د. رسول محمد رسول
فيما سبق، كان فلهلم ديلتاي أشار في كتابه (إقامة العالم التاريخي في علوم الروح) الذي هو محاضراته ورسائله التي تعود إلى سنتي 1904 – 1910، إلى ما أسماه "المجموع التفاعلي بما هو مفهوم أساسي لعلوم الروح"، وتحدّث في الموضع نفسه عن "مجامع تفاعلية مثلما تتكوّن في مجرى الزمان؛ فالفعل والطاقة وجريان الزمان والحدوث، كلها لحظات من شأنها أن تميز البناء المفهومي لعلوم الروح" (ص 144).
وكل ذلك يصب في التفاعل الذي يريده ديلتاي بين المعرفة والواقع التاريخي والإنسان أو تحقيق تاريخانية المعنى الذي يبنيه الإنسان.
وقدر تعلق الأمر بنشأة التأويل والفن التأويل والعِلم التأويلي، احتاج ديلتاي إلى وعي معارفي أو "إبستمولوجي" كان حتمياً خوضه في تلك المرحلة ربما لم يجتهد سلفه شلايرماخر تكليف نفسه به إلا اللهم بما لم نطلع عليه بعد أو ما زال مدوّناً في لغة شلايرماخر الألمانية ولم ينقل بعدُ إلى لغة الضاد.
أنطولوجيا النشأة
وفي ضوء هذه الرؤية، يأتي تناول ديلتاي "نشأة الهرمينوطيقا"، الذي تأخر ترجمته إلى لغة الضاد طويلاً حتى سنة 2018 عندما أقبل فتحي إنقزو على ذلك، ونشرها في مجلة تأويليات (العدد 2 خريف 2018. ص 150 – 164). وفيها يتحدّث ديلتاي عن "بسط المعرفة العلمية بالأفراد"، ويتساءل: هل مثل هذه المعرفة أمر ممكن؟ وما هي الوسائل الكفيلة ببلوغها؟ ولغرض الإجابة ينصرف ديلتاي إلى بيان ثلاثة أمور هي:
الأول: أن "العِلمين، الفيلولوجي والتاريخي، يقومان على الافتراض الذي مفاده: أن استدراك المفرد بالفهم بإمكانه أن يكتسب الموضوعية التي ينبغي له". الثاني: "إن الوعي التاريخي يمكّن الإنسان الحديث من أن يستحضر في نفسه ماضي الإنسانية بكليته؛ إذ يجعله يجتاز حدود زمانه الخاص وينفذ ببصره إلى الثقافات السالفة". الثالث: "إذا كانت علوم الروح النسْقية تستمد العلاقات القانونية العامة والمجامع الشمولية من هذا التصوّر الموضوعي للمفرد؛ فإنها أحرى أن تجد لها قاعدة في سيرورات الفهم والتأويل" (ص 151).
ها هنا يعمل ديلتاي على جعل "المفرد" مكتسبا للموضوعي؛ بل هو يستحضر ماضي الإنسانية بكلية ذلك الماضي ضمن الزمان، وإذا ما اجتمع هذان العنصران يقترح ديلتاي إيجاد قاعدة في سيرورات الفهم والتأويل، وهنا يتم الربط بين التجربة الفردية والفهم الإنساني، فكلاهما يحتفي بالتأويل ضمن تجربة "معيش باطني" غير بعيدة عن الواقع التاريخي ولا الذات في فرديتها منه.
التجربة وفن التأويل
ينبهنا ديلتاي بأن "التجربة الباطنية التي أُدرك بها أحوالي الذاتية ليس في مقدورها وحدها أن تجعل لي وعياً بفرديتي الخاصّة؛ فإنه، ولدى مقارنة إنيتي Selbst بالآخرين، تحصل لي تجربة بما هو فردي في نفسي وحينها فقط أعي ما هو في كياني الأخص مباينٌ للغير" (ص 151). وهنا يحضر العالم الموضوعي كشكل من إقامة الواقع التاريخي في المعرفة، وهو ما يريد تأكيده ديلتاي. ولكن ماذا عن دلالة السيرورة؟
يعتقد ديلتاي أن الفهم هو "السيرورة التي نُدرك من خلالها باطناً انطلاقاً من علامات مُعطاة من الخارج بطريق الحس" (ص 151 – 152). وتبدو علائقية الفهم مع الواقع الحسي جلية، وكم يذكّرنا هذا التخريج بفلسفة إيمانويل كانط، فلا يبالغ ديلتاي عندما يعتبر الفهم هو "تصوّر حالاتنا الخاصّة"، ويستخدم مقابله الألماني "Ausffassen"، علماً أن "التحليل الكانطي كان وجدَ في أعماق الوعي أشكال التعقّل" بحسب ديلتاي نفسه في محاضراته خلال العشرية الأول من القرن العشرين. (انظر: إقامة العالم التاريخي في علوم الروح، ص 74).
وهنا تأتي إشكالية الغموض، فالمرء يجد في أحيانٍ ما أنه لا يفهم ما يعتمل في داخله، ولذلك نرى الروح البشري "ينطق بعينه مخاطباً إيانا، طالباً التأويل" (ص 152)، وبذلك تنبثق الحاجة إلى التأويل، ويضرب ديلتاي مثالاً على ذلك فيقول: "إنني، ولكي أفهم ليوناردو دافنشي، على سبيل المثال، يتعيّن عليّ أن أنكبّ على تأويل أفعال ولوحات وصور وآثار مكتوبة في سيرورة متجانسة وموحّدة" (ص 152)، وهذا يؤكّد أن ديلتاي يسعى إلى خلق مصطلح "الفهم الصناعي" ليس مُجرد الفهم العفوي العابر والمار سريعاً من دون إدراك حقيقي لمعطياته غير بعيد عن باطننا الداخلي، ولا حتى ببعيد عن مُجمل العلامات المُدركة في العالم الموضوعي.
وبذلك يعتقد ديلتاي أن الشرح أو التأويل هو "الفهم الصناعي لتعبيرات الحياة المثبتة بنحوٍ دائم" (ص 152) التعبيرات الناتجة عن فعل سيرورة متواصلة، وهو موئل ظهور "فن للتأويل Auslegung oder Interpretation موضوعاته التماثيل المنحوتة واللوحات المرسومة" (ص 152)، ولكن ماذا عن الأدب؟
العلم التأويلي
يعود ديلتاي إلى رفاق ألمان له، ومنهم اللغوي فريدريش أوغست فولف (1729 – 1824) ورفاقه الذين اقترحوا أن "تأويل الآثار الصامتة" لا بد له أن "يستعين بتفسير مُستمدٍّ من الأدب" (ص 153)، وهنا يتوافر ديلتاي على تخريج غاية في الأهمية بحيث يقول: "إن الدلالة البالغة للأدب من أجل فهم الحياة الروحية والتاريخ إنما تكمن حقاً في كون باطن الإنسان لا يجد تعبيره التام، الوافي والمعقول، موضوعياً إلا في اللغة. بهذه الصورة يدور فن الفهم على شرح أو تأويل" (ص 153).
وهنا تحضر الآخرية؛ فالفهم يروم غيره ويشتغل فيه وعليه، وإذا كان ثمَّ إنسان ينتج خطاباً وهو يتوسَّل، في التعبير عنه، وسيطاً هو اللغة يصبح الفهم بإزاء موضوع ما آخر قبالة غيره أو "ما حفظته الكتابة من معالم الوجود البشري" (ص 153)، وهذه "المعالم والعمل النقدي الذي لا ينفصل عنها قد كانا، من بعد ذلك، منطلق الفيلولوجيا، والفيلولوجيا في جوهرها هي الفن الشخصي والمهارة المطلوبان في مثل هذا العمل على المعالم المكتوبة" (ص 153).
وفي هذا يعتقد ديلتاي أن "فن التأويل هذا قد تطوّر شيئاَ فشيئاً بتواتر وبطء شأن نظيره الذي يعتني بمساءلة الطبيعة مثلاً عن طريق التجربة، وقد نشأ واستمر من الموهبة الشخصية العبقرية للفيلولوجي" (ص 153). كما أن فن التأويل هذا "انتقل بحسب طبيعته بواسطة الاتصال الشخصي بكبار الموهوبين في مجال الشرح أو بآثارهم، على أن كل صناعة إنما تستهدي بقواعد" (ص 153)؛ بل إن "فن الشرح قد أمكن له أن يصوغ بسطاً لقواعده" (ص 153).
ولا يفوت ديلتاي القول "إن نزاع هذه القواعد، والصراع بين مختلف الاتجاهات بخصوص شرح الأعمال الحيوية المُهمة، وما لزم عن ذلك من حاجة إلى تأسيس هذه القواعد، كل ذلك نشأ منه العلم التأويلي"؛ وهذا العلم هو "شرح المعالم المكتوبة" (ص 153) مثل الآداب والنصوص المدوّنة ليس بعيداً عن بقية الآثار واللقى، وكلها تمثل آخرية تحتاج إلى انهمام وعينا بها.
ما سعى إليه فلهلم ديلتاي هنا هو بيان انبثاق التأويل عبر ظهور الاهتمام الفيلولوجي أو "الموهبة الفيلولوجية" وفي التأويل لينتهي إلى صياغة مصطلح "العلم التأويلي" أو شرح المعالم المكتوبة. إنه اجتهاد باكر يعترف أن شلايرماخر اصطنع "قواعد فن التأويل بكفاءة
عالية" (ص 163). عن جريدة الصباح