علي الكردي
ثمة
خفوتٌ ما، للأصوات التي كانت تتحدّث عن إشكالية “الحداثة” و “ما بعد الحداثة”…
بصيغتها الأوروبية، لا سيّما بعد انطلاق الربيع العربي، الذي تمّ إجهاضه بأشكال
مختلفة. الأمر الذي يعني أن أسئلة الواقع الملّحة فرضت نفسها على النخب الفكرية
والثقافية، ونحّت جانبًا المماحكات النظرية المستوردة، من السوق الثقافية
العالمية، مع العلم أن الحداثة -بمفهومها العام- هي مشروع نظري وعملي منفتح على
المستقبل. يفضي إلى طور جديد، يكون الإنسان فيه سيّدًا على ذاته، ومالكًا للعالم.
صحيحٌ
أن الحداثة، بالمفهوم الأوروبي، أصابها انزياحات كثيرة، وبالتالي لم تصل إلى اليوتوبيا
التي بشرّ بها عقل الأنوار، إلّا إن الفكر الأوروبي أعاد قراءة المشروع الحداثي
بمنظور جديد، تضمّن أكثر من اقتراح: اقتراح يطالب بالاحتفاظ بالمشروع الحداثي، بعد
نقده وتطويره وتوسيعه، واتجاه آخر يرى أن الحداثة الأولى قد تفجرت وانتهى أمرها
إلى غير رجعة. من أصوات هذا الاتجاه الفرنسي ليوتار مع غيره.
تنتمي
إشكالية ما بعد الحداثة، إلى الاتجاه الثاني الذي يندّد بالعقل والتنوير والتقدم
والمثقف الحديث… وصولًا إلى “نهاية التاريخ” التي تعلن أن لا جديد قادم، وأن كل ما
سيأتي هو رتابة ممجوجة، تُردّد ما جاء قبلها.
بكل
الأحوال، فإن ما بعد الحداثة هي إشكالية أوروبية، لا تنفصل عن سياقها التاريخي
المحايث لها. ما يهمنا في هذا السياق القول: إن التسونامي الذي عصف بالمنطقة
العربية في السنوات الأخيرة، ربما كشف عن بؤس وسخرية المقولات التي كانت تدعو
الشعوب اللاأوروبية، ومنها شعوب منطقتنا إلى تكرار تجربة التحديث الأوروبية،
ومحاكاة نموذج أوروبي، لا يمكن محاكاته، وسواء كانت الدعوة إلى محاكاة جادّة، أو
متوهمّة، فإنها تشكّل في نهاية المطاف، استطالات للأيديولوجيات السلطوية، التي
ترفع شعارات: “التطوير والتحديث”، “باني سورية الحديثة”… بينما هي في الحقيقة
تفرّغ تلك الشعارات من مضامينها! ولهذا ينسج الخطاب العربي المسيطر حديثه عن
الحداثة، وما بعد الحداثة، ناسيًا أو متناسيًا أن الواقع الذي نعيش فيه، هو صورة
عن أزمنة ما قبل الحداثة في العلاقات الاجتماعية كلها: السياسية والاقتصادية
والثقافية.
أتساءل
في هذا السياق أين يمكن أن نصنّف رؤية ولي العهد السعودي 20-30؟!
كشف
الربيع العربي، ليس فقط بؤس الأنظمة العربية، بل -أيضًا- الفجوة العميقة في
المجتمعات العربية، التي تعود إلى ما قبل الدولة الوطنية، حيث الانتماء أقوى إلى
الهويات الجزئية على حساب الهوية الوطنية، حيث برزت النزعات الطائفية، والاثنية،
والعشائرية، والمناطقية، الأمر الذي يطرح على المثقفين والمفكرين العرب ضرورة
التفكير والبحث في إشكالية الحداثة انطلاقًا من هذه المعطيات، وليس من خلال
المماحكات النظرية المستوردة من الغرب، ومن ثم البحث عن حلول، دون أن يلغي ذلك
–بطبيعة الحال- مفهوم الحداثة، بوصفه مشروعًا إنسانيًا عامًا، بيد أننا نميّز في
هذا السياق، بين وجود الحداثة المتحققة في صيغة معينة (الصيغة الأوروبية)، وبين
وجودها كإمكانية مجرّدة لم تعثر على صيغتها بعد، في مكان آخر. الأمر الذي يفرض
الربط ما بين الحداثة والتاريخ.
يقول
الناقد فيصل درّاج: “إن كل حداثة تحاور تاريخها، لأن التاريخ الإنساني لا يتوّحد
إلّا في شكله المنطقي فقط. وبسبب تباين تاريخ الشعوب والرغبات، تأخذ الحداثة صيغة
الجمع، وتفتش كل حداثة عن مفرداتها الخاصة”.
يضيف
درّاج: “ولهذا فإن الحداثة العربية الموعودة لن تنبثق إلّا عن جهد عقلاني محتمل،
يكسر دائرة الاحتكار الدولي. هذا ما يقلب صفحة الحداثة الإنشائية، ويقع على صفحة
أخرى، تساوي بين الحداثة والتحرّر القومي، وبين التحديث والتحرّر الإنساني، وبين
إصلاح الذات وجمالية المقاومة”. قد نختلف إلى هذا الحد أو ذاك في تأويل ما يقصده
درّاج من مصطلح “التحرّر القومي” و”جمالية المقاومة”، لكننا نحترم جهده في
الانطلاق من أسئلة واقعنا الخاص، وربطها مع مفهوم “الحداثة” الأعم والأشمل.
لعلّ
المشكلة المزمنة التي تواجه مجتمعاتنا أنها تعيش في شروط ما قبل الحداثة، وأن
الوعي الحديث ليس منشغلًا بصفات الحداثة، وتعريفاتها، بل بالأسباب التي لم تسمح
بظهورها، وهذا ما يقود سؤال الحداثة إلى أسئلة أخرى حول طبيعة السلطة السياسية،
ومناهج التعليم، ونتائج السيطرة الاستعمارية، وما فعله الاستبداد من قطع لسيرورة
التطور الطبيعية، وعدم بلورة مفهوم المواطنة، وتكريس فكرة “الرعيّة”، والتبعية
المطلقة للحاكم المستبد…. لعل تلك الأسئلة الملّحة، التي أزاح الربيع العربي
الغبار عن وجهها، هي المدخل الحقيقي لكل حداثة محتملة في واقعنا. حيث يمكن لها أن
تنفي “الحداثة العربية المتأخرة”، بوصفها مجرد شعارات فارغة، كانت تستحضر حداثة
شفهية، كي ترحّل قضايا الحداثة الحقيقية إلى فضاء مجهول.
يحضرنا
في هذا السياق ما هجس به فرانز فانون حول حداثة أخرى، ومشروع ثقافي تحررّي مختلف،
لأنه أدرك تباين الأزمنة التاريخية، وأدرك أن نعم “المركز” تصل إلى سهول “الأطراف”
مشوّهةً، ذلك أن المركزية الأوروبية الممجّدة للعقل والإنسان، تُلحق إنسان “الأطراف”
المتخلّف بالطبيعة البدائية، التي تقوّضها وتنهبها الآلة الحداثية الغربية. يقول
فانون في خاتمة “معذّبو الأرض”: “لقد انقضت قرون وأوروبا تجمّد تقدّم البشر
الآخرين وتستعبدهم لتحقيق أهدافها وأمجادها. انقضت قرون وهي، باسم (مغامرة روحية)
مزعومة، تخنق الإنسانية كلها تقريبًا”. لقد هجس فانون بحداثة أخرى، تحتفظ
بالإيجابي الأوروبي، والغربي عمومًا، وهو كثير، وتضيف إليه منظورًا أخلاقيًا
وقيميًا، يحفظ للإنسان وحدته، ويرى في تاريخ الإبداع الإنساني التحرّري تاريخًا
موحّدًا.
لقد
عرّت أحداث منطقتنا في السنوات الأخيرة -لا سيما أحداث الثورة السورية المديدة-
ميوعة مواقف الدول الغربية، التي تتبجّح بقيم الحداثة والحريات، وحقوق الإنسان،
والديمقراطية… وأظهرت -بما لا يدع مجالًا للشك- أن تلك الدول تغلّب مصالحها
الذاتية، على حساب منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية؛ حينما تتعارض مع مصالحها.
من هذه الزاوية تجتاح شعوب المنطقة مشاعر الخذلان والمرارة، بيد أن تلك الغشاوة
بدأت تزول تدريجيًا، ومن قلب الرماد والصمت والرمال، بدأت تعلو أصوات –ما برحت-
جنينية، تطالب بأن نأخذ قضايانا بأيدينا، وهي بهذا المعنى ترتكن إلى حداثة مقترحة،
تستند إلى شروط الإنسان المقهور، وإلى قسط من المعرفة، وقسط أكبر من تفاؤل
الإرادة، وإلى نوع من الأيديولوجيا الخلاصية!