-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

قراءة في ديوان "قهوة الكلام" للشاعرة فاتن حمودي




                                                           د . خالد بوزيان موساوي . المغرب 



  لانهائية النص الشعري مقابل نهائية التلقي و التحليل.
أو الاختلاف مقابل المشاكلة..



تمهيد:
هي قراءتي الثانية في ديوان "قهوة الكلام" للشاعرة فاتن حمودي، و قد اخترت لها عنوانا يروم تسليط الضوء على إشكالية مقابلة بين "لانهائية النص الشعري"، و "نهائية التلقي و التحليل". قراءة ثانية ل"قهوة الكلام" في تناغم مع شعور مفاده أنني (كما كتب عبد الكريم عليان ـ فلسطين): "لا أقف إزاء القصائد إلا إذا أدهشتني وحركتني ارتكازاتها وحركت في داخلي ارتباطا بين اللغة الشاعرية وبين انزياحاتها الفاعلة، ولا أتذكر من القائل: "أشعر الناس
من أنت في شعره حتى تفرع منه"، فإذا ما عشتُ أنا في النص؛ فإن قلمي يخرج عن طوعي ولا أدري كيف يسوح".
و سنركز في هذه القراءة على مقولة "لانهائية النص الشعري" أي على مبدأ "الاختلاف"... لا على "نهائية التلقي و التحليل" التي توازي مقولة المشاكلة/ المطابقة، باعتبار أنها لا تتغلغل في التجربة الابداعية بوصفها ابتكارا و إنشاء، و إنما تجعل من الابداع نظاما انضباطيا بنصوص تتأسس على المطابقة و المشاكلة مع الواقع الخارجي و كأنها مجرد وثائق وصفية تستقى منها المعلومة التاريخية أو العلمية.. خلاف مبدأ الاختلاف الذي يحيل على "النص المختلف"، و هو ذلك الذي يؤسس لدلالات إشكالية تتفتح على إمكانات مطلقة من التأويل و التفسير، فتحفز الذهن القرائي و تستشيره ليداخل النص و يتحاور معه في مصطرع تأملي يكتشف القارئ فيه أن النص شبكة دلالية متلاحمة من حيث البنية، و متفتحة من حيث إمكانات الدلالة. و بما أنها كذلك فهي مادة للاختلاف، بمعنى أنها مختلفة عن كل ما هو قبلها، و هي تختلف عما نظنه قد استقر في الذهن عنها. و مع تجدد كل قراءة نكتشف أن النص يقول شيئا لم نلاحظه من قبل، فكأننا أمام نص جديد يختلف عن ذلك الذي عهدنا في قراءات سابقة... (كما جاء على لسان الدكتور عبد الله محمد الغذّاني في كتابه "المشاكلة و الاختلاف.. قراءة في النظرية النقدية العربية و بحث في الشبيه المختلف").
و أهم مقومات الاختلاف في ديوان قهوة الكلام للشاعرة فاتن حمودي ركيزتان أساسيتان: الافتنان في البناء، بدلالات إشكالية تهم قضايا وجدانية وجودية.
ـ الافتنان في البناء انعكاس للصورة المنطلق إلى الثصورة البديلة:
نقرأ من القصيدة التي حملت أسم المجموعة: " قهوة الكلام":
" غادرتُ كلماتِكَ و المطرُ يهطلُ
غادرتُ كلماتِكَ و العناقُ ينهضُ فرساً
يجمحُ يصهلُ و يدورُ على كعبهِ
ماذا لو دبتِ الرغبةُ في قهوةِ الصباحِ فوجدتَنا معاً
ننزلقُ في الحلمِ
و ندركُ أنها لعبةُ
الطفولةِ المتبقيةِ فينا
مسربٌ إلى العنبِ حديثُنا
كلماتٌ تسري في يدي و كُلّي
التقطُ بعضَ أشلائي"..
أصابعُنا تلك سالَ منها الدمعُ إلى راحتينا"...
يتضح من خلال النظرة البصرية أن النص يبدو مخالفا لما ألفناه في القصيدة العمودية على مستوى شكله الهندسي.. و لما نقرأ: " ماذا لو دبتِ الرغبةُ في قهوةِ الصباحِ فوجدتَنا معاً".. ينتابنا شعور أننا نخرج حتى من نمطية الشعر الحر المتداول، فالرغبة في شرب القهوة، دعوة لتبادل أطراف الحديث، لحوار مختلف لأن المخاطب (بفتح الطاء) غائب.. هي لغة المونولوج الشبيهة بالمناجاة تنغمس في السرد، وتدعو إلى السفر في الحلم ("ننزلقُ في الحلمِ")، و كأننا مع الشاعر الفرنسي بودلير (أبو الرمزية الحديثة) و قصيدته الشهيرة "دعوة للسفر" Invitation au voyage
لن أعيد هنا نفس السؤال الاشكالي، إن كانت فاتن حمودي في ديوانها "قهوة الكلام" تكتب "القصيدة النثرية: انطلاقا من طغيان السرد في نصوصها؟ أم تكتب "قصيدة الشعر الحر" باعتبار انتماء نصوصها لنمطية درويش، و نزارشكلا، و لحداثية مضامين حرف السياب و الباتي و أدونيس مضمونا؟..أظن أن هذا الجدل قد أسال ما أسال من حبر مع نازك الملائكة و الخصوم في وقته لما
في عدد مجلة "شعر" البيروتية رقم 22 الصادر عام 1961، وفي زاوية "أخبار وقضايا"، شنّتُ الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة هجوماً عنيفاً على مجلة "شعر" التي تسمي -في رأيها- النثر شعراً، وترى في إطلاق هذه التسمية تعبيراً عن "شعور أولئك المطلقين بالنقص أمام الشعر الحقيقي (...)، كما أن هذا الإطلاق تحقير للشعر واللغة العربية والجماهير العربية، وللأمة العربية"!

خلاف ما جاء على لسان الشاعر السوري المثير للجدل خضر اآغا الذي صرح في أحد حواراته ب:- " الحقيقة كنت أنتقد/ وما زلت أنتقد بشدة، بل أقف على الضد من مرحلة الحداثة الشعرية العربية قاطبة. التأتأة داخل اللغة هي الطريق الذي يلجأ إليه الكاتب/ الشاعر كي يوقف التدفق الفطري للغة. نحن نعرف أن اللغة فاشية، إنها تُرغم الشاعر على قول ما تريده هي لا ما يريده هو، إنها مسلحة بتاريخ طويل من الدلالات ومن المعاني الجاهزة، والشاعر إذ يكتب فإنه سيعيد معاني الكلمات ذاتها التي خلقتها اللغة عبر تاريخها الطويل، وسيعيد الكلام المتداول والتاريخي ذاته، فاللغة تأتي متدفقة أثناء الكتابة ضمن منطقها الخاص لا ضمن منطق الكاتب/ والشاعر خاصة، وحيث أن الشعر ليس كذلك، بل هو عملية من ابتكار معان جديدة للغة وللكلمات، ولكي يتمكن الشاعر من ذلك لا بد له من أن يتوقف كثيراً أثناء الكتابة، لا بد له أن يتأتئ، هذه التأتاة توقف التدفق الفطري للغة وتتيح للكاتب/ الشاعر أن يقول هو ما يريد، لا اللغة. يجب إذاً أن يكون ثمة لسان خاص إلى جانب اللسان الشخصي، هذا اللسان الخاص هو اللسان الذي يتأتئ داخل اللغة، وهو الذي يكتب. أما تأتاة الحداثة فكانت تأتأة الذي لا يعرف التكلم، تأتاة اللسان الأحادي المتصلب. تأتاة الحداثة أنتجت ركاماً فظيعاً من اللغة التي خربت الشعر، وجعلت العرب وشعوب المنطقة يعيشون طيلة مرحلة الحداثة الشعرية بلا شعر، أسفرت تلك الغلاظة الحداثية عن فضيحة كبيرة هي فضيحة الشعر العربي الحديث." (عن الموقع الاليكتروني " ضفة ثالثة" 14 أكتوبر 2018 ).
إن أصالة التجربة الإبداعية لدى الشاعرة فاتن حمودي أكسبت شعرها طابع البساطة والرقة، فهي قادرة على أن تبعث في المفردة المنتقاة نبضاً متجدداً، وجوّاً ثرياً، بالإيحاءات والدلالات الغنية... لتتعدى اللغة الشعرية حدود القواعد النحوية وتتبنى منطقا جديدا هو منطق اللغة الشعرية..
و يتأكد لنا ذلك بلغة خاصة بفاتن حمودي يغلب عليها حقل معجمي دلالي مركز كونه المكان: الشام، الذي يتمظهر في جزئياته على شكل نهر، و بحر، و شجرة، و قطار، و نافذة، و بيت، و حضن حبيب... فصورة المكان من خلال أشعارها و حواراتها و كتاباتها، ليست مجرد مساحة ذات أبعاد هندسية أو طويوغرافية تحكمها المقايس و الأحجام، فصورة المكان عبر تجلياتها و تمظهراتها في الديوان، ترجمة لما يملكه من تأثير مباشر في نفس الشاعرة، و الذي استطاعت من خلاله التعبير عن قضايا و هواجس متعددة سواء أكانت نفسية أو اجتماعية، ام سياسية أم فكرية. فالمكان له علاقة جوهرية بالانسان بشكل عام و بالشاعر بشكل خاص، و لا يمكن النظر إليه بوصفه بعدا هندسيا يحيط بالشاعر قبل أن يتدخل فيه الخيال...
و أهم ما يميز شعرية المكان، أو توظيف المكان شعريا عند فاتن جمودي، أنه يقع بين زاويتين هما زاوية التشكيل الشعري و زاوية التأويل.
ـ هل الشام مجرد غرض شعري، كما تيمة الأطلال في الشعر القديم تشعل الحرف و تلهب القصيدة؟
نقرأ:
" معكَ اردتُ ان أبللَ أغصاني
و أرى الشامَ من بعيد
خفقانُ أسئلتك طائري
نمتُ غير مكترثةٍ بالحنينِ الذي تناثرَ في الغرفِ
كم يلزمني من العواصفِ لأضمّكَ كلمةً كلمة"..
ـ هل هو الوطن.. أم المنفى/ الغياب.. أم الأرض الموعودة؟
نقرأ:
" قل ..كيفَ جئتَ أيها الغريب...
غريبةٌ أنا
أحمل في خُرجِ أيامي الغبارَ و حصى الطرقاتِ...
قلْ لي ...كيف نلوّن الرماد بالشغف؟
نُبَهِرُ العقلَ بالجنونِ .. الفوضى بالرتابة ..القلقَ بالهدأة ..و .نخرج بالتمرد حتى المستحيل
دعْكَ من حريةٍ مغزولةٍ بالموت ..تعالَ فكُل ما عدانا جحيم..تعال
لن نُلوِثَ أناملَ الشّغفِ بالخراب..
طبولُ الحربِ تُقرعُ...
تعالَ..أدِرْ ظَهْرَكَ.. أدِرْ ظهرَك لهذا الغبار..
تعالَ.. أيُّها الغريب"..
ـ هل هو مجرد ذكرى توقظ الحنين و تنشد المناجاة لما للشام من علاقة بالانتماء تجسده الأم تارة و الأب تارة أخرى؟
نقرأ عن الأم:
" يطاردُني صوتُ الأواني
و رائحةُ البهارِ
و و جهُ أمّي......
هذهِ المرة..
أتتْ ذاتً نهارٍ تضجُ بالاشتعالِ..
كان وجهُها شمعةً منذورةً
يا لضفائرَها الطويلةَ
تلوبُ عارية إلى أين؟"..
و نقرأ عن الأب:
" ابتعدَتْ كلماتُكَ فتلبدتْ روحي
العتمةُ تسللتْ بين أوراقي كانفأسِ
أبي قبل أن تدهسَهُ حافلةٌ و تمضي
لكنّ الرياحَ لا تنسى أبدا ..
فصوتُكَ في كلِّ مكان"..
في هذين النصين يحضرالمكان بشخصيتين مركزيتي ـ الأب و الأم ـ كما في شعر السيّاب حضورا كثيفا. ففي قصيدة (القرية الظلماء للسياب) تستحضر الذكريات عن طريق ظلال الصوت أو بقاياه (الصدى) الذي يتمثل الأجواء القديمة وما تحمله من ذكريات ذات حضور وجدانيّ كثيف. فالصوت، قالت فاتن حمودي، هو الإنصات للصمت .......يعني أنك تسمع فحيح الخلق، و يهذه الصورة كنت أسمع كلام الروح ونشيج الأعماق هناك أصوات دقيقة جدا كنت أسمعها ...حتى قطرات ماء تتدفق في تجاويف صخرة ..تحت البحر كنت أسمع صوت الله كمتصوف..
و هو تناص جميل مع هذا المقطع لنزار قباني حيث قال:
" يا سيدتي :
ماذا أفعل لو جاءتني أمي في الأحلام ؟
ماذا أفعل لو ناداني فل دمشق ..
وعاتبني تفاح الشام ؟
ماذا أفعل لو عاودني طيف أبي ؟
فالتجأ القلب إلى عينيه الزرقاوين ..
كسرب حمام ..
يا سيدتي :
كيف أقولك شعراً ؟
كيف أقولك نثراً ؟
كيف أقولك ، يا سيدتي ، دون كلام ؟ "
ـ هل هو الحبيب الحاضر الغائب، و الممكن و المحال؟
نقرأ:
