-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

بناء الموقف بين الذاتي والواقعي


                                                            د. محمد دخيسي أبو أسامة

تقديم
سؤال تجنيس النص من الأسئلة التي أرق البحث في مجال الأدب منذ القديم؛ عربيا وغربيا. لذلك نسعى في هذه القراءة للعمل الإبداعي (على خطى ميّ وجبران) للأستاذ بوزيان موساوي أن نكشف عن هذه الإشكالية. ونتخطى بذلك المفهوم السائد.
ونسعى أيضا إلى تقريب القارئ من أهم التيمات التي جعلها الكاتب قصدا من وراء المراسلة، وهو ما يؤكد بالفعل أن الوظيفة التأثيرية كانت مضمرة في الكتابة، فجعل النص/ الرسالة، رسالة ثانية منه إلى القارئ.

1- سؤال تجنيس العمل الإبداعي
فقد اختلف منذ القديم في تحديد جنس النص، فكان للنظريات النقدية بعدٌ وظيفي يختار للإبداع سمات تعيِّنُه وتقيم له القاعدة على أساس نوع الخطاب جنس النص. إذ الجنس عام والنوع خاص، فالرواية جنس أما الرواية البوليسية أو السيرة أو غيرها نوع، والشعر جنس أما أغراضه فهي أنواع تابعة له.
غير أن ما ذهب إليه بعض القدامى يشير إلى تفضيل مثلا الشعر على النثر لأنه كالدر، وهو ما ذهب إليه ابن رشيق في العمدة في قوله: "إن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدر -وهو أخو اللفظ ونسيبه، وإليه يقاس، وبه يشبَّه- إذا كان منثورا لم يؤون له."
ويقاس الأمر باللفظ والمعنى اعتمادا على الصياغة والحبكة التي تجعل النص متميزا عن غيره، في ما يحتاج إليه لحسن التأليف وجودة التركيب. فيجعل مثلا عبد القاهر الجرجاني الكلام قائما على التمثيل والتشبيه والاستعارة ليكون أولى بالتقصي والتفكر، إذ هذه المحسنات: "أصول كبيرة، كأن جل محاسن الكلام-إن لم نقل كلها- متفرعة عنها، وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور/ عليها المعاني في متصرفاتها."
وتقترب هذه التعاريف من مصطلح الشعرية التي تبنته النظريات النقدية الحديثة كالبنيوية وغيرها. التي تبحث عن أدبية النص، إذ يختزَن دور كل الخطابات الإبداعية في: "أمر هو البحث عن الأسباب التي تجعل بعض النصوص في هذا العصر أو ذاك تعد 'أدب'".
ويعتبر هذا الموضوع قضية أساسة في النقد المعاصر، إذ لم يعد ينظر إلى النص باعتبار جنسه، بقدر ما يلتفت في الغالب إلى مستوى تحقيقه الشعرية التي تتحقق بالمستوى الإبداعي الكلي في النص والخطاب. كما أن التجنيس نفسه أصبح متجاوزا في بعض الأحيان، لأن المبدع قد يكتب نصا لا يحقق به جنسا معروفا معينا، وإنما لينسج خيوط لعبته الكتابية عبر تراكم كلمات ذات منحى سردي أو وصفي أو غيره من الأنواع التي تصب في حلقة التكثيف البلاغي والصرفي والتركيبي. لذلك فكرونولوجية النص تشير إلى الانتقال من الأجناس الخطابية عند أرسطو، إلى بلاغة الخطابة والشعر عند النقاد العرب القدامى، إلى البلاغة الجديدة في النقد الغربي المعاصر.
وبالعودة إلى الأدباء العرب القدامى، نلحظ بقوة جمعهم بين أجناس أدبية عدة، حتى يستقيم مجال الكتابة لديهم فيها، ويعبرون عن أرقى المعاني وأسمى الدلالات بلغة متقنة لفظا ومبنى، ولعل الأساس في ذلك اعتمادهم القرآن الكريم منهلا، والشعر العربي القديم مرجعا، والبيئة العربية الغنية بتراثها سبيلا لتحقيق ذلك. وأمثلتنا على ذلك كثير من الأسماء لمن ساهم بشعره ونثره ورسائله وخطابته وسرده في تقديم صورة بهية عن تاريخ العرب إبداعا ونقدا.
والحديث عن التجنيس يضعنا أمام اعتراف الكاتب بوزيان موساوي بفحوى الخطاب: "مراسلات أدبية"، والمعروف أن المراسلة أولا هي تعبير كتابي للعمل اليومي الذي يخدم من خلاله المرسِل وظيفته الخاصة، ويجعل من مراسلته وسيلة للتحاور والتواصل. ويتماشى هذا المفهوم وخاصية المراسلات الإدارية التي تجعل من التقرير اليومي ومن التواصل لتأكيد الحاجيات والتذكير بالمسؤوليات وغيرها من الواجبات هدفاً لتقوية دور الإدارة والتأكيد على وجودها الفعلي، لذلك تقوى مصدر هذه المراسلات حتى أسست لها دواوين خاصة (أو وزارات بالمفهوم الجديد)، كما أن البعض جعله ضربا من ضروب ما أطلق عليه بالإخوانيات تسمية جديدة تكتسب طابعها القوي في المجال الأدبي، فظهرت إخوانيات المفكرين والأدباء.

من هذا المنطلق، يمكن أن نستنتج أن المراسلات تجمع بين الجانب الأدبي والجانب الفكري والمجال السياسي. أما اللفظ القريب من التداول الفعلي في القديم فهو "أدب الترسل" الذي يستلهم قوامته من الأغراض المعروفة كالحب والأمل والمنفى والتقرب والمشاركة وغيرها.. وهو دائر على ترجمة الفكر والعواطف، ووسيلته التصنع والتجمل الكلامي.
وأشهر النصوص التي أرخت لهذا الغرض نجد رسائل عسان كنفاني إلى غادة السمان، ورسائل جبران، ومراسلات محمود درويش وسميح القاسم... وقد جمع عبد الحميد الكاتب رسائل قديمة في كتابة الإنشاء مثلا. ومن المراسلات أيضا مراسلات مي زيادة وجبران خليل جبران. ونجد رسائل في التراث الغربي كرسائل غركي وتشيخوف، ورسائل ديكارت وإليزابيت..
وفي هذا الإطار ندرج (على خطى مي وجبران) للكاتب بوزيان موساوي. وقبل تحليل التيمات الأساسية، والصيغة التي استلهمها الكاتب ووظفها في عمله؛ لا بد أن نقف عند بعض الملاحظات الأولية، وهو السبيل الذي دأبنا اعتماده في قراءة أعمال إبداعية من أجناس مختلفة. ومن شأن هذه الخطوة تقديم العمل للقارئ من بابه الواسع، والتعريف به بطريقة سهلة وفي متناول الجميع.

2- على خطى مي وجبران؛ ملاحظات بنائية
أولا- ترتيب المراسلات وترقيمها من البداية إلى العدد واحد وعشرين؛ فنحن أمام إحدى وعشرين مراسلة؛
ثانيا- استمرار المراسلات إلى مدة تتجاوز السنة، إذ لم يوثق الكاتب النصين الأولين، فبدأه التحديد الزمني في المراسل الثالثة (29- 09- 2017)، وانتهى في المراسلة الأخيرة بتاريخ (26-8-2018)، مع بعض الاستثناءات دون توثيق، لكن يبقى الأهم من ذلك أن الكاتب منضبط للشرط الزمني، ومتمسك بترتيب الحدث وفق الجدولة المخطط لها؛
ثالثا- ارتباطا بالجانب الزماني، نلحظ الشكل السردي للحدث، فبغض النظر عن حقيقتها أو استلهامها النشاط العقلي التخيلي؛ يبقى الهاجس الحدثي قائمَ الذات، ومنطلقا من وقائع ذات طابع نفسي، وشخصي، واجتماعي، وسياسي وغيره..؛
رابعا- من خلال ما سبق، نشير إلى كون الكاتب ركز على التخيل باستلهام شخصيتين رئيستين هما مي زيادة وجبران خليل جبران، وجعلها شخصيتيِ المراسلات التي يتبناها في كتابه، إلى جانب توظيفه المواضيع ذات الطابع الحاضر؛
خامسا- افتراض واقع ميّ وجبران، وتقدمهما بمحاورات فيسبوكية تمتد فترة من الزمن؛
سادسا- وهنا نطرح تساؤلات حول اختيار العنوان:
لماذا جعل الكاتب عنوانَ كتابه "على خطى ميّ وجبران" وفي الوقت ذاته يقِرُّ باسميهما في المتن؟
ألم يكن بوسعه أن يُشرك شخصيات أخرى تنوب عنهما ليكون ممثِّلا لنهجهما وسائرا على خطاهما؟
ما الجدوى من السير على خطى فلان، وأنا أجعل اسمه حيا في حياتي؟ إذاً أنا ظل له أو أنا هو هو..
"على خطى ميّ وجبران" سؤال فضفاض، وموضوع محدد: المراسلات.. لذلك نجد الكاتب يجمع بين الحقيقة/الحاضر والماضي في المراسلة الثالثة، حيث تقول مي:
"كتبَ جبران خليل جبران –وهو من ألهمك كتابة هذه السلسة من المراسلات معي- كتابا تحت عنوان "دمعة وابتسامة".." وهنا نستنتج أن ميّ شخصية أخرى غير مي زيادة، وجبران يمثله الكاتب ذاته في مراسلة تكتسي طابع المخاطبة على نهج مراسلات سابقة، وهذا تأويل قد يخرجنا من ورطة العنوان ذاته؛
سابعا- الإهداء: باعتباره عتبة ذات مقصد تعبيري، جعله الكاتب مخصصا لامرأة كان لها الفضل الكبير على حياته الشخصية والإبداعية؛ فجعلها رمزا استعاريا (فاطمة العشاب)، وهي أخت المبدع التي ساهمت في مناحٍ كثيرة عبَّر عنها شخصيا من خلال لقاءات خاصة؛
ثامنا- لا بد من الإشارة إلى أمر ذي أهمية قصوى في مجال الإبداع والكتابة، وهو المتعلق باللغة، فنلاحظ تأثر الكاتب بكثير من الكلام اليومي من جهة، وكلام المشارقة من جهة ثانية، وهو ما يثبت أمرين:
- أولهما: أن المراسلة ربما تكون فعلا واقعا؛
- ثانيها: حضور لغة الشات التواصلي.
نذكر من ذلك مثلا: (أنك وقفت جنبي على طول- دون وجع دماغ- يا غالب يا مغلوب...)
تاسعا- الرموز الدينية والأسطورية وأسماء المفكرين وحضورها القوي في النصوص بشكل لافت، يجعل القارئ في متاهة بين البحث عن مرجعياتها، ومقصديتها داخل النصوص؛
عاشرا- المقدمة، واعتبارها عتبة ونصا موازيا، يبقى تقديما عاما يشتغل فيه صاحبه الكاتب والناقد منذر الغزالي (بون ألمانيا)، على واقع النص، وربطه بتجنيسه التراسلي.

2- تيمات الذات والواقع، بناء رؤية ومواقف
ننطلق من هذه الفرضيات السابقة لنشير إلى أهم التيمات التي ناقشها كل من ميّ وجبران في هذه المراسلات:
2-1- الموقف من الحب والعواطف النبيلة:
أول تيمة يتلقفها القارئ في المراسلات، هي الحب الذي يجمع بين ميّ وجبران، والمعروف حقيقة، أن مي أحبت جبران ولم يكن بينهما لقاء، اعترفت بحبها له بعد ثلاثَ عشرة سنة من المراسلات.
يقول الكاتب بوزيان موساوي في أول حوار بينهما، على لسان ميّ:
"كان حبُّنا نطفة، وأرديتها، لأنكَ ما عدتَ عقيدة، لقد زرعوا مكان الورد ألغاما.. وذخيرة عديدة ومن الدماء رسمنا معا خريطة هروب عنيدة."
فأول حوار، يمكنه أن يجيب على بعض التساؤلات السابقة، فالمبدع بوزيان موساووي يستلهم الحوارات السالفة بين مي وجبران، ويحاول أن يتممها بحوارات حاضرة، تستلهم الواقع المعيش، وكأنهما حاضران معنا.
فالحبُّ الذي آمنت به مي زيادة لا يمكنه أن يعيش في وقتنا الحاضر، أمام سلطة الذات وبناء الهواجس والأزمات، وهي وإن كانت حبلى فإنها تتراجع أمام هول المصائب وما حلَّ بالوطن العربي من تشتت وفقدان أمل....
لذلك نجدها تقول: "لقد زرعوا مكان الورد ألغاما" وما كان أمامها إلا الهروب إلى ملاذ أكث أمنا وطمأنينة. وحين حاول جبران أن يذكرها ببعض ما عايشاه من حب وتربية أمل في الحياة؛ كان جوابها:
"آنذاك كنا بشرا، وقد قتلوا فينا إنسانيتنا.. دعني الآن لكآبتي فما عدتَ حتى أنت من جيراننا، وسأكاتبك.. متى تحسنت.. نشرات أخبار أجوائنا."
فأول ما نلاحظه في بداية الرسائل التي نسجت خيوطها بين مي زيادة وجبران خليل جبران المشخصين هنا، هو أن ميّ أكثرُ واقعية من جبران، فيعيش هو على الأمل الضائع الماضي، وعلى العاطفة النبيلة التي يكنها لها، غير أن زيادة تتأرجح بين الحب والواقع، بين بناء الموقف والحالة الشخصية، لذلك لا تقبل بالمساومة، فتفضل الانسحاب والتأمل علها تجد حلا للمكاشفة والاستبطان.
لذلك ترتقي الكتابة لتصل درجة الوعي بالحب والتفرغ للاشتغال على تيماته في نصوص إبداعية، قد تخرج عن إطار الترسل لتصل إلى مرحلة الإبداع الشعري الصرف، ففي هذا العمل يكثف بوزيان موساوي الكثير منها، ويمكن ان ستشهد في هذا المجال بقوله:
منذ البدء كانت الكلمة،
ومنها خلقتك
ومن لُعاب الشَّغَف     

على لوحة
أحلامي صورتك
فسيفساء
حتى لا تُشِعُّ أضواء
أيا ميّ
إلا من عيونك
وما اكتملت الصورة
فهي صورة غير مكتملة، ونصوصه أيضا غير مكتملة لا زمنا ولا مكانا، ففي مساحاته حيز للكتابة المستقبلية، وفيها من القول الكثير أيضا.

2-2- القضايا الراهنة، وبناء الموقف العام
لعل من الوظائف التي يشتغل عليها المبدع في كل كتاباته، الوظيفة التأثيرية التي تتخطى الجاهز، وتحاول أن تخترق أفق القارئ وتوقعه؛ فتتوطد العلاقة مع المتلقي لمقاربة الواقع: كشفا، تشخيصا وبحثا عن الحلول الممكنة.
من هنا كانت هذه المراسلات فضاء استغلها الكاتب بوزيان موساوي لمقاربة الواقع من خلال هذا الثالوث:
أولا: الواقع/ الكشف
قبل تسليط الضوء على الحالة الراهنة، نحاول في الغالب أن نبين للمتلقي قيمة الواقع، وقيمة الغوص في مستنقعه الملوث، أو المريض. هذا المستنقع يشي بكثير من الفوضى، وكثير من التأزم، لذلك كان للحوار الثنائي بين مي وجبران في هذا الكتاب وقعٌ خِصب يستجلي بعض خصوصيته.
نذكر من ذلك ما جاء في قوله:
"كتبَ جبران خليل جبران –وهو من ألهمك كتابة هذه السلسة من المراسلات معي- كتابا تحت عنوان "دمعة وابتسامة"... ويور الكتاب حول موضوعات أربعة: المجتمع والطبيعة، والحب، والوجود... يبين فيه جبران فساد المجتمع وما فيه من ظلم واستغلال وطمع وفقر، ويرى أن الطبيعة تمثل الخير والطهر والكمال.. ما رأيك في أطروحتي يا جبراني:
أجبتها:
أيا ميّ:
هي مواضيع فلسفية كبرى.. ولست فيلسوفا.."
هنا يتجلى الاهتمام المشترك بالمواضيع الراهنة، والمنطلق طبعا من الكشف عنها دون التشخيص، فهي كما جاءت على لسام ميّ تتعلق بأربعة مجالات: المجال الطبيعي، والاجتماعي والعاطفي والحياتي أو الوجودي.. وهي في كنهها خصوصيات الأزمة العامة التي يعاني مننها العالم حاليا. فلولا خصوصية الحياة بتناقضاتها من جهة، والمصالح المعلقة للأفراد لما كان البحث عن الطبيعة واحتالاتها، والعاطفة وتجاذباتها، والمجتمع وتحالفاته..

ثانيا: الواقع التشخيص
تعد مرحلة التشخيص جانبا مضيئا في التحليل، إذ بها تعتمد الصيغة المثلى للعلاج، فهي بمثابة فرضيات تسبق التشبث بالأمل والتحلل من القيود المبعثرة للوجود. يجد بوزيان في هاته المرحلة ضالته، فيشخص الواقع بكل تناقضاته، منطلقا من المواضيع الأربعة السابقة الذكر.
فمن حيث الطبيعة، نستطيع تشخيص الواقع انطلاقا من طبيعة الإنسان أولا، ثم طبيعة النسق العام للحياة، وأخيرا طبيعة الكون البشري عامة.
فمن حيث المجتمع: تجسد التربية واقعا مفروضا وحتميا تتم من خلالها تشخيص كل الفلتات، والأسرة هي البؤرة الأولى التي تقرر مواطن الخلل؛
أما من حيث الطبيعة: فتتمثل في الطبيعة البشرية وعلاقتها بالمحيط؛
ثم الحب: الذي يعتبره واقعا مفروضا وحتميا، متكون بذلك ميّ جزءا من هذا الفرض؛
وأخيرا الوجود: الذي يكون بقفزة ا إنسان داخل حياته.
وقد استند بوزيان موساوي ومن ورائه جبرانُه على أسماء مفكرين كبار لخلخلة توازن الفكر وإعطاء الشرعية للتحليل: من ذلك شكسبير، وغادة السمان، ونبال قندس، وهيدجر..
ثالثا: الواقع/ الحلول الممكنة
تأتي المرحلة الثالثة متنفسا لكل من ميّ وجبران، لذلك يختار سبيل فضح الألاعيب العالمية، ومحاولة إيجاد السبل للعلاج والتقويم.
يقول في المراسلة السابعة على لسان ميّ هاته المرة: "لا..لا، لم تحن ساعة الوداع بعد.. سنصنع ربيعا جديدا غير الربيع المذلول المهان.. وسنحشو رشاشاتنا بورود غير الياسمين.. من صنع أقلامنا وبحبر لا يشبه لون الدماء.. يومها ستنمحي التجاعيد من قلبي.. ونعيش حبنا من جديد..
سألتها:
ومتى سيأتي الربيع؟
أجابت: اسألِ التاريخ."
انطلاقا مما سبق يمكن القول إن هاته المراسلات في جورها بحث عن الخلاص من الواقع، من خلال الأسرة التي يعيش فيها الإنسان دون أن يجد السر المكنون داخلها والحياة الهانئة والمتوافقة وطموحاته النفسية والعقلية والجسدية، ثم من خلال الشارع/ المجتمع الصغير الذي يغَيِّب الحرية وسلطة التعبير، فتنكشف هشاشة الفكر والعاطفة والفعل، أما من خلال المجتمع الكبير/ الوطن أو العالم، فالسلم والأمن والاجتماعي غائبان لذلك تتلاشى صور الحياة الكريمة ولا يمكن للإنسان إلا الالتجاء إلى سبل المراوغة الإبداعية للكشف والتشخيص والعلاج، وهو الأمر الذي استنبطه المبدع والكاتب بوزيان موساوي، فكان النص/ الحاضر، وكانت الفكرة/ الغائبة سبيلين للتعبير عن هواجسه بطريقة فنية إبداعية جديدة لم يتطرق لها سابقوه من أبناء وطنه أو عصره.

تركيب
الرمز، السلطة، الواقع، الذات... تيمات تكثفت في مراسلات ميّ وجبران، ومن خلالها الذات المبدعة، والآخر المخاطَب في شتى الأزمنة والأمكنة.. فحتى إن افترضنا شخصا بذاته؛ فما هو إلا جسر للآخر الجمعي. ومن ثمة يمكن استنتاج أن الترسل أدب قبل أن يكون تواصل عاما، أدب باعتباره يشتغل على النص بمكوناته التعبيرية والتأثيرية والجمالية.. وفنا كونه يلتقي مع المتلقي في أفق انتظار موحد، قد يتزعزع حين يتخلخل الميزان الاجتماعي، وقد يتيه القارئ في سراديب الأزمة الاجتماعية دون أن يجد المخرَجَ المناسب؛ فيكون الإبداع سلطة الكشف والتعبير، تتجسد سواء من خلال النص العادي الشعري أو النثري، أم من خلال استغلال الطاقات القديمة/ الجديدة التي قد تجعل المبتدأ والمنتهى الجمال والتأثير والخلق والإبداع.


تعديل المشاركة Reactions:
بناء الموقف بين الذاتي والواقعي

canyar

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة