-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

الهارب من أوروبا



محمد رمّو / خاص سبا


بينما كان يقرقع كأس «المتّة» كان يتحدّث لي موسى على خطّته المستقبلية، بعيون مبتسمة، وفاهٍ ضحوك، بارجة أمل أقلّته من بؤسه وتعاسته إلى ميناء تيمّنٍ وسعادة، على ما يبدو ثمّة هناك شيء ما جعل من هذا الكائن المحقون المغيّظ من كلّ شيء من حوله، المتذمّر من ثيابه يتحوّل فجأة إلى منبع تفاؤل.

«سأسافر إلى أوروبا». يقول جملته كلّما تأمّل بعمل صعب المنال أن يتحقّق هُنا، وحلم ضاق به وقيّد معصميه، وخاصة بعد أن صارت المدينة موطن أشباح، لا كهرباء ولا ماء. طيران يحلّق على مسافة قريبة من الأرض، زوجة تنقّ عليه من الصباح إلى المساء؛ لتدفعه أن يصطحبها معه إلى حديقة أو منتزه.

سأسافر إلى أوروبا، يُقال أنّ هناك المال بالـ «يورو»، أعمل فقط خمس ساعات ستتقاضى في اليوم الواحد ما يعادل أعلى معاش لموظّف في الدولة.

سأسافر إلى أوروبا، هناك، حيث الأمان والسلام، لا طيران يحلّق فوق رأسك، ولا عسكريّ أحمق يجادلك باشمئزاز على الحاجز.
سأسافر إلى أوروبا، يكفي أن تتكلّم جملتين بالإنكليزيّة ليرشّحوك نائباً بالبرلمان.
من المؤكّد سنستلم هناك بدلاً من بيت صغير قصراً.

وبغمزة خبيثة:
-        أوروبا تمتلك نساء حسناوات يعشقن وسامة الرجل الشرقيّ، مثلي ومثلك.
ثمّ قال بتقزّز شديد:
-        ألا يكفينا غبارُ هذه المدينةن طعامنا محشوّ بالغبار، أنفاسنا ممزوجة مع الغبار، حتّى أفئدتنا صارت تشهق غباراً.

بصراحة كلامه غيّر بعضاً من معتقداتي الساذجة التي كنت أمتلكها بخصوص حبّ الوطن، والتعلّق بترابه. شيطان أوروبا بدأ يلوّح بعصاه السحريّ أمامي، كان يقفز كما القِردة كلّما حاولت أن أنسى ما جال بخاطري حينها، كثيرة هي العروض التي تُقدّم وأنا أرفض بامتعاض، حتّى غلبني في لحظة ضعف، اقتنعت بفكرة الهروب إلى أوروبا بحثاً عن حياة أفضل لي ولزوجتي الشابة وابنتي الوحيدة.

ركبت درّاجتي الناريّة، واتّجهت صوب القرية، كانت الغاية منها أن آخذ مشورة أبي الكبير، وأمي التي ضناها السنين، وأيضاً لا أخفيكم، كانت الغاية الأساسية منها أن أستطيع إقناع أبي، ليس رضاً، إنّما رغبة منّي في اقتناء حفنة من الدولارات قوت المهرّبين والسماسرة.

حينما وصلت، كان أبي جالساً في مضافته يتحدّث لختايرة من أمثاله عن بطولاته السابقة، وعن حكايات لأمثال شعبية تُستخدم اليوم، قال:
-        هل سمعتم عن قصة السارق الذي سطا على بيت أحد رجال القرية؟
ابتسم بعض الرجال؛ لأنّهم كانوا قد سمِعوا هذه القصّة من قبل، بينما الآخرين رسموا على ملامح وجوههم تساؤل واستغراب عن مضمون القصّة.

استهلّ أبي قصّته مانحاً السارق ملامح غريبة ومجنونة، والمسطوّ عليه ملامح براءة وإيمان، حينما دخل السارق إلى بيته، سرق بعض المقتنيات الثمينة، لكن صاحب البيت كان له بالمرصاد، حينما ألقى القبض عليه، اتّصل مباشرة بالشرطة فرع العاصمة، فتأخّرت الشرطة بالقدوم، وبما أن السرقة تمّت بعد منتصف الليل، فقد داهم صاحب البيت النعاس، فاتّخذ بنصيحة زوجته بأن يخلي سبيله، لكن المشكلة هذه المرّة أنّ السارق رفض أن يُخلى سبيله إلّا أن يأخذ معه كلّ ما أراد سرقته.

كان يضحك أبي ويقول:
-        صاحب البيت تركه، لكنّ السارق لم يتركه.
تأمّلت قصّة أبي ورحت في حلم عميق...

بعد رحلة مريرة من الشقاء والعذاب وصلنا أخيراً إلى السويد في نيسان، بلد الأمان والاطمئنان، بلد تحقيق الأماني والأحلام، كانت الأرض مكتسحة بالبياض، كلّ شيء من حولنا كان ذو بياضٍ ناصع، قلتُ لنفسي:
-        أوروبا موطن المفاجئات، الأمر لم يقتصر على ذلك، إنّما لجنون السويديين أن تحتفل بعيد الربيع بينما درجة الحرارة أقل من خمس درجات تحت الصفر.

في الفترة الأولى حاولت التأقلم، كلّ شيء كان غريباً، لا الليل يشبه ليلنا، ولا شوارعها الفضفاضة النظيفة تمتّ إلى تقاليدنا، إن لم تُمرغ بالوحل وأن تذهب لشراء حاجيات غذائية فهذا عار، وإن لم تجادل البائع لساعات قبل شراء كيلو من الطماطم، فتبدو وأنّك قد انسلخت من ذاتك.

كلّ ليلة كنت أقعد أمام النافذة أتأمل الصمت والسكون. هدوء تامّ في أركان المدينة، كأنّها خالية تماماً من سكّانها، أتصدّق أنه حتّى الأشجار هناك صامتة بالكاد تسمع حفيفها، المطر صامت، والربيع صامت، والأيام صامتة، لا صدى سوى لدقّات قلوبنا الصاخبة.

في كلّ صباح، قبل الغوص في روتين الحياة والذهاب إلى المدرسة القريبة من بيتنا، كنت أقعد في تلك الحديقة الجميلة التي تقع بجوار المدرسة لساعات, أراقب المارّين, الكلُّ هُنا منهمك بحاله, شيباً وشباباً, لا عشّاق يتبادلان القُبل بجواري, ولا عجائز ملّوا من الحياة وجلسوا بالقرب منّي متبادلين الذكريات وأيام الخوالي, لم يكن لأحد أن يسأل عنّي ويستفسر عن الحريق الذي ينشب بين أضلعي.

تعلّمت هناك أنّ برّ الوالدين ليس مقدّساً, وصلة الرحم شيء عابر, الحبّ هو أن ألّا تُزعج جارك النائم, تلك الفتيات التي حدّثني عنها موسى تستفرغ كلّما لمحت لاجئاً شرقيّاً, الأعياد مجرّد أيام عابرة تقدّس بها وحدتك وأنت تتذكّر من على كرسيّ خشبي في حديقة جميلة ذكرى مشاركتك مع أهلك في وليمة غداء فاخرة, لا سلطة لك إلّا على نفسك, تخرج زوجتي إلى أيّ مكان دون أن تُكلّف نفسها أن تخبرني حتّى.

تغيّرت كلّ المفاهيم لديّ, ليس الأطفال فقط مَن يتمّ ترويضهم في هذا البلد, إنّما الرجال أيضاً. أحسستُ أنّني الآن أتعلّم, الوحدة هنا تقتل أكثر من الرصاص, وغياب جهة البوح تشنق الروح وتجرّ الجسد وراء سراب الاكتئاب.

الأمر ليس مثيراً للسُخرية إن قلت أنّنا لا نُحب القوانين, فالقوانين التي تفتقر للرحمة هو جزاء وليس تطبيق للعدالة, تفاصيل صغيرة قد تدفعك في لحظة ما أن تحضّر حقائبك للعودة, وتفكّر بشكل جلّي أن تصلّح خطأ كارثيّاً اقترفته في حياتك.

في الليل بينما كنت نائماً, ثمّة روح تُشبهني اُستنسخت منّي ومشت بهدوء صوب الخزانة, وضعت كلّ شيء في حقائب, الثياب وبعثرات بلد اللجوء, أحلام سقطت إلى القاعة, خيبات مريرة بنت مملكتها في قلبي.

وما إن سارت صوب الباب, كان واقفاً في وجهه ثلاث أوجه اعتدت عليها في غربتي, زوجتي وابنتي وذاك الموظّف الذي كان يعمل في مقرّ تقديم أوراق اللجوء, كانت الزوجة جالسة على كرسيّ هزّاز تنفخ دخان النارجيلة في وجهي, وترفع سبّابتها محذّرة, عيونها كانت تغيظني بشدّة بينما ترفع في يدها الأُخرى شعار «لا لاضطهاد المرأة», وملامحها البريئة تحوّلت إلى ملامح غولٍ كاسر, بجوارها تماماً ابنتي التي كانت تحمل حقيبتها المدرسيّة لتمنعني من الخروج من الباب, كانت ترسم على محيّاها ملامح نوقٍ شديد كأنّها تترجّاني, هي أيضاً كانت تلوّح بيدها عبارة «مستقبلي», وآخر الأشخاص كان ذاك الموظّف, فقط كان يحمل في يديه رزمٌ ومن اليوروهات وهو يقهقه بصوت مرتفع...

بكيت كثيراً, صرخت حتّى بحَّ صوتي, صرت أقضم أصابعي تزامناً من قهقهات هؤلاء الثلاث, قضمتهم بشراهة حتّى قفزتْ منها الدمّ, صاح صوت بجواري أفاقني من غيبوبتي, هو صوت أبي، كان يودّ أن يستفسر عن غرض مجيئي, مَن كان حوله رحلوا, وزوجة أخي قد قدّمت لي تفاحة حمراء كنت أقضمها بدلاً من أصابعي بشراهة، وأنا كلّي في غيبوبتي.

قلت:
-        لا شيء أبي... فقد جئت لأستمتع بالربيع في القرية. الربيع هناك بارد جدّاً...

-        اترك ذاك الكابوس، وعشْ هُنا.

-        تركته يا أبي, ولكنّه يأبى أن يتركني كما السارق...

-        مَن السارق؟ وما المسروقات؟

-        أوروبا سارقة أحلام البسطاء, نقاوة أيامنا الخجولة.

تعديل المشاركة Reactions:
الهارب من أوروبا

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة