فاضل متين / خاص سبا
كاذبون
مَن قالوا أن الموت أسود كالح! كيف تسنّى لهم أن يصوّروه وهم لم يجرّبوه بعد؟
كاذبون، لقد أرادوا أن يشوّهوا الموت كما شوّهوا الحياة، كي لا يتسنّح لنا
الاستمتاع في موتنا أيضاً، وحدهم الذين خاضوا غماره مَن يستطيعون وصفه ويصوّروا
شكله ولونه.
الموت
ليس كما الحياة التي تأخذ لوناً وشكلاً وحيدين، إلا وهو الأسود، للموت ألوان
وأشكال متعدّدة، موت أبيض، موت أصفر، موت أحمر وموت أزرق مائي كما موتي الآن؛ أزرق
بلون السماء في كبد الصيف، أزرق بلون نهر الفرات، أزرق بلون عيني
"كوليزار"، يبدو أن الموت أكثر استئناساً وطيبة من الحياة، تتلوّن كما
تحبّ أنت لا كما تحبّها الحياة لك.
منذ
ساعتين وأنا أشعر برخاء لم أعهده من قبل، مضت ساعتان على انفصالي عن العناء، لا
أعلم إذا ما كانت مدّة الساعة في الحياة تتساوى مع مدّة الساعة في الموت، لكني
أشعر وكأني منذ زمن هنا، لا أريح من أن تستغني عن جسدك وترميه عن كاهلك، لا أجمل
من أن تتحوّل من كائن إلى كائن آخر، الآن
تحوّلت من كائن طيني إلى كائن مائي، ولقد استطاب لي هذا التبدّل، أشعر بأني مبارك
بهيئتي الجديدة، أكثر تبجّلاً وهيبة، ينتابني شعور بالألوهة والكمال، حيث لا أحد
يستطيع أن يعكر صفوتي، أو يجرحني فيما أنا ضعيف فيه ولا بمقدور أحد أن يروّضني
ويسيّر قدري بهواه، أنا كائن مائي الآن، فمَن يستطيع أن يعكر الماء ويقوده برغبته؟
الماء يبقى ماء مهما تهافتوا وتكاتفوا ضدّه، أشعر بغبطة وأنا أرى المُسعفين
ينتشلون جسدي من الماء، يسحبونني من يدي جسدي، اللذان أودعت بهما أحضان أمي قبل
ساعات، يؤسفني حاله هكذا، لكن لا بدّ من إراحته وإراحتي منه، لذا أودعته بأمواجي
إلى حيث يجب أن يكون.
يتسلّل
إلى سمعي أصوات قهقهات وضحكات كثيرة، أصوات أطفال يناغون فرحاً، همهمات نساء
مبتهجات، وغمغمات رجال وشباب يتهامسون ويتناكفون مزحاً، يبدو أنهم أيضاً تحوّلوا
مثلي إلى ما يحبّون، وتركوا أجسادهم على الشاطئ، لعلّهم وجدوا أنفسهم أفضل هنا،
فأبوا مثلي ترك البحر، لا أدري إذا ما تماهوا مثلي وتحوّلوا إلى كائن من ماء،
ربّما تحوّلت إحداهن إلى حورية، أو أحدهم إلى فَرس بحر، لكن ما أستشفّه من ضحكاتهم
وأصواتهم أنهم فرحون، فرح مَن وجد وطناً ضائعاً، فانتموا إلى البحر واستطاب لهم
المكوث فيه، لا أمتع من أن تتحوّل إلى ما تريد وتسكن أينما تريد، يبدو أن حبّي
للبحر أوكلني إلى هذا الدور أو هيامي في عشق الأزرق السماوي، أحالني إلى تقمّص هذا
اللون، أو لربّما زرقة عيني "كوليزار" أشفعا لي لأنتمي إلى هنا!!
لا
يهمّني السبب؛ فشعور الراحة الذي يكتسيني يُغنيني عن البحث عن السبب، لأول مرّة
أشعر بانتمائي ووجودي، لم يحدث لي أن شعرت في حياتي بهذا الانتماء والاسترخاء إلا
عندما كنت أقابل كوليزار، وأتوه بخيالي في عينيها، فالتيهان بعيون الحبيب هو موت
لطيف مؤقّت، لذا كنت أشعر بالراحة والتمتّع حينها، فالحياة لا تسنح لك فرصة للراحة
والابتهاج، يبدو أننا ظلمنا الموت كثيراً
في تشبّثنا بالحياة وتنبيذنا له.
لا
أريد أن أعكّر حياة الموت بتذكّر حياة حياتي، أريد أن أعيش حياتي هنا كما أهوى، أن
أتنقّل بين المحيطات والخلجان، وأتسلّل بين ثنايا الجبال، وأنبجس من عيون
الينابيع، أو شاء لي أن أتبخّر وأصعد السماء على شكل غيمة، وأعود ماءً من جديد،
هذا ما أفكّر به وأخطّط له، لا أحد يستطيع صدّي أو عرقلة وجهتي من الآن فصاعداً،
ومَن يجرؤ على مناطحة الماء ومواجهة أمواجه؟ لقد حسمت أمري وأحببت هذا الدور، من
الآن فصاعداً سأذوب بخاراً وأهبط مطراً أينما أجد أرضاً ضحلة، سأزور بهيئة نبع كلّ
ساقية، وسأرسو بجسدي في كلّ بلد منعه حكّامه من الماء كما مدينتي كوباني، وسأنقل
بأمواجي كلّ مَن لجأ إلي إلى الضفّة الأخرى، ربّما قد يقودني جنوني إلى أن أطوي
بأمواجي مَن قلّل من شأني وتحدّى عمقي وغضبي كما طواني البحر بين ثناياه عندما كنت
كائناً من طين وروح، قد يفتخر أبي وأمي بدوري الخير هذا، وربّما سيخفّف من حزنهم عليّ.
يؤلمني أني لن أقابل مَن أحبّهم مرة أخرى،
يجرحني كلّما تخيّلت دموع أبي وأمي وفجيعتهم بي، يؤسفني أني لن أحقق حلم حبيبتي
"كوليزار" في لمّ شملنا معاً، لكن عليّ أن أكون أكثر فخراً وسروراً، ما
الذي كنت سأفعله لهم حتى لو بقيت حيّاً؟ ما الذي كنت سأحقّقه لنفسي ولهم لو لم
أتحوّل إلى ماء؟ هنا حيث أنا لا حدود للأحلام ولا للآمال، كلّ الفرص سانحة لي، كلّ
الطرق سالكة أمامي لأحقّق ما أريد، إلا العودة كما كنت، لكني سأعود كما وعدتهم،
ربّما ليس جسداً من لحم ودم، قد أعود كما حسمت أمري، أن أعود وأسقط مطراً على
أحضان "كوليزار" وهي تفتح ذراعيها نحو السماء لي، أو أنبجس من عين إحدى
السواقي لأروي بها أشجار أبي، وأزهار أمي، سأعود كلّ سنة وأمارس هوايتي،
سيعرفونني، أنا متأكّد من ذلك، لأني لم أستغني عن رائحتهم مع جسدي، أنا فتى الماء
الآن، فمَن سيوقّفني عن أحلامي بعد الآن؟!