الصرخة الأولى التي تطلقها من حنجرتك وأنت مكّبل بالسلاسل،
هي ذاتها التي تطلقها يوم ولادتك من رحم أمّك بجسد هزيل ووجه متورّم. الفرق بين
الصرختين أن في صرختك الأولى تستقبلك الحياة على كفوف الراحة، وكأنك مخلوق مقدّس،
لم تدنسه الحياة بعد، أما في صرختك الثانية فتلوّح لك الحياة بيديها، مودّعة روحك
المعتقلة حتى بعد خروجها من جسدك. ولدتك أمّك يا ابن آدم حرّاً طليقاً، كعصفورٍ
يحلّق أينما راق له الترحال، لا مسجوناً خلف قضبان قفص مجرّداً من أبسط حقوقك.
يا نسمات الريح خذي أشواقي بين طياتك وارحلي إلى بلاد
الغربة، تسلّلي إلى أحلام أحبابي، وأبلغيهم سلامي، فقد طال غيابي، وبدأت الذاكرة
بنسياني، أخبريهم أني على أرض السراب أنتظر لقائهم.
فُتح باب الزنزانة على مصراعيه. ألقوا به على العتبة، وهو
غاطس في دمه. ألقوه بعنف، حتى أني سمعت صوت كسر ركبتيه في أذني، وأنا مغمض
العينين. تلك الغرفة الصغيرة التي تشبه علبة «السردين» في مساحتها الضيقة، تجتمع
فيها ما يقارب عشرين ضحية، وصديقي «پيران» الذي ألقوه قبل قليل، هو السجين (21).
پيران شابّ في مقتبل العمر، من مدينة قامشلي، اعتقل على
طريق حلب منذ أربع سنوات، تعرّفت عليه بينما كنت في سجن منبج، بعدها نُقلنا معاً
إلى الرقة. أصبحنا صديقين يوم لقائنا الأول؛ لأنه شاركني الصدمة التي تلقيتها بسبب
الاعتقال، وهدّأ من روعي أثناء فوراني كالبركان، رغم صِغر سنّه كان يملك تفكيراً
يفوق عمره، كِلانا يحمل الآن في رقبته سلسلة مكتوبة على لوحها رقم الاعتقال، فأنا
أحمل الرقم (435)، أما هو فكان في السجن قبل مجيئي بشهرين، لذلك يحمل الرقم (309).
أدركت أخيراً أننا في هذا الوطن النامي لسنا إلا مجرّد
أرقام! أرقام تُسجّل على قيد الحياة أو الموت. رائحة قوية تنبعث من الغرفة فجأة،
فكلّما تحرّك أحدنا أو لامس الجدار تنبعث هذه الرائحة التي تقتحم أنفاسي، تُعشّش
في داخلي، وتُصيبني بالهلاك. آهٍ... إنها الجدران المبقّعة ببقع الدم.
بعيداً عن الرائحة ومعاناتنا، بدأ صديقي الملقى على العتبة
يزحف بكلّ ما أتاه من قوّة، وهو يزأر ألماً، أنصتُ إليه، لكني لم أجرؤ على فتح
عينيّ المالئتين بالدمع! أناديه باسمه:
-
پيران، پيران...، ماذا يحدث معك؟
هل أنت بخير...؟!
أجبني...!
لا أتلقّى جواباً منه، فقط أستمع إلى صوت آلامه.
نسيت ألمي، وتألّمت لألمه، لأني أعلم أنه ضعيف البنية، لا
يقوى جسده على تحمّل الضربات، لم أستطع فعل شيء سوى رفع سُبابتيّ نحو ذاك السقف
المضرج بآلامنا وتخوّفاتنا.
فتحت عينيّ الملتصقتين ببعضهما البعض منذ أمس؛ لأرى منظره
وأعلم سبب زئيره الذي لا يتوقّف، جسده الهزيل عليه كدمات فظيعة، جلّدوه بضربات
السياط والأكبال، فقد اخضرّ وازرقّ، وهو يتدفّق دماً مخملياً قانياً. أنصت لبكائه الشجيّ،
فبدأت بالبكاء أنا أيضاً.
يا إلهي!
العالم بأكمله يعلم ما معنى أن تبكي الرجال! الرجال لا
يذرفون دمعاً إلا عندما تفوق آلامهم قمم الجبال، ويكون الظلم قد غلب العدالة شرّ
غلبة. أُخاطبه من جديد:
-
پيران... يا صغيري، هيا انهض، فأنا كنت قبلك،
وأعلم أن هذا الألم لن يدوم طوال العمر، هيا انهض!
أنا أيضاً غارق في دمي، وأعتقد أنهم
كسروا لي إصبعين، أرجوك! كن قوياً، وانهض.
لا صوت! سوى بكاءات وحشرجات، ثم جاءني صوت بين دهاليز تلك
الجدران، بالكاد كنت أسمع:
-
آهٍ يا صديقي...! أريد الموت والخلاص، فهذا
العذاب لا يُحتمل، والله إني أشعر أن نهايتي قد اقتربت!
-
ما هذا الذي تقوله؟ أين هو پيران الذي أعرفه؟ أنت
الذي يُهدّأ من روعي كلما ضعفت، فما هذا الذي تتفوّه به؟
-
أنت لم ترَ أعدادهم الكبيرة يا صديقي! هم يخطّطون
الآن لفاجعة عظيمة، لأني سمعتهم في هذا الصباح يقولون أن الرفاق اقتربوا جداً، وهم
يجهّزون الأسلحة الثقيلة لردعهم. أخشى أن أموت هنا مسجوناً، ولا ترى أمّي جثماني.
-
تمسّك بأمل اللقاء بها، ولا تقل مثل هذا الكلام
الفارغ.
اقتربت من پيران، أردتُ مساعدته، لكني لم أستطع، شعرت بجسدي
المولّع بالجروح والتقرّحات، لا يتيح لي فرصة التحرّك. كانت ما تزال علامات
التعذيب بالأسلاك الكهربائية والسوط واضحةً على جسدي.
وخزات باردة هاجمتني الآن من أرضية الغرفة، وكأنني استيقظت
من سُبات دام أشهراً وسنوات، جعلتني أرتعش بلا توقّف. تعجّبت لأمري؛ إذ لاحظت أني
لا أرتدي إلا ذاك «البنطال» البرتقالي الملطّخ بالغبار والدم، الممزوجين بجميع
أنواع العنف والتعذيب. أين ذهبوا بأسمالي التي كنت أرتديها منذ أربع سنوات؟! أسأل
عنها وعن رائحتي التي أفتقدها. ما بال هذا اليوم؟ فجميعنا يرتدي مثل هذه البناطيل،
البرتقالية اللون.
تزداد برودة الأرض شيئاً فشيئاً، (يااااه) ما أجمل الأرض،
وأنا تخيّلتها! أنامل ممرّضة تعالج جروحي. ألا يحقّ لي أن أتخيّل أو أحلم؟! أهذا
أيضاً محرّم في الإسلام وقوانين الدولة؟! أغمضت عينيّ مرّة أخرى، شريط ذاكرتي يعيد
نفسه للمرّة الألف من كلّ يوم.
لا أريد أن أتذكّر ذلك اليوم المشؤوم. لا، لا أريد أن أتذكّر
رحلة الموت تلك! أُصارع ذاكرتي بوضع يداي المتسختان بالغبار والدم على أذني؛ لأمنع
نفسي من سماع الصراخ في داخلي. هذا الصراخ المكبوت منذ أربع سنوات. تنزلق من عينيّ
دمعتين وتسيلان على خدّي إلى أن تصلا إلى لحيتي التي طالت كثيراً فتتشربهما. ينظر پيران
إلي بتمعّن، لكنه لا يتفوّه بأيّ كلمة، فهذه ليست المرّة الأولى التي أعاني فيها
من أنين الذاكرة الذي لا يرحم.
تغلبني الذاكرة، فأستسلم لبدأ الرحلة من جديد، إنه 7 / 5 /
2014م، حافلتنا المنطلقة من مدينة كوباني، تتجه إلى حلب، نحن ثلاث عشر معلّماً
وموظّفاً للبلدية، وآخر يعمل في المدرسة أيضاً، في طريقنا لقبض الرواتب، حاملين أرواحنا
في أفواهنا، متأمّلين بعودة سريعة إلى أحضان كوباني، تلك الأمّ العجوز.
الأوضاع في كوباني ليست على ما يرام، تحاصرها حلقة من
الحرمان والجوع والرصاص والقذائف، وأهلها المساكين يعيشون حرباً نفسية ساخنة، لا
ينام رجالها إلا نهاراً، وفي الليل تستطيع رؤيتهم وهم يحرسون المدينة حراسة مشدّدة
على أسطح جميع المباني، كلّ منهم من تلقاء نفسه بسلاحه وعزمه، وهذا كلّه مخافة من
أن تفاجئهم إحدى الفصائل المسلحة ليلاً، فتنهب البيوت، وتخطف الأولاد، وتعبث
بأعراض البشر.
طريق حلب الذي يبعد عن كوباني مسافة (152.4) كم أصبح اليوم
يستغرق أكثر من عشر ساعات من المشقّة والخوف والخطف والاعتقال! تتسارع دقات قلبي،
ويبدأ تنفسي بالانقطاع، أفتح عيني لألجئ للنسيان، وأبحر في الواقع، إلا أنني أشعر
بذاكرتي وهي تجرّني من ما تبقّى من أسمالي، وتُعيدني إليها، وكأنها تضغط على زرّ
التشغيل من جديد، لأرى مجدّداً ذلك الشابّ الذي كان في الثامنة عشرة ربيعاً من
عمره، والذي أوقف حافلتنا. شابّ بدم حامٍ، يحمل عل كتفه بندقية مكتوبة عليها
«الخُطاف»، يرتدي أسمالاً مغبرّة، لَففاً على جبينه شريطاً مكتوباً عليه عبارة «لا
اله إلا الله، محمد رسول الله». شعره المشعّث خلق في نفسي نوعاً من التقزّز
والقرف، لحيته خفيفة، وكأنه أرغمها على الإنبات بموس الحلاقة، تبعاً لشروط
الانضمام في صفوف المغفّلين.
وآخر يرقد بمقربة منّا تحت ظلّ شجرة على سرير معلّق، وفي
يده عنقود عنب يلتهمه بشراهة. عاري الرأس، بشع الملامح، حافي القدمين، ملطّخ
الثياب، وله لحية فاق طولها شُعور النساء، يرتدي حزاماً ناسفاً، وكأنه لأمر طبيعي
للغاية، لعلّه ينتظر النعيم في الجنة مع حورياته السبعة والسبعين.
عبارة «الله أكبر، دولة الأوغاد في العراق والشام» مكتوبة
على كلّ الجدران والأسقف، على قُبب المساجد وخزانات المياه، إذاً وصلنا إلى جسر
«قره قوزاق» الواقع على نهر الفرات، أيّ الجسر الذي لا يبعد كثيراً عن وكر الغرابيب.
اعتُقلنا جميعاً على ذلك الجسر، ومن قبل ذلك الصعلوك، لتبدأ
حياتنا فيما بعد بشكل مختلف، لم نحسب له حساباً. انقلب شريط ذاكرتي إلى «كاسيت»
ثاني، أطلقت صرخة بدا للجميع وكأن شيئاً ما قرصني، فتحت عيني وشعرت بوجهي متصبّباً
بالعرق، هم لا يعلمون أني تذكّرت عائلتي! زوجتي، وأطفالي الأربعة، شعرت بقشعريرة
هزّت كياني كلّه، ودّعتهم من أمام منزلي، ووعدتهم بالعودة سريعاً.
ها هم ينتظرونني منذ أربعِ سنوات بلياليهم وضحاهم، تُرى أين
هم الآن؟ ماذا حلّ بهم؟ أأصبح «حمزة» رجلاً يمكن الاعتماد عليه؟ أتتذكّرني «
لاڤين» بعد؟ ماذا عن «رَنكين»؟ أتوق لرؤية عينيها، لعلّها أصبحت الآن تفوق أمّها
جمالاً ورونقاً. هذه الأسئلة لم تهجرني ولو للحظة، حتى وإنها تراودني وأنا في
المنفردة. آهٍ عزيزي «آلان»!! لم أنساك، فقد اشتقت لك كثيراً.
انتهى شريط الذاكرة! أشعر الآن بقليل من الارتياح والسكينة،
أنصت إلى أصوات الغُربان من حولي، و كأنني في مملكة الموت، لِما لا؟ بل إنها مملكة
الموت بالفعل، فلا أعتقد أن هنالك رقعة على الأرض أسوأ من التي أنا عليها. نعم!
لقد سمعنا الآن صوت تكبيرة صادرة من خارج الغرفة، ومن ثم أزيز خمس رصاصات أُطلقت
من فوهة أحد المجاهدين. توقّف صديقي پيران فجأةً عن نحيبه، وغاط في صمت عميق وهو
يُنصت معي إلى أصوات الطلقات في الخارج. هاجمتني الرعب والخوف، حسبت المستشهد أحد
زملائي الخمسة عشر، الذين لا أعرف عنهم شيئاً منذ أن غادرتُ سجن منبج.
-
هل سمعت هذا؟ (يسألني پيران).
-
نعم سمعت، إنه تطبيق حكم الإعدام رمياً بالرصاص.
(أجيبه، وقشعريرة خوف تهاجم ذاتي).
-
تُرى مَن يكون؟ أيعقل أن يكون مثلنا من
المعتقلين في السجون؟ (يسألني مجدّداً).
-
وما الغريب يا پيران؟ فكلّنا معرّضون لننال المصير
ذاته.
تمتمت في نفسي بشفاه مرتجفة، ونظرات تتوه في المدى، وتمنّيت
لذاك المستشهد، أيّاً يكن، الرحمة والمغفرة.
لفت انتباهي صمت پيران من جديد، وتذكّرت أنني لم أراه قرابة
أسبوعٍ؛ لأنه كان مسجوناً في المنفردة دون طعام، فقط يتصدّقون عليه بقليل من
الماء؛ ليبقى على قيد الحياة. لم تصلني أيّ أخبارٍ عن زملائي الذين اعتقلوا معي،
لا أعلم إن كانوا هم أيضاً على قيد الحياة، أو يعيشون الذعر الذي أعيشه كلّ يوم.
أعلم أن الصرخات في غرفة التعذيب والجَلد لم تنته منذ مجيئي
إلى هنا وحتى الآن، أيعقل أن تكون هذه الصرخات هي صرخاتهم؟ هل هم هنا أيضاً؟ ماذا
عن كلّ ليلة لا أستطيع فيها أن أدّعي النوم بسبب تآوّهات وصرخات السبايا التي تعلو
حدّ السماء؟ دواليب المطبخ التي لا تتسع إلا لجرّتين أو ثلاثة هي المنفردة، حجرة
صغيرة للغاية تصلها فقط ذرّات الأوكسجين من بين الشقوق الصغيرةِ جدّاً. بيوت
مهجورة لا يقطنها أحد كانت تحوّل إلى سجون بعد أن توصد أبوابها وتسدّ كلّ فتحاتها.
فهذه هي سياسة داعش ضدّ الكورد، هم يهابون راياتنا، يهابون
نسائنا اللاتي يحاربن كاللبوات، يهابون لغتنا، تاريخنا العريق، وإنجازاتنا؛ لأننا
شعب لا يعرف المستحيل، لأننا شعب يقرع الطبول، ويطلق الزغاريد أثناء الحرب، حلقات
الرقص والغناء هي بالنسبة لنا بمثابة تشجيع للإقبال على حرب عظيمة.
هم إن رأوا كوردياً يمشي أمامهم ينتظرون ليدير لهم ظهره،
ليطعنوه بعدها بطعنة غدر. لن نتوب عن حلمنا بإنشاء دولة كوردستان مهما كلّفنا
الأمر، أنا راضٍ بأن أكون ضحية في سبيل تحقيق طموح الكورد. أنا الكورديُّ إن شرّحتم
جسدي!
كلّ عمليات النحر وسفك الدماء التي أجريت بحقّ المعتقلين
الكورد شهدها عيناي، فكلّما تقدّم الرفاق وحرّروا منطقةً من بين أيديهم كانوا
يصبّون بغضبهم على أرواح الأبرياء، وما سمعته آذاني من عمليات اغتصاب جماعية
أُجريت بحقّ الإيزيديات تجعل من الغضب الكوردي يفور أكثر.
جدران السجن ملّت من وجوهنا ومظاهرنا، حتى أنها حفظت كلّ
أسرارنا وحكاياتنا وآلامنا وأشواقنا. هذه الجدران إن نطقت فسوف تشهد أمام العالم
كلّه كم من الضربات تلقّينا على وجوهنا وأجسادنا المزركشة بألوان العذاب! كم صرخة
أطلقناها لآلامنا وأحزاننا! كم ليلة قضيناها ونحن نعاني من البرد، الجوع والعطش!
كم شعوراً فقدناه ونحن ننتظر مصيرنا المجهول!
لقد اكتفيت من تأدية دور الضحية في هذه المسرحية الفاشلة،
وأريد أن أستقيل من أداء هذا الدور الصعب، والذي يفوق قدراتي، أُطالب الله بمسرحية
تليق بي كمعلّم! أسأل نفسي، دون أن أتلقّى أيّ جواب:
-
لا أعلم لِم وقع الاختيار علينا لنكون ضحايا
الحرب؟
لِم أصبحت أسمائنا «المفقودون»؟
لِم حُرق الطيار الأردني «معاذ
الكساسبة» حياً وأمام ناظري؟
ألسنا بشر؟
ألا يحقّ لنا الحياة الكريمة؟
أيستصغرنا الله إلى هذه الدرجة؟
في هذه السنوات الأربع فقدت شعور الانتماء للبشرية، فقدت
الإحساس بالحرّية! نسيت أني كنت إنساناً طبيعياً، أملك حياة جميلة مع زوجتي
وأطفالي، في حضن تلك الأمّ العجوز. أصبحت روحي رماداً متطايراً يحمل بأشواق أعلم
أنها لن تصل، وهذه الذاكرة، آهٍ لو أستطيع استئصالها من أفكاري ومخيلتي، لو أستطيع
التغلّب عليها في يوم ما. أيُّ حال أعيشه اليوم؟ يا الله ألجئ إليك بدعاء فلا تردني
خائباً.
رفعت يدي عالياً، وبسطهما كلّ البسط، يا الله أيٌّ منّا على
حقّ؟ هم يقاتلون باسمك، وينحرون باسمك، ويرتكبون الفواحش باسمك، وأنا إن ضعفت أردّد
اسمك...، فأيٌّ منّا على حقّ يا الله؟
أنزلت يدي، ووضعتها على صدري الدافئ، ها أنا ذا هيكل عظم
غابر أنتظر مصيري، إما بالسيف على رقبتي، أو برؤية الرفاق بزيهم العسكري ورايتهم الملوّنة،
وهم يشيرون لنا بإشارة النصر.
أسمعُ صوت وقع أقدام تتجه إلينا، وصوت سلاسل تُجرّ على
الأرض، فتصدر طنيناً يملئ فراغات الذات بالضجيج، ها قد اندسّ المفتاح في الباب
الموصد، أربعة أقفال وكأنها أربعة أيام، أربع أشهر...، أو وكأنها أربع سنوات، باب
الزنزانة يُفتح من جديد، ونور قويّ يتسلّل إلى عينيّ، لكني لا أقوى على الرؤية سوى
من بين أهدابي الملتصقة ببعضها البعض.
وقعت أنظارنا جميعاً بشكل لا إرادي على قدميّ داعشي مقّطرة
بالدم، كان يحمل بندقية ثقيلة، ووجّه فوهتها فوراً نحو صديقي پيران، ثم أطلق
رصاصةً خرقت منتصف جبينه، بدأت الصرخات تعلو من غرفتنا، ومن بينهنّ صرختي التي
زلزلت السجن بأكمله، (لاااااا، لقد قتلوا صديقي). لم يكن هناك وقت للحزن أبداً،
بدأ بصديقي، وأكمل علينا جميعاً بطلقات متتالية، أدركت حينها أن البنطال البرتقالي
هو علامة للموت، أمسكت بالسلسلة واللوح في عنقي، ونظرت إلى الرقم المكتوب على
اللوح ( 435)، واستنتجت أن الموت لا يعرف الأرقام.
أتى دوري، وتلقّيت نصيبي من الرصاص، أشعر بها وهي تخترق
عظامي وأحشائي، لكني ما أزال على قيد الحياة، لم تحالف حظّي رصاصة في الجبين كپيران،
رصاصة الراحة الأبدية! تحوّلنا جميعاً إلى ينابيع متدفّقة بالدم، ينابيع تسيل وتصبّ
في الغرفة التي تحوّلت إلى بركة من الدماء.
بدأ شريط ذاكرتي يعيد نفسه للمرة الأخيرة، لكن في هذه المرة
بالذكريات التي كانت تجمعني بصديقي پيران، منذ لقائنا، وإلى الآن. أغمضت عيني، وهيّئتُ
نفسي؛ لتقديم طلب اللجوء إلى الله.