-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

الإمبرالية أعلى مراحل الرأسمالية

بقلم الدكتور:ممدوح حمادة

 لم يكن أبو علي فعليا ينتمي إلى طبقة "الانتلجنتسيا" التي يوحي بها مظهره الخارجي، القبعة الأوربية فوق الشعر الطويل نسبيا، وذقنه التي كان يضمخها الشيب، والبدلة البنية التي يرتديها بالتناوب مع البدلة الرمادية وفوق ذلك كله نظارته  السميكة ذات الإطار البني، وكذلك طريقة كلامه  ومعظم الموضوعات التي يطرقها والمصطلحات التي يستخدمها في أحاديثه، والكتاب الذي كان يحمله دائما في جيب الجاكيت أو تحت إبطه، إضافة إلى الكتب المبعثر ة في جميع زوايا بيته، كل ذلك كان يقدم صورة مزيفة عنه، أما الطبقة الحقيقية التي كان ينتمي إليها أبو علي فهي (حثالة البروليتاريا) التي كان هو يفضل أن يطلق عليها (البروليتاريا الرثة) ظنا منه أن (الرثة) ارفع منزلة  وأخف وطأة من (حثالة).
كان أبو علي يدرك هذه الحقيقة، ويمكن القول أنه كان يخوض حربا  لا هوادة فيها مع الكتب في محاولة منه للالتحاق بركب الانتلجنتسيا*، كل كلمة كان يحاول أن يفهمها، فمن اجل أن يتمكن من تحليل مصطلح : مرض اليسارية الطفولي، قرأ كما لم يقرأ رفيق من قبل،  وما كان يحز في قلبه أنه من كل ما قرأه وأعاد قراءته لم يكن يفهم شيء، فكانت دمعة تترقرق في عينيه ويرمي الكتاب جانبا ويقول يائسا وحزينا:
-          لا نفع من هذا الكلام.. أنا حمار معبا ببنطلون.. مهما قرأت فلن افهم.
مصطلحات أخرى كثيرة حاول أن يفهما، ولكن مصيرها كان مثل مصير مرض اليسارية الطفولي فلم يكن يستخدمها، ولكن أكثر مصطلح ارتاح له هو (الامبريالية) وهي أكثر كلمة كانت تتردد في الاجتماعات الحزبية، لهذا فمعظم نقاشاته في القرية كانت تدور حولها، كان لديه استعداد لكي يتحدث ساعة كاملة عن الامبريالية، ولكن كل ما كان يقوله كان يتلخص بكلمتين ( الامبريالية حقيرة)،  وقد كان دائما يتولد لديه شعور بأن ما قاله لم يكن يصل إلى محدثه، ولذلك يسأل:
-          خيو بإختصار، شو أحقر شي عندك؟
-          أحقر شي عندي حماتي.
أجابه محدثه في إحدى المرات مداعبا فقال له ابو علي فورا:
-          الامبريالية أحقر من حماتك.
وهكذا فقد كانت الامبريالية مرة أحقر من الحصاد، ومرة أحقر من ضيف آخر الليل، ومرة أحقر شخص لم يرد دينا عليه، لم يبق أمر حقير لم يذكر أمام أبي علي وكانت الامبريالية أحقر منه دائما.
شاب لديه الرغبة في السفر إلى الخارج من أجل الدراسة ولكن ليس لديه المال، نصحه أحدهم بأن يتودد إلى ابي علي كون حزبهم يرسل الطلاب للدراسة في اوربا الشرقية، وهكذا ذهب الشاب إلى ابي علي وأعرب عن رغبته في الانتساب للحزب، فما كان من ابي علي إلا ان ضحك مقهقها ببطء وقال:
-          أتظن أن الانتساب للحزب هكذا، فقسنا بيضيتين وقليناهم، عضو الحزب يجب أن يكون صلبا ومثقفا مثله مثل الطبل الصيني أنّى ضربته يرن**.
فوافق الشاب أن يكون مثل الطبل الصيني، بالرغم من عدم تقبله داخليا لتشبيهه بالطبل، وبناء على موافقته أخذ ابو علي على عاتقه واجب تثقيفه حتى يصل إلى مرحلة الطبل الصيني ويمكن حسابه ساعتها على الانتلجنتسيا.
-          ما هي الانتلجنتسيا؟
تساءل الشاب فرد ابو علي بنبرة توحي بثقة مطلقة بالنفس وابتسامة تولدها عادة الثقة بالنفس:
-          لا تقلق.. نصف شعبك لا يعرف ما معنى هذه الكلمة.. بل قل ثلاثة ارباعه.. الانتلجنتسيا عمي تعني المثقف الثوري.
ولا نبالغ إن قلنا ان الشاب اعجب بمستوى أبي علي الثقافي وتمنى أن يصبح مثله ذات يوم، بغض النظر عن نجاحه في الحصول على المنحة الخارجية للدراسة أم لا.
بطبيعة الحال لم يكن الحديث في اللقاء الأول بين الشاب وأبي علي لينتهي دون التطرق لمسألة الامبريالية التي شرح له ابو علي حولها مطولا ثم سأله في الختام:
-          ما هو أحقر شيء بالنسبة لك؟
فأجابه الشاب ضاحكا:
-          عندما أكون في المدينة وأصاب بالإسهال فلا أجد مكانا أقضي الحاجة فيه.
-          الإمبريالية أحقر من ذلك.
أجابه ابو علي بشكل آلي وبمنهى الجدية ثم استل من جيب الجاكيت كتاب (الإمبريالية أعلى مراحل الراسمالية)  وقدمه له قائلا:
-          خذ.. هذا الكتاب يعطيك فكرة كاملة عن الامبريالية.
أخذ الشاب الكتاب وقرأه بحماسة تعادل رغبته بالحصول على المنحة الدراسية ولم تكد شمس اليوم التالي تشرق حتى كان الشاب امام بوابة ابي علي يطرقها والكتاب في يده.
شرب ابو علي قهوة الصباح برفقته وطلب منه أن يطرح استفساراته إن كان لديه استفسارات فسأله الشاب عن الرأسمالية، وانطلق ابو علي يوضح له مقدار حقارتها هي الأخرى، فما كان من الشاب في نهاية الحديث إلا أن تساءل:
-          أي أنها مثل الامبريالية.
-          لا لا لا.. ليس الأمر كذلك تماما.. هناك فرق بدرجة الحقار ة.. ماذا قلت لي أن احقر شيء بالنسبة لك؟
-          حين اصاب بالاسهال في المدينة ولا أجد مكانا لقضاء الحاجة.
كرر الشاب ما قاله بالأمس فطلب منه ابو علي:
-          اعطني شيئا أحقر
-          عندما اصاب بالإسهال وأجد مكانا، ولكن أحد يشلغه في الداخل.
-          الراسمالية هي الأولى.. والإمبريالية هي الثانية.. هل عرفت الفرق الآن؟
-          نعم فهمت.
قال الشاب وسال ابا علي عن كلمة أخرى كان يود شرحها له:
-          وما هي الاشتراكية؟
فوجي ابو علي بالسؤال الذي لم يتعرض له طوال تاريخيه النضالي، سئل عن الديسبلين وأجاب على السؤال، سئل عن البرجوازية الطفيلية والكمبرادور والكثير من المصطلحات المبهمة الأخرى، ولكن أحد لم يسأله يوما عن الاشتراكية، وهو بدوره كان يظن أن معنى هذه الكلمة بديهة لا تحتاج إلى الشرح، ولذلك تململ في مكانه وشعر للحظة أنه عاجز عن الاجابة على هذا السؤال المباغت، ولكن بديهته سرعان ما أنقذته فقال  بثقة بالنفس:
-          الاشتراكية هي عندما تصاب بالإسهال في المدينة وتجد الششمة على الفور ولا يكون داخلها أحد.
ثم  رشف من فنجان قهوته وعلى وجهه ملامح الارتياح ونظر إلى ساعته ملمحا للشاب أن موعد عمله اقترب، خشية أن يتذكر ذلك امرا آخر يسأله عنه.
ملاحظات
*-أبو علي هو الوحيد بين رفاقة الذي يستخدم هذه المفردة (انتلجنتسيا)، فجميع رفاقه  يستخدمون مصطلح المثقفين الثوريين بدلا من الانتلجنتسيا ولكن ابا علي شعر بسعادة غامرة عندما اكتشف هذه الكلمة، إضافة لما تمنحه اياه من الرماد الذي يذره في العيون لخلق الصورة المزيفة عنه.
**- (مثل مثل الطبل الصيني أنى ضربته يرن ) عبارة قرأها ابو علي في أحد الكتب التي لم يفهم محتواها.

تعديل المشاركة Reactions:
الإمبرالية أعلى مراحل الرأسمالية

devrav

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة