-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

اقتباسات من رواية «الخيمة 320» للكاتب محمد رمو

 

سارت القافلة نحو احتضارها، وتغلغلت في شوارع المدينة الخاوية، ثمّ تحسّست ذكريات أيامها الأخيرة، لا بيادر تتّجه صوب الأراضي الزراعيّة في موسمها ولا أغنام تسير إلى المسالخ قُبيل العيد الذي كان على الأبواب، ولا وجود لـ: "بركلي بلّو" بسرواله الفضفاض يجوب شوارع المدينة حيّاً حيّاً، ولا ترانيم "باقي خدو" لتصدح في دكاكين التتن، لا شيء.. لا شيء من ذلك.

لقد اندثر ذاك الصخب الذي كان يضاجع المكان قبل ساعة ويوم، ولم يعد له أثر، فتحوّلت المدينة فجأة إلى مدينة أشباح لا إنس فيها ولا جنّ، استوطن فيها صمتٌ رهيب جعل من المدينة بقعة صامتة في فضاء عملاق.

في الجهة الأخرى من القافلة كانت بيمان تشير بأصبُعِها لمتجرٍ كان يبيع ثيابٍاً مزركشة وربطّات شعر، كان باستطاعته سماع همساتها تقول لأخيها شفان:
-         إنّ أخي وليد وعدني أن يشتري لي تنّورة برتقالية من هذا المتجر، لكن يبدو عليه أنّه مغلق، سنمرّ عليه حين نعود من رحلتنا.

لم تكن بيمان تريد أن تعرف أنّ رحلتنا طويلة ولن يكون لنا عودة، وإنّ هذا الخيط الذي نتدلى به في البئر، خيط رفيع جدّاً، والمتجر الذي تتحدّث عنه سيتحوّل إلى ركام، وتلك التنّورة ستصير سجادة صلاة لركوع حجارة الوطن.

اجتازت القافلة غابة "حج رشاد"، فبرزت جموع الناس الغفيرة على السلك الفاصل بين سوريا وتركيا، ينتظرون أوامر العسكر التركي ليفتح الحدود لهم وينهون مسلسل الخوف من الموت، بعد أن تقلّصت المساحة الآمنة، فجلّهم كان يخشى التحرّك خوفاً من القنابل الأرضية المزروعة منذ الحرب العالمية الثانية بين الدولتين، ومَن وصل للتو كان يسير إلى مكان التجمّع دون المخاطرة في اختيار مكان آخر على الحدود.

سارت قافلة وليد وأصدقائه بين الجموع بحثاً عن مكان لوقوف العربة، فلفت انتباهه امرأة جالسة في قعر الحافلة، في الزاوية الضيّقة قد أخرجت من حقيبتها حبلاً ووضعته أمامها، فأثارت فضوله، ماذا تريد أن تفعل بهذا الحبل في مكان كهذا؟هل تريد أن تربط أمتعتها ليسهل عليها حملها؟ لكن ما فعلته كان مختلفاً عن ظنّه، لقد قامت بربط أيدي ولديها ببعضهما ثمّ قامت بربط رأس الحبل بخاصرتها، ونزلت من القافلة.

لقد ربطت طفليها بنفسها لأنّها تخشى الفقدان في هذه الغوغاء المكتظّة، ففوق ألمٍ، ألمٌ آخر! قد يكون له تفاصيل معقّدة، وهي لا تمتلك وقتاً لتفكّ تلك العقدة.

بعد نزولها سارت إلى ذلك السياج المخيف وهي تجرّ زهرتين قطفتهما الأيام ورمتهما على الطريق لتلقيا مصيرهما، حينها كان وليد يتتبّع خطواتها خطوة، خطوة، ويمعن النظر إلى أقدام الطفلة التي كانت تشبه بيمان إلى حدٍّ كبير، كانت تُجرّ غصباً عنها إلى المجهول ورغماً عنها إلى الظلام الذي كان يبحث عن شمعة يفتّتها، كحبّة رملٍ تأبى الخروج من ثغرة صخرٍ من صخور جبل "مشته النور"، كانت تسير، تختلس النظرات إلى مدينتها المنكوبة، رفعت يديها ولوّحت مودّعة وليد، ذاك المشهد ثمّة تفاصيل فيه تجعل من وليد غارقاً في الحنين، تلك الابتسامة السحرية لا يستطيع أيّ رسام أن يرسمها، وتعجز أنامله عن وضع لونٍ يليق بالشرارة المنبثقة من عينيها.

كانت بيمان تراقب المشهد بحذر وهي تزيل عن ثيابها غبار السنين المتراكم، تنظر إلى وليد لتُعيد النظر إلى شبيهها، وفي لحظةٍ رفعت يديها ولوّحت لأخيها، فأرادت أن تحذو حذوه، أن تُعيد رسم الابتسامة الموجعة على ملامح أخيها العابسة، إنّها الطفولة التي تلطّخت بالموت على طاولة المفاوضات واجتماعات الأحزاب والهيئات، إنّها ضحية جنيف والفيتو.

تعديل المشاركة Reactions:
اقتباسات من رواية «الخيمة 320» للكاتب محمد رمو

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة