-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

مُصادفاتُ ضائع "الحلقة الثانية"


نزار حَجي مصطفى






... جلستُ إلى جانبه كما لو أنّني لم أسمعْ كلامَه لي، وبدأتُ أتأمّلُ تلك الأرضَ الخاويةَ، والأشياءَ التي نبتتْ بفعل الأمطارِ، وكبرتْ، إلا أنّها وقفتْ ما إنْ وقفَ المطرُ عنها, واللونَ الأصفرَ الذي غطّى البرّيةَ من جفافٍ، وقحطٍ، حتى أنّ شُجيرتيه الوحيدتين اللتين يلتجأُ إليهما من الحرّ القاتلِ قد كهّلَهما الزمنُ من العطش.

كانَ علينا أنْ نبحثَ عن ظلٍّ في ظلّ هاتين الشجيرتين، فالشمسُ وعبرَ أغصانها الكاهِلةِ، وأوراقها الذابلةِ كانتْ تخترقُها لتُلقيَ علينا بحرّها.

-         أشجارُ الأراضي الرعوية تبدو قصيرةً، وقليلةَ الأغصان، لأنّها لا تلقى الاهتمامَ المَطلوب.
قالَها الراعي عندَما رآني أُمعّنُ النظرَ فيها.

كانتْ الأرضُ قليلةَ الحِجارِ، وقد بدَتْ خاليةً تماماً سوى من بعض النباتات الرعوية التي تكتفي بمياه الأمطار القليلة.

وبينما كنتُ أجوّلُ بنظري في التلالِ، حيناً أبحثُ عن ما يأوي هذا الراعي، وحيناً آخر أتأمّلُ جمالَ تلك التلال الساحرة، فقد كانتْ كلُّ رقعةٍ صغيرةٍ منها كافيةً لتعبّرَ عن الجوع، والفقر، والجفاف التي عانى عابروها عبرَ الزمن.

دامَ سكوتُنا ما يقاربُ ساعةً، كنتُ فيه مُتأمّلاً، وبينَما الراعي كانَ مَشغولاً بإحراق الخيوطِ الزائدةِ، وإزالةِ الغبارِ، والأشياءِ اللاصقةِ بملابسه، ومُهتمّاً بعَصاه التي تبدو له وكأنّها عَصاةُ موسى.

-         متى يحنُّ مَوعدَ ذهابِنا؟!
قلتُ سؤالي، وكأنّني ثبّتُ بقائي عندَه.

لم يتفاجئ؛ كانَ يعرفُ أنّ الشمسَ قد شارفتْ على الغروب، وذهابي أصبحَ أمراً مُستحيلاً، فقد لاحظتُ عليه، وكأنّه يحبّبُ بقائي أكثرَ مني.

أجابني:

-         لنذهبْ إذن.

ثمّ قامَ، ولم يكلّمْني بما ينبغي أنْ أقومَ به، إلا أنّني راقبتُه ذاهباً إلى الشجرة الثانية ليجمعَ ما قد نُثرَ من أمتعته.
راعٍ قليلُ الكلامِ، والنظرِ، وطيبُ القلبِ، ملامحُه تبدو أنّه وحيداً في سَكناه. 
حملَ أمتعتَه، وراحَ يدورُ دورةً حولَ أغنامِه التي بعضُها كانتْ قد استراحتْ من التعب المَديد.

يأتي في الصباح الباكر، ويجلبُ معه ما يسدُّ جوعَه، وعندَ الظهيرةِ يروي أغنامَه من بئرٍ بعيدٍ عنه، ويعودُ إلى حالته، إلى أنْ يحنَّ الغروبَ. 
أتمَّ دورانَه، وقادَ أغنامَه من دون أنْ يتحرّشَ بهنَّ، ركضتُ إلى جانبه، ومشيْنا بهدوءٍ، وعرجته الخفيفة، يمشي مُتكئاً قليلاً على عصاه، وفي يده الأخرى أمتعته، حاولتُ مساعدته لكنّه رفضَ! حاولتُ أنْ أكسِرَ صفونا بشيءٍ ينسّينا التعبَ الذي لم أعتدْ عليه!!

-         سأحلُّ عليك ضيفاً لأسمعَ المزيدَ عمّا تعرفُه عن الكورد.
قلتُها مُكرّراً.

ابتسمَ ابتسامةً خفيفةً، ورحّبَ بي بغمزةٍ خفيفةٍ! كانَ طريقُ عودتنا أقلُّ وضوحاً، حيث كانَ الطريقُ الوحيد في تلك الأرض، فالأغنامُ كانتْ تمشي عارفةً دربَها، رؤوسهنّ خافضةٌ إلى الأرض، هكذا تفعلُ الأغنامُ الشبعانةُ، والتوّاقةُ إلى حظيرتها. تجازونا تلّةً، وأصبحْنا في وادٍ قليل العمق، أمشي مع مشيته، والهلاكُ ظاهرٌ عليّ.

قلتُ له لاهِثاً:

-         كم باقٍ لنصل؟

قالَ بجوابٍ أمدَّني بالقوّة:

-         لقد وصلنا... لم يبقَ إلا القليل.

ظلَّ ماشياً بعينين مُحدّقتين في الأرض، لم يكنْ يخطفُ الأنظارَ في مشيته. اقتربْنا من حافّة التلّة، فظهرَ لي غرفةً طينيةً صغيرةً لا يجاورُها شيءٌ سوى حظيرة مَصنوعة بأعوادٍ خشبيةٍ، ومُحاطةٍ بأسلاكٍ حديديةٍ، وإلى جوارهما كانَ هناك خزّانُ ماءٍ حديديّ، وبجانبه مَنهَلٌ قديمٌ.

ما إنْ وصلنا إلى التلّة حتى بدأتْ الأغنامُ تركضُ مُجتمعةٍ إلى المَنهَل، وأصواتُ الأظلافِ، وتلاطمُ ما تحويه الألية ببعضها مُؤلّفةً لحناً مُوسيقياً رائعاً يشبه مقطوعاتٍ سيمفونية، وهنا تبدأُ معركةَ القويّ، والضعيف، فالأغنامُ القوّيةُ التي قد أتمّتْ شربَها تبدأُ بمُعاركة الأغنام الضعيفة، تمنعُهم من الشرب. تدخّلَ، يفرّدُ الأغنامَ لكي تستطيعَ الأغنامُ الضعيفة الشربَ، بعد أنْ أنهينَ الشربَ، ركضنَ مُسرعاتٍ إلى حظيرتهنّ، حيث أعلافهنّ كانتْ جاهزةً بانتظارهنّ.

أنهى الترتيباتِ اللازمة بينَما كنتُ واقفاً أراقبُه، وأعشقُ طريقةَ تعامله مع أغنامه. سدَّ بابَ عليها، وذهبَ ليغسلَ يديه, كانتْ الأرضُ المُحيطةُ بالخزّان مُوحّلةً، غسلَ يديه، نادني بحنيةٍ غريبةٍ قائلاً:

-         اغسلْ يدَكَ.. الماءُ باردٌ.

كانَ الماءُ بارداً على عكس جوّ النهار. ففي هكذا مناطق يكونُ النهارُ مُحرقاً، بينَما مع حلولِ الغروبِ يخيّمُ على الجوّ برودةً كندى الصباح، حيث النسيمُ الصافي، وسكينةُ الليلِ الهادئة. انتهيتُ من غسل يدي, فالتقطَ أمتعته التي قد رماها عندَما أسرعَ إلى أغنامه، وسرنا إلى الغرفة. بابٌ خشبيٌّ مثقوبٌ، ونافذةٌ خشبيةٌ صغيرة.

دفعَ البابَ مُصدراً صفيراً يصدرُ من احتكاك الأخشاب ببعضها البعض، دخلنا إلى الغرفة..



يُتبع..

تعديل المشاركة Reactions:
مُصادفاتُ ضائع "الحلقة الثانية"

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة