-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

هل حقاً غادر الفيلسوف التجريبي منطقة الميتافيزيقا؟ عن نشوة التفكير في عوالم الماوراء


   بقلم  : وجدان الناهض  -  أبوظبي



غمرتني سعادة باهرة برفقة كتاب (نشوة الماوراء) بغلافه الأنيق ولوحته الباهرة للفنان العراقي حميد ياسين التي زين بها الفيلسوف العراقي الدكتور رسول محمد رسول وجه كتابه هذا. وفي هذا المناسبة ربما يستحق ما كتبه الشاعر فرناندو بيسوا عن الميتافيزيقا أن نبدأ به؛ قال هذا الشاعر البرتغالي: "يوجد الكثير من الميتافيزيقا في عدم التفكير بشيء".
بهذه الكلمات يبدأ الفيلسوف العراقي وأستاذ الفلسفة الألمانية كتابه الصادر مؤخرا تحت عنوان (نشوة الماوراء.. الميتافيزيقا في ذائقة الفيلسوف التجريبي)، الصادر عن دار تنويريات للنشر في الكوفة 2019. وعنوان من هذا النوع يكسر فهمنا بأن الفيلسوف التجريبي نأى عن الميتافيزيقا كليا لكن هذا الكتاب سيغير قناعاتنا، يقول الدكتور رسول في تقديمه للكتاب: "الميتافيزيقا قبل كل بناء فكري هي ليست معرفة فقط، إنها ميل وتطلُّع إنساني فوق بشري أو ما بعد بشري؛ فالكائن البشري يولد ويشرب ويأكل ويمارس الجنس بغية الإنجاب أو التكاثر الجنسي وفي النهاية يموت؛ فهو كالحيوان في هذه الخصائص. أما الموجود الإنسي، وأقصد الإنسان ما بعد البشري، هو أكثر من ذلك؛ أكثر من كونه يمارس كائنيّة حيوانيّة بشريّة، إنه الموجود الذي يخرج من حضيرة الحيوان بإرادة إنسيّة نحو التفكير الفائق في أصل الكينونة والوجود ومآلهما، وبالتالي التفكير في موجوديته هو نفسه وذاته على نحو باطني يتوسَّل الظهور بأشكال شتى، هذا الموجود الإنسي "الإنسان" يبدو هو الوحيد الذي يفكِّر في ذاته بذاته، يتعامل معها ليس بمعزل عن مصيره، ولا عن تفكيره في أصل ومصير الوجود على نحو تواصلي، 
 ويضيف: "الإنسان أو الموجود الإنسي هو الكائن الوحيد والفعلي الذي يمتلك ناصية التأمُّل في ما وراء المحسوس والملموس، في ما وراء التجربة المنظورة؛ ولذلك استحقَ، عن جدارة، تملُّك هذا الدور التاريخاني بوصفه الموجود الإنسي الذي يفكِّر ميتافيزيقياً في الله الوجود والإنسان، يفكِّر في الطبيعة والمجتمع، دون سواه مقارنة بغيره من الموجودات والكائنات الأخرى".
وبالفعل لدى الإنسان الإنسي ذلك الميل التلقائي الذي يجد فيه قدرته العقليّة مندفعة نحو ما وراء مجرَّد المعرفة المتاحة له تجريبياً؛ مندفة صوب ما وراء ما يراهُ ويلمسهُ ويسمعهُ ويشمّهُ ويتذوَّق طعمه على نحو يومي في حياته المعتادة، وعندما نقول "ميل تلقائي" فإننا نقصد به ذلك التطلُّع الطبيعي الإنسي الذي، ومهما قمعناه أو تناسيناه أو تغافلنا عنه، لا يمكننا إلغائه من حياتنا.
في هذا الكتاب الشيق، يذهب رسول إلى الماضي ليتأمل في "التطلُّع إلى ما وراء الظواهر الحسيّة هو خاصّة الإنس منذ غابر الأزمان. وإذا كان الإنسان في تلك الأزمنة السحيقة القِدم خلق سُبلاً للتعايش مع ما يثوي فوق معتاد الحواس، ومنها بناء مجتمعات الآلة، ونسج الأساطير، وتنضيد الخرافات حولها، فإنه بذاته وبنفسه كذلك خلق نمط تفكير آخر في ما وراء العالَم والأشياء المنظورين، ذلك هو التفكير الميتافيزيقي، فعلى قلَّة النصوص التي وصلتنا عبر التأريخ الضارب عمقاً في الماضي، يمكننا التمييز بين أنماط التفكير؛ الأسطوري، والخرافي، والديني، ومن بين كل أتباع هذه الأنماط هناك ممَّن لا يفكِّر مثلهم، هناك صاحب النمط التفكُّري الميتافيزيقي الذي يستعمل عقله وهو يتأمَّل العالَم والأشياء والإنسان والوجود والمستقبل الآتي كما الماضي، وهذا الإنسان هو الذي حوَّل التفكير الأسطوري والخرافي والدِّيني إلى تفكير ميتافيزيقي، وتلك مزية تاريخانية مهما تمادت في التجريد".
وهذا يعني أنه ومنذ ذلك الزمان صار التفكير الميتافيزيقي خاصّة إنسيّة، وهو في بداية الأمر كان - هذا التفكير - يختلط مع أنظمة الاعتقاد الأسطوريّة والخرافيّة والدينيّة، وهي الأنظمة التي سادت بقوة عبر التأريخ لأنّها كانت صاحبة سطوة يفرضها واقع الحال الإنساني. ولكن، ومع مرور الوقت، كان التفكير الميتافيزيقي ينمو على نحو مُطرد حتى حانت لحظة التحرك صوب بناء تلك التأمُّلات الميتافيزيقيَّة في نظام معرفي ظهرت بوادره في بلاد الرافدين، وفي منطقة النيلَين، وفي مصر القديمة، لكنها تبلورت أكثر عند الإغريق القدماء، فكان السؤال عن "أصل الأشياء" ينطوي على قيمة تأمُّلية واعية بذاتها، وكذلك الأمر بشأن السؤال عن "الواحد" الذي ترجع إليه الأشياء، ما خلق مُناخاً تتضارب الاجتهادات التأمُّلية فيه على نحو متنوِّع صار بموجبه الافتراق التاريخاني عن جُملة الإجابات الأسطوريّة والخرافيّة والدينيّة الوضعية القديمة.
يقول المؤلّف: "لقد منح هذا التحوُّل في أداء العقل التأمُّلي الإنسي إمكانيّة ترسيخ ميول - هذا العقل - وتطلعاته وبناء قواعده حتى تنبّه أرسطوطاليس (384 - 322 ق. م) إلى قيمة المنجز المعرفي الإغريقي الذي تحقَّق حتى زمانه فراح يشحذ ذائقته التفكُّرية وقدراته المعرفيَّة لتنبثق أول وأضخم أرخنة مفكَّر فيها للمعرفة الميتافيزيقيَّة، والتي آثرتها محاضراته التي كان يلقيها على تلامذته وأتباع "مدرسته المشائيّة: ليرحل تاركاً شأن جمعها إلى أحد أتباع مدرسته وهو أندرونيقوس الرودسي (توفي نحو 63 ق. م) الذي لولاه لما كانت لدينا معرفة ميتافيزيقيّة مُنظَّمة، تلك المعرفة التي أصبحت مداداً لسلالات الفلاسفة الميتافيزيقيين حتى يومنا هذا.

لقد كان لانبثاق الديانتين الإبراهيميتين؛ المسيحيّة والإسلاميّة، أثره الكبير في عودة الميتافيزيقي العقلي إلى الدِّيني الإيماني حتى شهدنا قراءات متبادلة بينهما من دون أن ينفي أحدهما الآخر. والملاحظ أن تلك التجربة التي تنافذَ في مشهدها العقل والإيمان تولَّد عنها تراث فلسفي – ديني مشترك حتى استنفدا عصر الدهشة لديهما، وراح كل منهما إلى سبيله خلال قرون عدّة حتى استفاق "الفيلسوف الحديث" على حنينه للتأمُّل الميتافيزيقي مطلع العصر الغربي الحديث، فأعاد النظر في المعرفة الميتافيزيقيَّة، لكنه بدا محكوماً بصيرورة ما يجري في العالَم الحديث حيث النهضة الأوروبية فرضت شروطها على التفكير الإنسي، وما عاد الدِّيني قادراً على النهوض بالحال رغم حركة الإصلاح الدّيني التي أخذت مأخذها في الوعي الإيماني                          
الحديث، فراح الفيلسوف يضيء العالَم من حوله بفكره  الفلسفي، ويدلي بصوته التأمُّلي من جديد بحسب توجّهات خطابه، سواء "العقلي - الروحي" أو "المادي - الحسي".
يعود الدكتور رسول إلى بدايات اهتمامه بالمعرفة الميتافيزيقية فيول: "في سنة 1995 كنت أكتبُ أطروحتي الجامعية لنيل درجة الدكتوراه في الفلسفة الحديثة، كان موضوعي الذي اصطفيته يصرفني إلى دراسة الأنظمة الميتافيزيقيَّة في القرن التاسع عشر الميلادي، وكان خياري في حينها تكثيف النظر في مُنجز الفلسفة الألمانيّة الحديثة في خلال ذلك القرن. وعلى هامش ذلك، وفي خلال قراءاتي للتراث الفلسفي الغربي الحديث، كنتُ أضع جانباً كل ما أمرُّ عليه بشأن انشغالات الفلاسفة الإنجليز بالمعرفة الميتافيزيقيَّة بأمل العودة إليه لاحقاً بُعيد الانتهاء من إنجاز أطروحتي الجامعية للَملمته في بحوث مستقلة تدخل في دائرة اهتمامي التخصصي بالفلسفة الميتافيزيقيَّة عبر العصور".
ويضيف: "في خلال ذلك، كنتُ أبحرتُ في مياه المعرفة الميتافيزيقيَّة الكلاسيكية، وأقصد بذلك "الفلسفة الإغريقية"، فجمعتُ كل ما يرتبط بتجربة أرسطوطاليس المتعلِّقة ببناء المعرفة الميتافيزيقيَّة باعتباره المرجِع الجامع لأتون تلك المعرفة حتى زمانه، لتتبلور عندي الرغبة بقراءة تلك التجربة وإفراد مبحث خاص بها، فعدتُ إلى حزمة أوراقي التي بقيت قابعة في درج قديم بمنزلي في بغداد، وعكفتُ على كتابتها في مبحث تحت عنوان "تدوين التفكير في الماوراء.. أرسطوطاليس وتجربة بناء المعرفة الميتافيزيقيَّة" لاعتقادي اليقيني بأن أيَّة كتابة عن "الميتافيزيقا" لا يمكن أن تتجاوز التجربة الميتافيزيقيَّة. وفي مرحلة تالية، عدتُ - مرة أخرى - إلى ضمائم أوراقي عن الفلاسفة الإنجليز المحدثين وما قدَّموه بشأن المعرفة الميتافيزيقيَّة، فتسنى لي بلورتها في مباحث منفصلة، وبدأتُ مع فرنسيس بيكون (1561 - 1626مؤسِّس الفلسفة التجريبيّة الحديثة، الذي غاب عن قرائه اهتمامه بالمعرفة الميتافيزيقيَّة لكنّه أعملَ فكره لقول موقفه من تلك المعرفة". وكنا من ذي قبل قرأنا بحثاً معضدا لرسول محمد رسول تحت عنوان: "من تجريد الطبيعة إلى تشريحها.. فرنسيس بيكون وإعادة بناء المعرفة الميتافيزيقيَّة".
وإذا كان فرنسيس بيكون احتفى بالتأمل الميتافيزيقي رغم منهجه التجريبي ولم يتمكّن من تجاوزها، فإنَّ جون لوك (1632 - 1704)، ورغم أنه كان لا يحفل بالأفكار القديمة إلّا أنه لم يستطع التخلُّص من شيء احتفى به العقل التأمُّلي الميتافيزيقي، وذلك هو "الجوهر"، فكان احتفائه ذاك دعوة لي يقول رسول "لكي أستكشف بطانة تفكيره في هذا الشأن حتى أنجزتُ مبحثاً كان عنوانه ميتافيزيقا الجوهر في فلسفة جون لوك".
وليس بعيداً من الناحية المكانيّة عن فيلسوفين إنجليزيين، فقد كان الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711 - 1776) يتمتَّع بعقلية شك نافرة الحضور، وكان في حياته ينبِّه الآخرين من أيَّة نزعة إيقانية منغلقة ليبتعد عنها، وعندما آل الأمر إلى الميتافيزيقا نراه يتوجَّس منها. ورغم أنه كان يسعى إلى إعادة بناء المعرفة الميتافيزيقيَّة وفق أصول علميّة تجريبيّة شاعت في عصره، لكنَّه فشل في ذلك بسبب حدَّة تعريته للمعرفة الميتافيزيقيَّة عندما وصفها بالغموض والرطانة والسفسطة، وحشره لخطابها في زاوية الاستحالة؛ استحالة الماوراء، فلم يترك باباً من أبوابها آمناً يمكن يدخل منه إلى فيافي الميتافيزيقا لكي يُعيد ترميم كينونتها، وهذا ما تنبَّه إليه لاحقاً الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 – 1804) في محاولةٍ منه لإعادة الاعتبار إلى المعرفة الميتافيزيقيَّة من دون ذلك التجريح الحاد الذي مارسه هيوم؛ وذلك عندما سعى لأن تكون هذه المعرفة عِلماً رغم أنه - هو الآخر - لم يفلح! ولا بد من التنويه بأن الدكتور رسول محمد رسول تخصص في الفلسفة إيمانويل كانط في مرحلة الماجستير، وتاليا في الدكتوراه فما أحراه بتحمل مسؤولية البحث والكتابة في هذا الحقل النادر في الجامعات العراقية.
ولم ينته الأمر عند هذا، فمع أن ديفيد هيوم خرج على تقاليد الميل الإنسي نحو الميتافيزيقا، وحاول تقويضه، إلّا أنه بقي ذلك الفيلسوف الفاتح لأفقها المعرفي، ولذلك كان رسول قد توقف عند تجربة هيوم فكتب بحثنا عن تجربته تحت عنوان "استحالة الماوراء.. ديفيد هيوم ونقد المعرفة الميتافيزيقيَّة"، وهو مبحث يبدو لنا ضرورياً من الناحية المعرفيَّة في تأريخ التأمُّل الميتافيزيقي بالعالَم الأنجلوسكسوني لم يتغال عنه الدكتور رسول، لا سيما أن هيوم هو الذي أيقظ الفيلسوف الألماني إمانويل كانط من سباته الدوجماطيقي أو الدوغمائي كما اعترف هو نفسه بذلك.
وإذا بدت التجربة لدى "الفيلسوف الأنجلوسكسوني" آسرة بكل معنى الكلمة، فإننا لمحناه بحسب رؤية المؤلف يستبطنُ "نشوة وهو يفكِّر الماوراء"، بل وبحسب قول رسول: "بقي هذا الفيلسوف يحتفي بالتجربة لكنه أبدى انتشاءً وهو يصغي إلى موسيقى الماوراء، وإن كنّا نصفُ ذلك الانتشاء بأنه "الانتشاء القلق" إلّا أنه يبقى، مع ذلك، شكلاً من أشكال الاحتفاء بالماوراء كتجربة باطنيَّة لا فكاك عنها".
يأتي هذا الكتاب ضمن مشروع الفيلسوف العراقي رسول محمد رسول وهو يقرأ تجارب التأمُّلات الميتافيزيقيَّة في الفلسفة الحديثة. إنه الكتاب الضرورة في حقله؛ فطوبى لك دكتور رسول محمد رسول وأنت تفي باحترامك لتخصّصك في الفلسفة الألمانية جاهداً إلى رسم صورة التفكير الميتافيزيقي في ضفافه متعدد الاتجاه.

   إن مطلع قصيدته الخامسة في ديوانه (حارس القطيع) يوحي صراحة بأن تفكير الإنسان في الأشياء يتضمّن وعياً ميتافيزيقياً، وأن اللا - تفكير الإنساني في

الأشياء يستطبن، هو الأخر، وعياً بالميتافيزيقا، ما يدلُّ على أن التفكير الميتافيزيقي، به وفيه، هو أرضيَّة خصبة لدى الموجود الإنسي أو الإنسان ما بعد البشري سواء صدح به قولاً أو أضمره صوتا.

تعديل المشاركة Reactions:
هل حقاً غادر الفيلسوف التجريبي منطقة الميتافيزيقا؟ عن نشوة التفكير في عوالم الماوراء

canyar

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة