-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

وصايا الغبار: هذي هي الأغلال



فاضل متين / خاص سبا





قيل، إنّ أنبل الإبداعات الأدبيّة وأصدقها هي التي تنهض في خضم المُعاناة، أيّ التي تُعايش المرارة، أما أذكاها وأدقّها عمقاً، هي التي تترصّد الحدث قبل وقوعه، أيّ التي تنقبُ وتعالج بذور المعاناة، وهي في منبتها قبل نموها وظهورها على السطح.



في القرون الثلاثة الأخيرة تكفّلت الرواية لنقل وتصوير وترجمة الواقع كجنس أدبيّ ذو صدر رحب؛ لاحتضان أحداث الحياة بقصصها وحكاياتها أكثر من أيّ جنس أدبيّ آخر، وبانَ دورها أكثر أثناء وقبل وبعد وقوع الحروب والأزمات ونهوض الثورات، وقد شهدت ثورات الربيع العربي بروز الكثير من الروايات التي عاينت الأحداث والوقائع قبل وأثناء الاضطرابات في هذه البلدان، ومن بين هذه الروايات، رواية «وصايا الغبار»، للروائي السوري «مازن عرفة»، الصادرة عن دار «التكوين» عام 2011م، والتي لو قرأها أحدنا قبل وقوع الثورة السورية، لقال عنها أنها ضرب من المبالغة والتجنّي على الواقع والحياة التي عشناها، لما تشتمل على حكايات وقصص تكاد تكون ساخرةً وفكاهيةً أكثر مما هي واقعية.

لكن للحياة انقلاباتها وتبدّلاتها، فالكثير من الأمور لفرط ما تداولناها وتعوّدناها ظننا أنها اليقين والصواب.



فإلينا إذاً إلى ما تبوح به هذه الرواية التي ستعتبر فيما بعد رواية تنبّؤية، كُتبت قبل الثورة السورية بشهور قليلة، صوّرت الواقع السوري بكل تجلياته وخباياه في آخر خمس عقود إلى يومنا هذا.



شاب مهووس بالعيون العسلية والحكايات الجميلة، ابن بلدة مُفعمة بالقصص الرومانسية والحكايا الخرافية التليدة، يهاجر إلى «سلومانيا»؛ قاصداً الدراسة، ويترك خلفه بلدته الفقيرة وصديقاته الجميلات ووالده القاسي الحنون، ثم بعد عدة سنوات يعود مُدجّجاً بشهادة علمية مرموقة، وبحنين إلى بلده وإلى العيون العسلية التي لطالما راودته في مهجره، بعد أن ضاق ذرعاً بالعيون الرمادية في الغربة، لكن هذا الشاب الذي يتوظف في مكتب محترم تعنى بشؤون الثقافة والأدب يصطدم بواقع مليء برائحة الغباء والخبث المخابراتي وعفونة عقلية قادمة من بلاد الصحراء، وغير ذلك من تغيرات في عقلية البلد وأناسها، فالصبايا الجميلات اللواتي كنّ يحلمنَ بحياة ناضحة بالحياة ويطرنَ كالفراشات في أزقة البلدة وحقولها، غدونَ أسيرات الواقع المتخلف الذي ترسّخ بفعل قدوم غبار الصحراء (عقلية الصحراويين الرجعيين الراديكاليين)، فاللواتي كنّ يحلمنَ بالدكتوراة والمحاماة والإعلام أصبحن الآن إما يرعين دواب وأغنام زوجهن المتزمت، أو آلات للتوليد.



تشهد الرواية اختلاجات ومونولوجات كثيفة تعتري مُخيّلة بطل الرواية، الذي يسبح في عوالمه الداخلية، يستحضر ذكرياته ويبدأ بروي حكايات بلدته والقصص التي تحدث معه بعد عودته.



نلاحظ في الرواية كثيراً سقوط المطر كلما اختلى البطل أو الراوي بنفسه، فيرافق المطر الصبية الخيالية «ورد» القادمة من أعماق حنينه، بما تشمل من ذكريات وحكايا وصبايا تركهنّ خلفه.



يسرد «مازن عرفة» بلغة رشيقة سلسة حكايات وأحداث يشرح من خلالها الأسباب التي أسّست العقلية الجمعية لدى شعوبنا، العقلية التي كلّما تتخلّص من قيد تُغلّل بقيد آخر، بداية بقصص الخرافة وقصص الدين والأساطير التي استحوذت على الوعي، وغدت قدسيات يتقيّد بها، واستغلال فقهاء الظلام والخبثاء جهل الناس لتسيرهم وفق مآربهم.



ومن الحكايات التي تستحوذ على متن الرواية، قصة المذرة التي خلبت قلوب الناس هلعاً إلى أن يقضى عليها، و«خدوج البكر» التي ينسبون صراعها النفسي إلى تلبس الجني لجسدها، وكذبات «أبي حسين» و «أبي خالد»، التي وإن كانت معروفة بعدم مصداقيتها، إلا أنّ لفراغ الناس وعطلهم أصبحت حكايات الناس وأمثلتها.



في فصلَي «الشيخ حسني» و «الشيخة حسنية» و «رجل الصحراء» يسهب عرفة في تبيين المفارقة التي ستلقي بظلالها على حياة البلدة، إذ أن هؤلاء الخبثاء بما يحملون من فكر عفن يتاجرون به في بلد تعوّد على حياة بسيطة بفكر ورديّ بسيط، استطاعوا بسلطة المال بجذب الشباب إلى الصحراء، ومن ثم إعادتهم بعقول عمياء لا تعرف من الفضيلة غير المال والدين، تحت أنظار سلطة جبروتية لا يتوانى عملائها برفع التقارير إليها عن كل مَن يتنفّس بشكل خاطئ، وهذه السلطة يترأّسها شخص طائش غبي يدعى «بهلول» وضع في منصبه المرموق ليكون تابعاً للسلطة السابقة ومغطّياً لاختلاساتها، فيقوم باستغلال سلطته لإشباع رغباته المكبوتة، ولكي يغطّي على تخبّصاته وطيشه، يتفق مع رجل الصحراء الغني؛ ليضعا يديهما على حرية الناس وتسيريهم وفق عقليتهما، فيبتدأن بحرق الكتب التي لا تداعب الدين «فالكتب عماد التطور، وبالتالي ولادة فكر جديد، سيهدّد حتماً الفكر السائد».



في فصل «المعلم الذكي» و «فصل العميل إكس – السكرتيرة سكس»، يبيّن فيهما عرفة أن السلطة غيّرت من سياستها وبدأت تستغني عن المسؤولين القدامى الأغبياء أمثال بهلول لتدخل في عالم حضاري، تعتمد على العلم والمثقفين لتسيير خططها على اُسس تيكنوقراطية، لإدارة مكاتبها الوزارية والإدارية، لكن شرط أن يكون المثقف نموذجياً طابقاَ لفكر السلطة أولاً، وثانياً لإظهار الوجه الثقافي أمام المدّ الحضاري ألقاً.



دم من أمريكا، التي تحاول بأموالها وإغراءاتها الكثيرة لجعل البلد سوقاً لمواردها، بعد أن أغلقت بلاد الصحراء أبوابها المشرّعة، فغدا المواطنون الفقراء من فرط فراغهم شيوخاً وملاليون يشرعون ويفتون لهذا وذاك، الأمر الذي استغله عملاء أمريكا بتمهيد من السلطة المتخاذلة لتقييد الناس وتنهيمهم إلى المال وتنسيتهم لأنفسهم، ومن ثم تسهيل استغلالهم كما فعل رجال الصحراء وبالتالي تحوينهم (حيونة الإنسان)، حسب ممدوح عدوان.



لو نراقب جيداً نهايات جميع الحكايا التي وردت في الرواية، نجد أن الراوي ينهيها بالثورة على تلك الخرافات وعلى كل ما يقولب العقل ويصقله بالأصفاد المشتتة للذهن والوعي، كما أن لحكايا سقوط المطر مع الحنين الممثل بشخصية ورد ثورة على الغبار الذي خلفه فقهاء الصحراء «المطر يغسل العقل والحنين يغسل القلوب»، أما هوس البطل في البحث عن العيون العسلية  فمرده أنّه يريد أن يعيد البهجة والحياة التي افتقتدها البلدة بعد وصول وصايا الغبار.



شخصيةُ البطل شخصيةٌ مشتّتةٌ واعيةٌ لذاتها وما حولها، تعيش في عوالمها الداخلية ابتغاء الهروب من الواقع الممض، فيخال للقارئ أنّه شخص سكران ثرثار، لكنه متيقظ في الآن ذاته، يبحث من عالمه في العوالم الماورائية الغيبية التي تقود العالم الواقعي، يراقب بعينين دائرتين كل ما يلفّه، وينأى بنفسه من الانقياد وراء الخرافات والأساليب التي تبعد الإنسان عن نفسه.



في الفصول الأخيرة «صانعة الحكايا» و «تالة 1 – 2 – 3)، يدخلنا الكاتب في عوالم خيالية تشبه عوالم التي رسمت في المدونات الميثولوجية والدينية، بلغة شاعرية قريبة من القلب، بعيدة عن العقل، قبل أن تنتهي الرواية بإظهار الراوي في غرفة المطبخ، يستيقظ من أوهامه ويفتح عينيه على الواقع القاسي، الذي لم يجد فيه سوى عيوناً رمادية ومعيشة سوداء.



هكذا هي هذه الرواية، قصص داخل قصص، وحكاية تقود إلى أخرى، كثيفة بالمشاهد الإيروتيكية، تتراوح بين القنص المباشر لالتقاط الخفايا وبين المراوغة من خلال السرد الساخر للحكايا.



تتميّز لغة صاحب الغرانيق بأنها سهلة الممتنع، ساخرة وفكاهية، تتناص مع لغة «محمد الماغوط»، بإنسيابتها ودقتها في وضع اليد على الجراح، وتتلاقى أفكاره في هذه الرواية مع فكر «عبد الله القصيمي» في محاربتهما لوصايا الغبار وعقلية الصحراء، وكأن مازن عرفة يريد أن يقول كما قاله القصيمي من قبل «هذي هي الأغلال، هذي هي أغلالنا».


الاسمبريد إلكترونيرسالة