د. بوزيان موساوي – المغرب / خاص سبا
أراد
الطيب طهوري لنصوص هذا الكتاب أن تُصنّف ضمن جنس "القصة"، و كأنه بذلك
يعفينا من إعادة طرح إشكالية "تجنيس" بعض الأعمال الأدبية الحديثة التي
لم يستقر رأي النقاد بشأن تصنيفها.
تتكون
هذه المجموعة القصصية التي صدرت عن دار زينب للنشر و التوزيع نابل/ تونس (الطبعة
الأولى 2017، تصميم الغلاف والإخراج الفني: وديعة قليوز) من 26 قصة قصيرة، وعلى غير العادة (العُرْف)،
لا يتكرر عنوان الكتاب في الفهرس كعنوان لإحدى قصص المجموعة... عنوان مثير للفضول
(إن لم أقلْ: "مستفز") من حيث طوله وبنيته الشكلية التركيبية، وحمولته
المجازية... وكأن القاص الطيب طهوري يدعو قراءه إلى "حلبة" تحدّي
القراءة انطلاقا من مرجعيات السيميوطيقا التي تعتبر "عتبة النص" (ومنها
العنوان الرئيس فوق الغلاف) من المفاتيح الأساسية لمقاربة نقدية وظيفية للنصوص
الأدبية والفنية.
لذا
تفهّمنا انفعال وتفاعل الأديبة السورية فاديا عيسى قراجة، لمّا خصصت أهم ما جاء في
تقديمها للمجموعة القصصية لقراءة العنوان. من بين ما كتبتْ: "العنوان ينقسم
إلى شطرين... فمنذ البداية يأخذنا المبدع إلى التساؤل... كيف سيغني الرّمل وهو
يقبع تحت لظى الشمس، وبين جفون النار؟ كيف سيتأتى الغناء لمن يحترق؟... ربما هذا
يطابق مقولة: الديك يرقص مذبوحاً من الألم (...) لكنه يجيب في الشق الثاني للعنوان
بأن النار هي مَن سترقص على ألحان الرّمل... هذا يحيلنا إلى أن الطيب طهوري يعتمد
على الثنائيات المتنافرة (...) فالرمل يغني للنار كي تزداد لهيباً... والقيد يغني
للحرية حتى ينكسر. والقبح يُغنّي للجمال حتى يحضر... والحياة تستحضر الموت كي تبقى
متوهجة..." (فاديا عيسى قراجة).
هي
مقاربة ممكنة، ومحبّذة من طرف بعض روّاد النقد البنيوي... خصوصاً وأن المجموعة
القصصية (متن قراءتنا هنا) غنية بإيحاءات مجموعة من "العلامات" (Signes) لها ارتباط وثيق وعضوي بتمثُّلات (Représentations) الكاتب الطيب طهوري لعناصر الطبيعة ("الرّمل" / "النّار" / "الماء/
"الضوء" / "العتمة" / "الألوان"...)، ولبعض
القيّم ذات الأبعاد الفلسفية والإيديولوجية والأنتربولوجية ("الحرية" / "العبودية" / "الحق"
/ "الباطل" / "الأخلاق" / "الفساد" /
"الحياة" / "الموت" / "القبح" /
"الجمال"...)، ولبعض تجليّات الحياة الاجتماعية العامة المرتبطة
بالثقافة المحلية والظرفية الاقتصادية والسياسية ("الهجرة"
/ "الفقر" / "البطالة" / "الشغل" /
"الاستغلال" /
"الهشاشة" / "قساوة التضاريس والمناخ" /
"التّحكُّم" / "الاستبداد"...).
لكن
هذه المقاربة رغم ملاءمتها، لا يجب أن تنسينا الأهم: أنّ الكتاب الذي بين أيدينا
"واصل غناءك أيها الرمل... واصلي رقصك أيتها النار" مجموعة قصصية، أي
عمل أدبي / فني، وبالتالي فهو مقيّد إلى حدّ ما بمجموعة إكراهات (أو قواعد) مرتبطة
عضوياً بفنّ كتابة القصة القصيرة سواء من حيث "البناء المعماري للنصوص
القصصيية" ("الزمن" / "المكان" / "الشخصيات" /
"الحدث" / "آليات السرد والوصف و التعليق و الحوار... مع أساليب
الانزياح والتكثيف" / "الحبكة" / "القفلة"... أو كذلك من
حيث التوجه المُهيمِن ("واقعية" / "رومانسية" /
"سريالية" / "عبثية" / "غرائبية" /
"عجائبية"...).
مقاربة
نصوص هذه المجموعة القصصية من هذا المنطلق بحثاً عن مواطن الجمالية والمتعة فيها
استدعت بادئ ذي بدء بعض آليات "نحو النص" (La
grammaire de texte)، نختار من بينها لأهميتها القصوى: "عناصر التلفظ" الأساسية
(Instances d’énonciation) (مَنْ يتكلّم؟ مع مَنْ؟). في هذا السياق،
فاجأنا الطيب طهوري إلى حدّ الدهشة بتوظيف ّالذات السّاردة "بتقنيات مختلفة و
خارجة عن المألوف:
– هي ذات ساردة بضمير المتكلِّم "الأنا" تسرد
الحدث (الأحداث) من زاوية "الدرجة صفر من التبئير" (Focalisation degré zéro)، أي
كذات ساردة عالمة تنقل الوقائع بشكل موضوعي دون المشاركة في صناعة الحدث أو
التأثير على مجرياته، تماما كما الذات الساردة بضمير المتكلم "هو"...
