-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

قراءة في قصيدة «طريق متعرّج» للشاعر المغربي «الحسن أسيف»



اللوحة للرسّام "فينسنت فان غوخ"



أمينة نزار – المغرب



طريق متعرّج
الحسن أسيف



لامع أنت أيها الليل
تائه حول الأرض
وأنا هنا...
لا يهمني من أين أبدأ
ما دام أن لي
عودة إلى هنا
لأرافق الحقيقة
على طريق اليقين
بعد شروق الشمس.
وأنت يا أنا...
اِصغَ لعباراتي
ستدرك منها
طريقاً آخر
غير طريقي
ستتعلم أن الوجود
غير موجود
واللا موجود
موجود بالفكر
خارج الزمن.
سأتكلم...
سأريك
حشداً من الإشارات
تنطلق في كل الاتجاهات
في جسم ليل
سميك ثقيل
وفي الردهات.
اليوم...
ليس للشمس
موطئ رِجْل بعوضة
ولا جدوى من التطهر
فالذي وقع أمس في التراب
يغتسل اليوم بالوحل
والحمير
تفضل القش
على الذهب.
اليوم...
نصف البحر
تحول إلى تراب
ونصفه الآخر
إلى بخار.
أما نحن...
فموجودون
وغير موجودين.
اليوم...
على محيط الدائرة
اختلطت البداية
بالنهاية.
ومن الأفضل
أن نخبئ عوَزَنا
لتبقى ثروتُنا
يقرضها فئران
ما دام ليس بيننا
قط أجوَدُ.



من خلال هذه القراءة سأركز على المحاور التالية:

-         العنوان:
يبدو أن الكاتب تعمد استعمال صيغة النكرة "طريق متعرج" وهو دليل على أنه ليس هناك طريق واحد بل طرق متعددة متعرجة وهذا فقط واحد من بينها، كما تعمد استعمال "متعرج" ولم يقل "منعرج".

وكلمة "متعرج" تعني "الانعطاف والميل، كما أن التعرج هنا مقصود وبفعل فاعل بهدف حجب الوضوح في الرؤية وخلق صعوبات وعراقيل تحول دون الوصول إلى الهدف المراد تحقيقه بشكل مباشر، فالمنعرجات دائماً تشير إلى صعوبة المسالك وترافقها إشارة "خطر".
وإذا كانت القاعدة الرياضية تقول "أقصر مسافة بين نقطتين هي خط مستقيم " فأحيانا تتعذر هذه "الاستقامة" فنتيه في المنعرجات التي تستنزف ذواتنا بدنياً ونفسياً وتستنزف وقتاً ثميناً  كان يمكن توظيفه لأغراض أخرى، مع عدم وجود ضمانات على الوصول إلى الهدف من عدمه.

-         زمن النص:
الليل، والليل كان دائماً ولا زال للشعراء، للفلاسفة والمفكرين عموماً، زمناً للاختلاء بالذات ومساءلتها، للتأمل، للتدبر، للغوص بحثاً عن كنه الأشياء، والنظرة إلى الأمور خلال الليل تختلف تماماً عن مثيلتها في النهار، وقد وصفه الشاعر هنا بنعتين "لامع" و "تائه ".

واللمعان يمكن أن يكون حقيقياً بحكم النجوم التي تتلألأ في سمائه، ويمكن أن يكون مجازياً باعتبار الإلهام والإشراقات التي يأتي بها الليل للأدباء والشعراء على الخصوص، كما يمكن أن يكون تهكمياً "ironique" لأنه سيعود فيما بعد ليقول عنه "ثقيل وسميك"، والسمك والثقل يحجبان اللمعان طبعاً.
أما الصفة الثانية فهي التيه، والتيه حالة من الحيرة والضياع والبحث عن الذات.

-         مكان النص:
"أنا هنا" وهذه الـ "هنا" يمكن أن تدل على مكان حقيقي، كما يمكن أن تعني مكاناً افتراضياً غير محدد، تدور فيه الذات الشاعرة في حلقة ما تكاد تصل إلى نهايتها حتى تعود إلى نقطة البداية من جديد، لذلك بدأ الشاعر يتعامل مع هذه النقطة بنوع من اللامبالاة، ويركز على هدف أرقى وأهم وهو "مرافقة الحقيقة على طريق اليقين"، الحقيقة المؤكدة بعد أن ينجلي ظلام الليل وتشرق الشمس.

-         الذات المخاطبة:
"أنت يا أنا"، والخطاب هنا يهم كل شخص ينتمي إلى محيط الشاعر ويعيش نفس ظروفه، يرى فيه ذاته ويتقاسم معه معاناته وهمومه اليومية، يتوجه إليه بخطاب قوي، بصيغة الأمر "اصغ لعباراتي"، لا بهدف فرض هذه العبارات على الآخر قصد تبنيها – وأؤكد هنا على "الآخر" دون الغير لأنه المستهدف بالأساس – بل لأنها ستفتح له أفقاً للتأمل، ليدرك أن ليس هناك مطلق، فما يبدو موجوداً بالنسبة للبعض غير موجود بالنسبة للآخر، وما هو غير موجود في الواقع يمكن أن يكون موجوداً  في دواخلنا، في الأفكار التي نحملها والقيم التي نتبناها، ونسعى لتحقيقها حفاظاً على الانسجام مع الذات ومع المواقف خارج حدود الزمان والمكان.

وهذه دعوة ضمنية إلى تبنّي الفكر العلمي الذي يؤمن بالنسبية، ونبذ الأفكار المطلقة النابعة من التطرف الفكري والديني ورفض الآخر والمختلف.

ويؤكد على ما يقول بالاستشهاد "سأريك" بعدة إشارات التقطها من الواقع المعاش الذي غاب فيه النور وطغى عليه الظلام فصار ثقيلاً سميكاً:
"فالذي وقع أمس في التراب
يغتسل اليوم بالوحل".
وهنا يرمز إلى الذي اختار طريقاً مخالفاً تماماً لما تمليه الأخلاق والمبادئ والقيم الإنسانية النبيلة بهدف تحقيق مصالح مادية صرفة، وهذا لا أمل فيه، فالحاضر ليس دائماً قادراً على تدارك أخطاء الماضي وتصحيحها:
"ليس للشمس
موطئ رِجْل بعوضة
ولا جدوى من التطهر"

ويقول:
"نصف البحر
تحول إلى تراب
ونصفه الآخر
إلى بخار".
والبحر هنا يرمز إلى المجتمع الذي انقسم نصفين: نصف مادي تحركه وتحكمه الإغراءات والمصالح المادية، ونصف آخر عدمي ألغى وجوده بمواقفه السلبية.

"أما نحن...
فموجودون
وغير موجودين".
وهذه الفئة إذا وجدت جسداً فهي غائبة فعلاً وممارسة، تدور داخل حلقة مفرغة "اختلطت فيها البداية بالنهاية"، لا هي قادرة على تقبل الوضع الجديد والاندماج داخل منظومة القيم  التي فرضتها متغيرات كثيرة اقتصادية، سياسية، فكرية... وانعكست على المجتمعات بقوة، ولا هي قادرة على إعلان رفضها وتمردها على هذا الواقع الجديد والارتقاء به من موقف إلى فعل.

ثم يخرج الشاعر من "التعويم" ليعلن عن موقف شخصي من هذا الواقع، إذ فضل التواري وترك "الفئران" ويعني بهم ناهبي خيرات البلد "ليقرضوا" ويستمروا في نهب هذه الثروات التي يمكن أن تكون رأسمالاً مادياً أحياناً أو لا مادياً أحياناً أخرى، ما دمنا لا نمتلك الشجاعة على مواجهتهم والوقوف في وجه ممارساتهم ووضع حد لها "ما دام ليس بيننا قط أجود"، وبذلك نستحق ما يحدث لنا.

نصّ تأملي عميق، قوي، غني بالرموز والإيحاءات التي تتطلب الوقوف والتوقف عندها طويلاً، نقد لاذع حد القدح أحياناً، لأوضاع مجتمع غلب عليه الاستغلال واستشرى فيه الفساد لدرجة التطبيع معه، صيغ باحترافية ليست عزيزة على مبدع وناقد قدير، لكن نبرة التشاؤم  والتسليم بأمر واقع دون الدعوة إلى محاولة تغييره أرخت بظلالها على النص.

الاسمبريد إلكترونيرسالة