القاص . رعد الرحبي
ذاكرة أرهقها الزمن لكنها احتفظت بأجمل الذكريات الدفتر قصة جرت أحداثها في بلدي، في منتصف القرن الماضي، حاولت تدوينها كي تبقى قيم وتسامح ذلك الجيل راسخة في ذاكرة الأجيال
يعمل بمهنة آبائه، متسامح في بيعه لا يمر يوماً إلا وهناك من ينتظر عطاءه وإحسانه إنه " الحاج ازغيّرحاج حويش " رحمه اللّه. محب لعمله، نظيف اللباس، يرتدي صدرية مخملية اللون، على جانبها جيب عريض مخصص لدفتر دين الزبائن. صوته جهوري يسمعه آخر من في السوق يعمل قصاباً عندما كان سعر كيلو اللحم"ليرتان ونصف"
صديق طفولته الحاج سعيد النزهان، يعمل بحفر آبار المياه، مع شريكه ' حَوّاف ' رحمهما اللّه.
يسجل الدين في دفترٍ حريص كلَّ الحرص عليه من ضياع أو تمزيق. يضعه دائماً مع قلم الكوبيا في جيبه الفضفاض بصدريَّته أثناء العمل وخارج أوقات العمل بجيب گلابيَّته.
أمُّ حمزة تذكره كلّ صباح بطلبات البيت. يذهب للحاج ازغيّر يشتري طلبه، يسجل ما أخذه الزبائن بتوثيق التاريخ والقيمة، بقلم الكوبيا الذي لايكتب إلا بتبليل مقدمته بقليل من اللعاب. يتحاشى الحاج سعيد طلب حاجته من الحاج ازغيّر لتراكم الدين عليه. يراه الحاج ازغيّر في السوق حائراً يتحركش به ويقول: أبو حمزة صارلي زمان ماشوفك اليوم عندي خوش لحمة يقول: أبو حمزة اللّه يرحم والديك، ليش تعرف عندي فلوس يَرُدُّ عليه وهل طلبت منك فلوس عيالك واجبهم عليك أبو حمزة الدفتر موجود مايضيع شي عند الطيبين.
طال الزمن لذلك الحال أرهقته طيبة قلبه مع زبائنه صار دفتره مملوءاً بالأسماء وأرقاماً مالية كبيرة في ذلك الدفتر اللعين. يخاطب نفسه كلهم أصحابي أوضاعهم ضعيفة واجبي الصبّْر عليهم أتمنى فرجاً من رَبِّ العباد على الجميع. قرر الحاج سعيد النزهان أن يفعل مكيدة بالحاج ازغيّر ويتخلص من، ذلك الدفتر.
يوم الخميس يُقبل الزبائن بتزاحمٍ لشراء اللحم قرر أبو حمزة استغلال ذلك الزحام اندسَّ بينهم صار بجانبه من جهة جيبه الفضفاض المخصص لدفترالدين بحركة سريعة رفع گلابيته دون أن يشعر به أحد وضع عضوه الذكري في الجيب وبال به وانسحب سريعاً. ذهب إلى " مقهى تركي مراد " القريبة من الملحمة...
جلس مع أصحابه، وقال: خلصتكم من دفتر الدين. حكى لهم القصة وقال: راح ياجي الحاج ازغيّر غاضباً لابدَّ من تحمله وامتصاص غضبه. الحاج ازغيّر في وسط المقهى يشير إلى أبو حمزة بصوته الجهوري سويتها يا ابن نزهان... خربت بيتي يا ابن نزهان...
قال: له الحاج سعيد اطلع دفترك وشوف حسابي أريد أبرئ ذمتي... قال: الحضور واللّه أبو حمزة حگاني وماهو عايل عليك أبد لكن الحاج ازغيّر لايريد لأحد معرفة ما حَلَّ به قال: ياجماعة ماخلصت اللحمة راح أرجع للدكان والحساب مايروح إذا مو هاليوم يوم الحساب. رآهم يتجاذبون أطراف الحديث بصوت منخفظ يتضاحكون. علم أنهم عرفوا ماحصل... ذهب لبيته مقهوراً أخرج دفتر دينه من جيبه وإذ صباغ قلم الكوبيا منحلٌّ على جميع الصفحات ولم يُقرأ منه شيء. اغتسل وبقي في البيت حزيناً كأيباً لا يعرف ماذا يعمل، لأنه لايملك سوى تلك الوثيقة لمعرفة ديونه.
انتشر الخبر سريعاً في البلد تَنفَّسَ الصعداء كُلَّ من عليه دَين للحاج ازغيّر.
بدأوا يتوافدون عليه قائلين وين دفترك نوفيك نبري ذمتنا. يرد عليهم خرب بيتي ابن نزهان " اللي يعرف يعرف واللي ما يعرف يگول چف عدس " اللي يعرف مبلغه يدفع واللي مايعرف اللّه يسامحو، كلها من فعايل ابن نزهان... أحرق الصدرية ودفتر الدَّين، فَصَّلَ صدريَّة جديدة بدون جيوب، قرر ايقاف الدَّين نهائياً حتى لأقرب الناس إليه.
مضت سنين طويلة على تلك الحادثة كان أذاها المادي على الحاج ازغيًر تؤرق ضمير أبو حمزة لما لحق به من خسارة بفقدان كثيراً دَينه. أقعده المرض لم يعد يرى أصحابه إلا قليلاً، يجلس على رصيف حديقة بجانب بيته أرسل للحاج ازغيّر لمسامحته ودفع كلَّ ضرر مادي لحق به.
عَرف بذلك الحاج ازغيّر جاء لزيارته من مسافة بعيدة وبصوته الجهوري، مسامح يادا... مسامح يابو حمزة دار دنيا دار آخرة!... تعانقا وبدأ بكاءهما حزيناً لِما فعلته الأيام بهرمهما وعدم لقائهما اليوميِّ المعتاد.
هكذا كانت رجالات بلدي أيام زمان، مزاح قد لاتستوعبه عقولنا في هذا الزمن المادي الرديء. تسامح ووفاء، تحمل الأخطاء ونسيانها، مهما كانت قاسية مؤلمة... ( دفتر حاج ازغيّر ) صار مثلاً لكل دفتر مهم يُتْلَفُ بسبب تمزيق، أو حرق، أوإهمال. رحم اللّه ذلك الجيل، وتقبلهم من الصالحين لينعموا في جنان الخلد?!....