لكن لغة الانزياح الأسلوبي تخون الموضوعية: القاص يقحم ذاته من وراء السارد
باللجوء إلى أساليب السخرية والكناية والتورية والمبالغة (قصة "أحلام لزقزقة
العصفور السحري" ص 55 نموذجاً).
– هي ذات ساردة بضمير المتكلّم "الأنا" تسرد
الحدث (الأحداث) من زاوية "التبئير الخارجي" (Focalisation externe)، أي أنّ السارد
يتموقع في القصة إمّا كـ "شاهد" على الأحداث التي يسردها، أو كـ
"محاور" لشخصيات أخرى عاشت أو عايشت الأحداث، أو لمّا تذوب
"الأنا" المفرد في "الأنا" الجماعية (قصة "أشجار تتقدم
من بعيد" ص 62 نموذجاً).
– هي ذات ساردة بضمير المتكلم "الأنا" تسرد
الأحداث من زاوية "التبئير الداخلي" (Focalisation interne)، أي أن
"الأنا" تقحم نفسها كلّية في مجريات الأحداث من مواقع متعددة: تسرد
الأحداث، تصف، تقدّم للحوارات، تعلِّق، تشارك في صناعة الحدث، أو تكون عرضة له...
مع إبداء الرأي الشخصي الذاتي في كلّ العناصر المُكوِّنة للقصة (في الزمن، والمكان،
والشخصيات، والحدث، والموضوع / الأطروحة في القصة، والقفلة...) إمّا بشكل مباشر،
أو بتوظيف إنزياحات لغوية وبلاغية توحي بالمسكوت عنه... وفي سياق هذا "التبئير الداخلي"، لجأ
الطيب طهوري في عدة قصص من هذه المجموعة إلى أسلوب "المراوغة الفنية"
لخلق عنصري المفارقة والغرابة: ففي عدّة قصص يوهم القارئ بأن "الأنا"
(الذات الساردة والشخصية) هي نفسها الكاتب، وتظهر فعلاً باسم "الطيب" كما
القاص "الطيب طهوري" (على سبيل المثال لا الحصر في قصة "إنهم
يذبحون البشر" ص 39، وقصة "ركبتي و قطار المستشفى" ص 48)؛ وكأننا
مع فصول من "سيرة ذاتية" للقاص الطيب طهوري الإنسان... لكن النقد الحديث
انتبه لهذه المغالطة لمّا أكّد على أن "السيرة الذاتية" كمنتوج أدبي،
ليست بالضرورة ترجمة موثوق بها للحياة الحقيقية للمبدع لاعتبارات كثيرة أهمها كون
الذاكرة "تخون"، واللغة بانزياحاتها "تخون" كذلك...
وأكيد
أن القاص الطيب طهوري انتبه لذلك عن وعي، فخلق عنصري المفارقة والغرابة بشكل جليّ
في قصته "تلك الرسائل ما أروعها" (ص 17)، نقرأ:
"رسائل كثيرة تصلني هذه الأيام من أماكن ودول مختلفة، تتربّع
على مكتبي ومائدة طعامي، وعلى السرير حيث أنام أيضاً، وفي كل زوايا البيت... على
الأغلفة اسمي وعنواني... لكن ما أن أفتحها حتى أفاجأ بحروف اسم شخص آخر يمعن النظر
في ملامحي، ويقول بعد أن تشتدّ حيرتي: أنا أحمد محمد عز التاج..." (...)
" أقول مستغرباً: لستُ أنا... بالتأكيد هو شخص آخر يشبهني...".
تكمن
جمالية هذه المفارقة (التي وظفها الطيب طهوري للتشكيك في هوية "أنا"
(الطيب)، و "أنا" (أحمد محمد عز التاج)، وكأننا مع حالة مرضية نفسية
تعاني من انفصام في الشخصية) في مهارة القاص المحنك على خلق مسافة بين
"الأنا" (الإنسان)، و "الأنا" (الكاتب)، و "الأنا"
القارئ المستمتع الأول بما تخطه يمناه؛ نقرأ في نفس القصة:
"صارت الرسائل تلك لذتي ومتاعي... أحمل الكثير منها في جيوبي
حيث اتوحه... أقرأ بعضها في الحدائق العمومية، و بعضها الآخر في الحافلات...".
لـ
"الأنا" عالم يشبه "الحلم" (الكابوس)، فلا الضمير المتكلم
(الذات الساردة والشخصية الكارتونية) يدل على نفسه، ولا شخصيات مختلف القصص تشبه
الشخصيات الواقعية، ولا الأمكنة ولا الأزمنة ولا الأحداث لها انعكاس في مرآة
الواقع... وكأننا نقرأ مزيجاً من قصص أفلام الرعب كما كتبها "إدغار بو"،
أو قصص الأدب الغرائبي العبثي الذي يُميز كتابات "كافكا"، أو إحدى
روايات الوجودية العبثية كما كتبها "ألبير كامي"...
وعن
هذا البعد الغرائبي / العجائبي/ العبثي ستتمحور مادة الجزء الثاني من هذه القراءة
النقدية.
الكاتب والناقد: د. بوزيان موساوي |