" من نقطةٍ في السديمِ جاءَني نصُّك
مدّ لسانه و كلّمني طويلا
أنت حبيبتي:قال
أنت الشام و بردى الذي كان
أنت............
سأدعوكِ إلى فنجانِ قهوةٍ..
لم ألتفتْ..مشيتُ.. فامتدَ الحزنُ شجرةً في قلبي"..
ـ هل هو الحياة في بعدها الفلسفي/ الوجودي؟
نقرأ:
" لا إسم لي.. رغم كلِّ هذهِ الفتنة
لا إسم لي
لا أملكُ الرسائلَ..و لا ألبوماتِ الصّورِ
لا شيءَ لي...
أُمرّرُالأيامَ مثلَ عقربِ ساعةِ يراوحُ مكانَهُ
شاشاتٌ ملطّخةٌ بالدم
كوابيسُ...و قطاراتٌ محشوةٌ بالموت
و لأنني بعيدةٌ عنكِ شام
أعدو ككلبٍ سائبٍ.. و امضي
أضعُ يدي بيدكَ أيُّها الغريب..
نمشي معا تحتَ المطرِ
نقطفُ ثمارَ العبثِ
نشعلُ الشموعَ..فتضاءُ الأمكنةُ و تقترب
تقتربُ...
يا شام..يا شام ...أنا بدون أصواتِك ..أغنياِتك..حمائمِك...أزقتِك...ياسمينِك..لستُ
غيركلبٍ لاهثٍ يعضُ قمصانَ الغياب"..
و نظرا لقصر المجال، لأن ديوان قهوة الكلام" للكاتبة و الشاعرة و الاعلامية فاتن حمودي يحتاج لكتاب نقدي لا لمجرد مقال، أستأذن الأستاذ الباحث السيد ممدوح عزام لأعبر بلسانه، كخاتمة لهذه القراءة (لا نهايتها) و نقل ما كتبه في نفس السياق:
" هل تغلب على الكتابة الأدبية في المنفى لغة الحنين والشوق وما يمكن أن ينجم عنها من بكائيات، أو من صور للحنين تقدم وطناً وردياً يتضمّن كل العناصر الضرورية والوحيدة لعيش الإنسان؟ أم تغلب عليها لغة المقهور المطارَد الذي أرغمته قوة عاتية، هي هنا الاستعمار المحتل، أو الحكم المستبد، على مغادرة بيته وقريته أو مدينته ووطنه؟
لا نعرف، حتى الآن، ما الذي يمكن أن يقدّمه الأدب السوري في المنفى، أو أدب المنفى السوري. فأعداد السوريين المهاجرين ما تني تتزايد بلا توقف، والوضع الديموغرافي مرشّح لمزيد من النزيف، ولن نشهد أدباً يُكتب على الأرصفة، حيث هم السوريون المهاجرون أو اللاجئون أو عند شواطئ البحار، وإن كنا نتوقّع أن تكون هذه الأمكنة رصيداً ما لذاكرة السوري الذي أُرغم على مغادرة الوطن أو اختار دون إرغامٍ مباشرٍ الرحيل عنه.
ولكن ماذا يمكن أن يكتب السوري المنفي أو المهاجر أو اللاجئ؟ لا تستطيع أي حُزمة اقتراحات افتراضية أن تحيط بالمتخيّل الحكائي أو الروائي الذي تختزنه ذاكرة السوري في رحلته إلى المنافي. فأدب المنفى هو أدب استعادة، حيث "تكتسب أتفه الأشياء حيوية ورهافة.. لا حدّ للبهاء فيهما"، كما يقول هازلت، الذي يسمي مكان الاستعادة "عين الذاكرة". (ممدوح عزام: "أدب المنفى: مطرودون و مشتاقون" عن مجلة "ضفة ثالثة" 6 نوفمبر 2015 .)

.


تعديل المشاركة Reactions:
قراءة في ديوان "قهوة الكلام" للشاعرة فاتن حمودي

canyar

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة