصفاء مذهل في صوت السوبرانو المنفرد
وكورس الاطفال.
أجزاء العمل يشتمل على ثلاثة
أجزاء:
فصل
الربيع، في الحانة، والحب.
حيث
يبدأ العمل بهدير الكورس، ثم يستحيل الى ترتيلة صامتة تقريباً حول مآسي القدر، ثم
لا تلبث أن يتعالى صوتها بالتدريج، لتنتهي بهدير يصم الآذان.
وهناك
أيضاً أغنية «أبكي على جراحات الحظ» التي ترافق العمل بين حين وآخر.
كما
إن المقطع الأول من كارمينا بورانا يتحدث عن حلول الربيع والرقص على أعشاب القرية.
وتغني الفتيات عن أحبائهن الذين ابتعدوا. والغابات مزدهرة. والفتيات يذهبن الى
الحوانيت لشراء الصبغة الحمراء ليطلين بها خدودهن. هناك جو من المرح.
وتستريح
النساء في حين يذهب الرجال الى الحانة. ويغني صاحب صوت الباريتون كيف هي الحياة
رهيبة وكيف إنه يحاول التغلب على الهموم باقتناص المسرات. أما صاحب صوت التينور
فيغني الأغنية التراجيكوميدية لبجعة كانت تستمتع يوماً بعومها بهدوء في البحيرة ثم
ينتهي مصيرها بأن تشوى على النار في سفود. ويعود الباريتون ليغني عن سكير جرد من
ملابسه من قبل أصحابه ويصرخ («وا ويلتاه!») في الشوارع.
ويتلو
ذلك مختارات من الأغاني عن الحب والجنس، تبدأ بالحب الرقيق ثم تزداد صخباً. ثم
ترداد كلمات «تعالوا، تعالوا، بربكم تعالوا» مع إيقاعات متلاحقة تنتهي بكلمات (حان
وقت الاحتفال) حيث يغني جميع المغنين (بإستثناء التينور المسكين) بيتاً من الشعر،
يتبعه غناء الكورس:
أنا أعود إلى الحياة بكل عنفواني
الآن من أجل حب فتاة
أنا أشتعل لهيباً
إنه حب جديد لا مثيل له
إنني هالك!
لكن
هذا الأداء يختتم بصوت الافتتاح O Fortuna ليذكرنا بأنه رغم كل شيء فإن عجلة القدر تواصل
دورانها، لتهبط بأولئك الذين رفعتهم إلى الأعالي.
إن
هذه الملحمة الغنائية الخالدة ليست أوبرا أو موسيقية تقليدية، فهي ليست نغماً فقط،
بل رقصاً ، وليست صوتاً فقط بل تمثيلاً ، وليست أغنية فقط بل مشهداً أيضاً،
ومسرحاً. إنها موسيقى في إطار الفن الذي يوحد كل الفنون الأخرى، ويحتضنها، كما كان
يتصوره اليونانيون.